الصحراء المغربية بين واقع الأمن القومي وآفاق المجال الحيوي

تعد قضية الصحراء المغربية من أعقد النزاعات التي خلقها و خلفها الاستعمار لتشتيت الشمل العربي، كما أنها تعد من أصعب التحديات التي تواجهها الدبلوماسية المغربية في المحافل الدولية، بل إنها تشكل العقدة السياسية المعيقة لبناء المغربي العربي، ناهيك عما تخلقه من مشاكل معيقة للتنمية المجالية و البشرية على الصعيد الوطني بوجه عام، و بالتالي يمكن اعتبارها المشكلة المزدوجة الأبعاد بتأثيراتها سواء على توجهات السياسة الخارجية العامة، أو على رهانات السياسة العمومية الداخلية التي تناشد التنمية المستدامة للرقي بالوطن و الأمة،  و بالتالي فمن الطبیعي أن تكون ذات أبعاد سیاسیة عدیدة، و أثار ھامة سواء على الأمن الوطني للدولة أو القومي للأمة المغربية.

ارتباطا بهذا فمن الضروري التساؤل عن الطرح الذي يتبناه  الفاعل الدبلوماسي و المكون السياسي في تعامله مع هذه التحديات؟، دونما إغفال ما يفرضه الواقع الدولي من ضغوطات مختلفة الأبعاد و متعددة الآليات، لما للمغرب من موقع استراتيجي يربط شرق الكرة الأرضية بغربها و شمالها بجنوبها، يضاف إلى هذا يمثله انفتاح المغرب على المحيط الإفريقي كتوجه جديد يناشد إحياء الدور التاريخي القديم للمملكة تجاه إفريقيا، ولعله تحد كبير لمن ينظر للقارة السمراء، إما كوعاء للموارد البشرية و المواد الأولية الزهيدة، أو كسوق تجارية مربحة، و هي حالة الدول الاستعمارية التقليدية، أو كفضاء لترويج أطروحات سياسية مستهلكة، من قبيل الزعامة التحررية و هو ما تمثله الحالة الجزائرية و من يدور في فلكها؟.

فإذا كان الأمن القومي المغربي یستھدف حمایة الكیان الوطني مما یھدده من أخطار وتحديات،  فإن ذلك یستلزم تعبئة وتطویر قدرات الأمة البشریة والاقتصادیة والعسكریة تحقیقا للتكامل والانسجام المجتمعي  والتنمیة الاقتصادیة،  حيث تمثل حالة الاستقرار التي ينعم بها الوطن عنصرا أساسیا من عناصر الأمن الوطني والقومي، لكونه یجعل البلاد بعیدة عن التأثیرات الخارجیة وتفاعلاتھا السلبية،[1] ، بل إنه يمثل معطى أساسيا ينبغي على الفاعل الدبلوماسي استغلاله و استثماره في السياسية الخارجية العامة للدولة لما فيه صالح القضية الوطنية، و نفس القاعدة تسري على المكون السياسي الحزبي و باقي هيئات المجتمع المدني في تفاعلهما و تعاملهما مع قصية الصحراء سواء  داخل الوطن أو خارجه.

  فالصحراء المغربية لا تمثل أهمية إستراتیجیة في الأمن القومي المغربي فحسب، بل لكل الدول المغاربیة على السواء، نظرا للامتداد الجنوبي للمغرب نحوصحرائه بواجھة بحرية عریضة على المحیط الأطلسي من جهة ، و من ناحية أخرى بتحكمه بالمدخل الشمالي للبحر المتوسط،  وھذا بحد ذاته یشكل أھمیة جیو- ساسیة نادرة في الحسابات الدولیة، و بالتالي فإغفاله في التعامل مع ملف الصحراء سواء في المحافل الدولية، أو على الصعيد الداخلي يشكل خطأ قد يصعب التنبؤ بنتائجه و آثاره.

ومن هذا المنطلق نسجل ما يلي:

إن استغلال معطى الموقع الإستراتيجي للمغرب سيقوي من مكانته الدبلوماسية،  ليفرض نفسه كفاعل بارزو ذو وزن في علاقاته و روابطه مع دول الجوار الأوروبي، سواء منها السیاسیة والعسكریة و الاقتصادية،  خاصة و أنه يواجه من عين المكان الغرب الأمريكي. إن استغلال الموقع الاستراتجي للمغرب في السياسة الخارجية يبقى رهانا سياسيا يجب السعي من وراء ربحه. إن موقع الصحراء البحري له أھمية كبیرة یمكن توظیفھا لتعزیز الأمن القومي، حيث أن العنصر الجیو- سیاسي المتمثل في المساحة الجغرافیة وما تحتویه من موارد اقتصادیة، وتنوع مناخي، وتداخل ثقافي، وتكامل سكاني یوفر مزایا كثیرة للأمن، سواء كانت اقتصادیة أو عسكریة.

وإذا كان للموقع الاستراتجي دوره في تقوية السياسة الخارجية للدولة، فدول الجوار الأوروبي تبني سياستها المعتمدة تجاه  المغرب باعتمادھا على إستراتیجیة الابتزاز السياسي قصد تحقيق أهداف مصالحها،  موظفة في ذلك استغلال المشاكل الحدودیة الموجودة، ومنھا مشكلة الصحراء و غيرها، وهو ما يجد تفسيره في حالة الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الأوروبية فيما يتعلق باتفاقية الصيد البحري بين المغرب ودول أوروبا، و هذا الأمر لن يتأتى إلا بوجود هوة سياسية يتحرك من خلالها الغرب لتفعيل سياساته الابتزازية تجاه المغرب، و بالتالي فتغافل أو سماح الفاعل الدبلوماسي بهذا الفراغ، هو الذي أنتج و أفسح المجال أمام هذا التجاذب الدولي الخارجي، الذي يستهدف الإبقاء على  حالة عدم الاستقرار خدمة لمصالحه الإستراتيجية، و التي وظف لأجلها آليات متعددة تتعدى ما هو سياسي اقتصادي و عسكري، إلى ما هو ثقافي حضاري يستهدف الإخلال بالإجماع الوطني و التماسك المجتمعي، و هو يمثله ظھور برامج  ثقافية ممولة من قبل الغرب، هدفها خلق قومیات واعدة تحمل في ثنایاھا عملیة رسم حدود نفسیة، وسیاسیة، وإیدیولوجیة لبعض مكونات المجتمع المغاربي ككل، و ليس المغربي لوحده، وتلك هي أعلى مراحل الإمبريالية، بتقسيم المجتمع الواحد المتعدد الثقافات و الحضارات، و المتنوع الأعراق،  إلى تيارات قومية بإيديولوجيات فكرية متصادمة، وبالتالي فقضیة الصحراء لیست عملیة استقلال صحراوي عن المغرب، وإنما ھي عملیة یقصد بھا الإبقاء على حالة الاختلاف والتجزئة وتكریس حالة الخوف على الكیانات القائمة.

و بالعودة إلى مجموعة من المتغیرات على الساحة الدولیة التي عرفها العقد الأخير من القرن الماضي، و بداية القرن الحالي، و التي تركت آثارھا المباشرة، لیس على مشكلة الصحراء المغربية فقط، وإنما على العدید من المشكلات العربية والعالمية الأخرى ، بحيث يبقى إنھیار الاتحاد السوفیتي عام 1991م، و أحداث 11 سبتمبر عام 2001م،  و ما أعقبها من أحداث ما بات يطلق عليه بالربيع العربي عربيا،  و بالفوضى الخلاقة أمريكيا،  من أهم تلك المتغيرات.

 فإذا كان لتراجع النفوذ السوفيتي في المنطقة المغاربية أثاره وانعكاساته على مواقف الأطراف المباشرة في النزاع، وخاصة الجزائر ولیبیا، فأحداث "الربيع العربي" أفرزت فراغا سياسيا وخلقت حالة من عدم الاستقرار في ليبيا بعد سقوط نظام القدافي، و لعل هذه التطورات مجتمعة، هي التي تفرض على الفاعل الدبلوماسي و السياسي المغربي، التفكير بعمق في توسيع و تأمين المجال الحيوي للوطن لما يتوافق وخدمة مصلحة قضية الصحراء المغربية، سواء في العمق العربي الإفريقي، أو في عمق إفريقيا السمراء جنوب الصحراء، خاصة بعد تراجع الدورين الليبي و الجزائري في القارة،  و بالتالي فحاجيات المغرب إلى مجال حيوي واسع بات من الضروريات التي تفرضها التوجهات الجديدة للدولة، خاصة بعد رجوع المغرب لشغل مقعده في الإتحاد الإفريقي، و بعد ما عرفته القضية من تطورات عابرة رغم كونها لا تمس بجوهرها، إلا أن أعداء الوحدة  الترابية يستغلون الترويج لها كنجاحات سياسية لأطروحات انفصالية، قصد تحجيم وزن الدبلوماسية المغربية في تعاملها مع ملف الصحراء المغربية.

و لعل ما يؤسف له في هذا المجال ما يروج له البعض، من مثقفي و سياسي الوطن،  في كونهم يراهنون على  الغرب، بادعائهم أنه يحترم سيادة ووحدة الدول، و أنه لا يدعم الفكر الانفصالي، بدليل رفضه لاستقلال  إقليم كاتالونيا، لتنافيه مع القانون الدولي الذي يؤكد على وحدة و سيادة الدول من جهة، و من ناحية أخرى باعتبار دول العالم برمتها مناهضة للفكر الانفصالي، وفي هذا الصدد نتساءل عن المسئول الذي خلف و خلق لنا مشكلة الصحراء؟ و من الذي يبتز وطننا في كل لحظة و حين من أجل مصالحه على حساب وحدة وطننا و أمتنا بعناوين شتى؟ و في خالة العكس، فكيف سنفسر القرار الأخير لمحكمة العدل الأوروبية في اتفاقية الصيد البحري المبرمة مع المملكة المغربية؟، فكثيرة هي الأسئلة التي يطرحها الترويج لمثل هكذا أفكار، و بالتالي فأجوبتها تبقي من الواجبات الملحة على القائلين بالطرح السالف.

وختاما فمشكلة الصحراء المغربية تبقى من مخلفات الماضي الاستعماري، التي عرقلت تنمية الوطن برمته، و أحرجت الدبلوماسية المغربية بتداعياتها المختلفة، و بالتالي بات لزاما على الفاعل السياسي التفكير و بعمق في آليات جديدة و فاعلة من شأنها احتواء هذه المشكلة المفتعلة، بحيث يبقى توسيع المجال الحيوي المغربي و تأمين الأمن القومي  للمملكة من أولوياتها، و ذلك بدعم التوجه المغربي  نحو إحياء دوره التاريخي في إفريقيا، و بدعم موقفه من قبل الفاعل الاقتصادي الوطني في تفاوضه مع الغرب، و ذلك إما ببناء شراكة اقتصادية متكافئة يغيب فيها منطق الابتزاز، أو البحث عن شركاء دوليين آخرين يحترمون سيادة و وحدة الوطن والأمة المغربية، و هو المنطق الذي يفهمه الغرب جيدا.

  من هذا المنطلق، فقد أصبح لزاما التعامل مع مشكلة الصحراء بحزم وتكاثف، وذلك بتفعيل  دور المجتمع المدني من جمعيات و أحزاب  و غيرهما من المؤسسات و الهيئات للقيام بواجبها الوطني و الاجتماعي لصون الوحدة الوطنية و القيم الحضارية المغربية الراسخة، و ذلك بتشجيع المراكز البحثية في كل أرجاء الوطن قصد القيام بدورها في الترافع عن القضية الوطنية وطنيا و دوليا، مع إبراز التراث المغربي الأصيل، و صون قيمه و نشرها بين أفراد المجتمع، وذلك بالتشبيك بين مختلف المراكز و المنظمات المغربية و العربية و الدولية قصد تمكين شعوب العالم من التعرف على المغرب، بلدا موحدا شعبا و أرضا، بتقاليده و أصول حضارته الراسخة القائمة على التنوع الثقافي و العرقي عبر تاريخه التليد.

---------------------

هوامش:

1- حسین المجدوبي، ملف الصحراء في استراتیجیات الدول الكبرى، مجلة وجھة نظر،العدد 28 سنة 2006 ،ص .19

وسوم: العدد 766