يا علماء الإسلام

عندما أريد أن أخاطب علماء الإسلام أُواجِهُ إشكالاً في تحديد مفهوم "العلماء"!. فهل علماء الإسلام هم خطباء المساجد، أم حَمَلَةُ شهادات المعاهد الشرعية وكليات الشريعة، أم هم أساتذة كليات الشريعة؟ أم هم المعروفون بين الناس بأنهم شيوخ وعلماء؟! وأيّاً ما اخترنا من تعريف فسنجد عليه قيوداً واستدراكات، ونجد له استثناءات.

وتسهيلاً للأمر سنَعُدُّ كلَّ مَن يُعرَف بين الناس أنه شيخ أو عالم، مقصوداً في الخطاب. وأرى من المناسب أن نُلحِقَ بهم فئة ليست منهم وإنما يجمعها بهم العلم بالشريعة، على نحو من الأنحاء، مثلما عرّف علماء الحديث السنّةَ بأنها: كل ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، ثم ألحقوا بها الموقوف والمقطوع، وهما من قول الصحابي وفعله، وقول التابعي، وهذان ليسا مما أضيف للنبي صلى الله عليه وسلم.

وعليه فسأقسم العلماء إلى ثلاث فئات، ثم فئة ملحَقَةٍ بهم:

الفئة الأولى: وهي تشمل معظم العلماء، وتضمّ مَن كان زاده من العلم وافراً، وغلب عليه الصلاح والاستقامة، وعنده درجة من الوعي والجرأة في قول الحق.

والفئة الثانية: وهي تشبه الفئة الأولى في كثير من الصفات، لكنها تُؤْثر السلامة فتسكت عما يُغضب السلطان وأصحاب النفوذ، وتكتفي بالمواعظ الحسنة، وبيان مزايا هذا الدين وبعض أحكامه، وكثيرٍ من الرقائق ووجوه إعجاز القرآن وبلاغته... لكنها لا تصل إلى درجة التملّق والمداهنة والنفاق.

والفئة الثالثة: وهي فئة ضئيلة العدد، عظيمة الضرر والفتنة، باعت دينها بعَرَضٍ من الدنيا، ورضيتْ لنفسها أن تكون مطيّة للظالمين، تُزيّن أعمالَهم، وتلتمس الحجج الشرعية لمظالمهم، وتصف المؤمنين الذين يقارعون الظلم بأنهم بغاة أو خوارج أو أعداء للوطن، وأن جباههم لم تعرف السجود لله!.

وأفراد هذه الفئة مرشَّحون، أكثر من غيرهم، لشَغْل منصب وزير الأوقاف أو مفتي الجمهورية... أو لتقديم حلقات تلفزيونية.

والفئة الرابعة: وهي الملحقة بعلماء الإسلام. إنها تضمّ متخصصين ببعض العلوم الشرعية، ويسخّرون علمهم في الطعن بالإسلام، والتشكيك في السنّة النبوية وفي صلاح هذا الدين لحكم الحياة في القرن العشرين أو القرن الحادي والعشرين... وهؤلاء "العلماء" ممن لا يصلّون ولا يصومون، ويأخذون "أجرهم" من بعض الدوائر الاستخباراتية، وقد يتربّعون على كراسيّ علمية، يُشرِفون بها على منح شهادات الماجستير والدكتوراة في بعض العلوم الشرعية.

بل لا يَبْعُدُ أن نَعُدَّ من هؤلاء بعضَ المستشرقين ممن لا ينتسب إلى الإسلام، ولو في الظاهر، بل قد يتحلّى بعض المستشرقين بالإنصاف، مما لا يتمتّع به أفراد هذه الفئة.

* * *

وغنيّ عن البيان أن أفراد كل فئة من الفئات يتفاوتون في درجات العلم والجرأة والنزاهة والفصاحة والبيان... وأن هذا التقسيم ليس حدّيّاً، فقد تجد عالماً من إحدى الفئات وفيه بعض صفات علماء فئة أخرى.

* * *

والآن أبدأ بخطاب علماء الفئة الأولى، فهم الأكثر عدداً، والأكثر قَبولاً عند عموم الناس، وهم الذين نحسَبُ أنهم الأقرب إلى الله تعالى.

يا علماء الإسلام، أنتم أمل الأمة، وحاملو لواء العلم فيها، فاتقوا الله فيما حمّلكم من أمانة. ولعلّ أهمّ ما ينبغي أن تحرِصوا عليه:

- أن تراقبوا الله تعالى فيما تقولون، وفيما تفعلون، وفيما تدْعون إليه، وفيما تَدَعون.

- أن تكونوا مُثُلاً في التزام أحكام الإسلام، بقدر استطاعتكم، في سلوككم وفي سلوك أهليكم، فالناس لكم تبعٌ في ذلك، وأنتم في نظرهم حجة للإسلام إن اتّقيتم الله، وحجّة عليه إن خالفتموهم إلى ما تنهونهم عنه، وكما قيل:

يا رجال الدين يا ملح البلد     ما يُصلحُ الملحَ إذا الملحُ فَسَد؟

- أن تبذلوا جهدكم في نشر الإسلام وعلومه، وفق ما كان عليه جمهور علماء الأمة في مختلف أجيالها، مع تجنّب أسباب الشقاق والخلاف، سواء في فروع العقيدة أو في فروع الفقه، فليس من الخير إثارة النعرات في المسائل الخلافية. وليكن شعاركم: نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه. ولنتذكر كلمة الإمام الشافعي لتلميذه يونس بن عبد الأعلى: ألا يصحّ أن نختلف ونبقى إخواناً؟.

- أن تحصّنوا شباب الأمة من الغلوّ ومن القصور، في الفكر وفي السلوك.

- أن تقولوا الحق وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، وتراعوا في ذلك الأهمّ فالأهمّ، وتَغضبوا لله بقدر ما ترون الفعل أشد إغضاباً لله. ولستُ أطلب أن يكون كل منكم كسعيد بن جبير وأحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام وسيّد قطب... ولكن، كما تعلمنا منكم:

إن لم تكونوا مثلهم فتشبَّهوا     إن التشبّه بالكرامِ فلاحُ

* * *

وندائي إلى علماء الفئة الثانية: أترون يا سادتي أن الحديث عن حبّ الله تعالى، وعن الخشوع في الصلاة يُعفيكم من تحذير الأمة من كبائر الإثم والفواحش؟ أم تحسَبون أن إشاعة الكبائر في المجتمع وحمايتها وتقنينها ونشر ثقافة تروّجها كالرّبا والخمر والميسر والزّنى... وتنحية شريعة الله عن حكم المجتمع... هي أمور ثانوية لا تستحق منكم البيان والتحذير؟ ألم تقرؤوا قول ربنا سبحانه: (إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّناه للناسِ في الكتابِ أولئكَ يلعنهم اللهُ ويلعنهم اللاعنون، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا، فأولئك أتوب عليهم، وأنا التواب الرحيم). {سورة البقرة: 159 و160}.

ولعلّ بعضكم يثور ويتعصب ويجهد في إيراد الأدلّة على جواز، أو على منع، الاحتفال بالمولد النبويّ، وعلى مشروعية المسح على الجوربين، وعلى جمع الصلوات بعذر المطر، أو على عدم جواز هذا أو ذاك... لكنه يسكت عن محاربة الدعاة إلى الله، وعن سجنهم أو تشريدهم، وعن قصف الآمنين بالبراميل المتفجّرة والقنابل الحارقة... لأن الحديث في هذه الشؤون وفي إشاعة الكبائر التي ذكرناها قبل قليل، هو من السياسة التي لا يليق بعالم الدين أن يتدخّل بها؟!.

* * *

وندائي إلى الفئة الثالثة: أيكون إرضاء الحاكم عندكم أهمَّ من إرضاء الله؟!. بل أتجوِّزون إرضاءه بسخط الله؟. لقد كان علماء الأمة يحذّرون من التقرّب إلى السلطان، حين كان السلطان كهارون الرشيد، فكيف إذا كان السلطان لا يحتكم إلى شرع الله؟!. وما أجمل ما كتب الإمام عبد الله بن المبارك لإسماعيل بن عُلَيّة، حين وَلِيَ ابن عُليّة القضاء؟ كتب له أبياتاً فيها:

يــــــا جــاعـــــل العلـــــم له بـــازيـــاً     يصــطــاد أموال المساكينِ

أيـــــــن روايـــاتــك في ســـــرْدهــــا     لتـــــركِ أبــواب الســـــلاطيـــن

إن قلتَ: أُكْرِهتُ فهذا باطل     زَلَّ حمارُ العلم في الطين

* * *

وندائي إلى الفئتين معاً الثالثة والرابعة (الملحقة بالعلماء):

أدعوكم إلى مراجعة ما أنتم عليه، والعودة إلى الله تعالى، وإلى التوبة وبيان الحق، وأن تذكروا أنكم واقفون يوماً بين يدي الله، يوم لا ينفعكم سلاطينكم، يوم تقولون لهم: (إنّا كنّا لكم تَبَعاً فهل أنتم مُغْنون عنّا من عذاب الله من شيء؟).

وإنكم قد علمتم من الإسلام ما تقوم به الحجّة عليكم، فهلّا اهتديتم؟ وهلّا عملتم بما علمتم؟ نسأل الله الهداية لنا ولكم.

وسوم: العدد 766