التقارب بين الكوريتين إرادة كورية حرة أم إملاء الكبار ؟
ما كادت وسائل الإعلام تنشر لقطاء اللقاء بين زعيمي الكوريتين على الحدود بينهما حتى سارع البعض إلى إجراء مقارنة بين الكوريتين والبلاد العربية التي توجد بين أقطارها قطيعة وإغلاق الحدود منذ عقود . وقد نشرت قناة الجزيرة القطرية من ضمن ما نشرت في تقرير عن اللقاء بين زعيمي الكوريتين صورة للنقطة الحدودية "زوج بغال "أو "العقيد لطفي "المغربية الجزائرية ، وهي موصدة منذ سنين عددا . وقد جاء نشر هذه الصورة في سياق الحديد عن خلاف الكوريتين الذي كان الاعتقاد السائد عنه أنه خلاف مستعص على الحل إلى عهد جد قريب، بل كان التصعيد في شبه القارة الكورية على أشده، ومع ذلك وقع الانفراج ،وتم الاتفاق بين الجارين بعد شدة عداوة وطول قطيعة ، في حين لا زالت كثير من الحدود بين أقطار عربية موصدة ، والقطيعة مستمرة لعقود والعداوة مستحكمة .
ولقد كان من المنتظر أن تحصل ردود أفعال من هذا القبيل لدى المواطن العربي الذي يتجرع من المحيط إلى الخليج مرارة الخلافات بين الأنظمة العربية، والتي تنعكس على الشعوب العربية سلبا ، وهي التي تدين بدين يجعل العلاقة بينها شرعا علاقة أخوة ، ويمنع الفرقة بينها ، ويعتبرها بمثابة الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى . ولقد بلغ الأمر بهذا الجسد الواحد أن انقطع التواصل بين أعضائه، فلم يعد يوجد تداع ولا سهر ولا حمى ، وكل أعضائه تشكو.
ويعذر كل عربي استشعر الغصة والكوريتان يقع بينهما انفراج ولا انفراج في المقابل بين أقطار" عربستان " ، ولكن السؤال الذي يجب أن يطرح قبل الانبهار بالتقارب بين نظامين على طرفي نقيض في شبه القارة الكورية هو هل التقارب الحاصل بينهما إرادة كورية محضة أم أنه إملاء قوى كبرى تصول وتجول في هذا العالم أنى تشاء ، تشعل الحرب متى تشاء ،وتوقفها متى تشاء وحيثما تشاء ، وتقطع العلاقة بين الدول متى تشاء ، وتعيدها متى تشاء ؟
يبدو أن القوى الكبرى والتي تتقاسم التحكم في هذا العالم البائس وفق مصالحها الاقتصادية قد أملت على النظامين في شبه القارة الكورية التقارب فيما بينهما ، وإنهاء التوتر فيها لأن مصالح هذه القوى اقتضت ذلك . ولقد لوح الرئيس الأميري قبيل اللقاء بين زعمي الكوريتين بأنه سيجتمع قريبا بزعيم كوريا الشمالية . ومن المؤكد أن اللقاء الأمريكي الكوري الشمالي قد مهد له لقاء زعيم الكوريتين أولا ، وأن هذا القرار إملاء أمريكي روسي صيني حتى يستقر الوضع في المنطقة الأسيوية لتدار المصالح المتبادل بشكل طبيعي ما دامت المنطقة العربية في الشرق الأوسط مشتعلة ومؤهلة للمزيد من الاشتعال .
وإذا كان التقارب بين الكوريتين صناعة كبار هذا العالم ، فمن ذا الذي يستطيع أن يشكك أو ينكر بأن القطيعة بين الأقطار العربية هي الأخرى صنيع هؤلاء الكبار الذين يتصرفون في هذا العالم وفق مصالحهم الاقتصادية التي تقوم أساسا على إشعال الحروب وتدمير الأوطان للحصول على صفقات بيع الأسلحة ، وصفقات إعادة بناء ما يتم تدميره ؟ ولقد تأكد من خلال ما حدث في الكوريتين أن قرار إغلاق الحدود وفتحها بين الدول يصنع في عواصم الدول الكبرى بناء على مصالحها الاقتصادية . ألم يكن بإمكان الكوريتين التقارب قبل اليوم ؟ وما الذي جد حتى تتحول العداوة بينهما في عشية وضحاها إلى أخوة ؟ وما الذي حدث في منطقة الخليج حتى حلت القطيعة بين قطر وشقيقاتها بعد أخوة ومجلس تعاون سوى زيارة الرئيس الأمريكي الذي ما كاد يغادر بغنيمة القرن ـ والتي قال عنها البعض أنه استرد بها أضعاف ما قدمه النصارى من جزية للمسلمين عبر التاريخ ـ حتى عزلت قطر وحوصرت جوا وبرا وبحرا من طرف شقيقاتها في مجلس التعاون الخليجي ، ولم يكن بطبيعة الحال القرار خليجيا بل كان إملاء أمريكيا متفقا عليه مع بقية الكبار في إطار احترام المصالح وتبادلها بينهم . ولا زال الرئيس الأمريكي يحلب الضرع الخليجي بنهم ، وهو يوشك أن يحلب منه بعد اللبن دما . وتصاحب عملية الحلب الإهانة ، والتهديد بأنه دون الحماية الأمريكية لن يستمر حكم ملوك الطوائف في الخليج أكثر من أسبوع . وعلى قدر التهديد الأمريكي يؤدي هؤلاء الجزية وهم صاغرون مقابل حمايتهم.
والكبار الذين أوتوا من كل شيء ولهم عرش عظيم ، والذين بأيديهم مفاتيح ومغاليق كل شيء هم الذين قرروا فرض التطبيع على العرب مع عدوتهم إسرائيل ، وهو تطبيع جار على قدم وساق . والكبار الذين حولوا العداوة بين الكوريتين إلى أخوة قادرون على تحويل العداوة بين العرب وإسرائيل إلى صداقة أو حتى إلى أخوة خصوصا وأن الطرفين معا من سلالة سام ، تماما كما أن الطرفين الكوريين من سلالة بوذا .
ولا شك أن قرار الكبارتوخى خفض التوتر في الكوريتين، الشيء الذي يعني رفع درجته في منطقة الشرق الأوسط لتحقيق الحلم الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط ، وهو حلم مرتبط بطبيعة الحال بمصالح الكبار التي تتوقف عليه بالضرورة كما خطط لذلك قبل قرن من الزمن هؤلاء الكبار . وخلافا لما ذهب إليه هنري كيسنجر تاجر الحروب حسب بعض وسائل الإعلام لن تكون هناك حرب عالمية ثالثة بين الكبار( أمريكا وروسيا والصين) ، ولن تكون انطلاقا من إيران كما زعم ، لأن مصالح الكبار تأبى ذلك ، وكل ما في الأمر هو التمويه على تقارب سري إيراني صهيوني في منطقة الشرق الأوسط الغرض منه تمكين الأنظمة الخليجية وبعدها باقي الأنظمة العربية من ذريعة التطبيع مع الكيان الصهيوني ، وابتلاع جمرة ما يسمى بصفقة القرن التي يراد بها تصفية القضية الفلسطينية لصالح الاحتلال الصهيوني ، ذلك أن الكبار الذين كلفوا الزعيم الكوري الشمالي بلعب دور المشاغب في المنطقة الأسيوية ثم المسالم بعد ذلك ، كلفوا الفقيه الولي الشيعي بلعب دور الشغب في منطقة الشرق الأوسط ليساق ملوك الطوائف الخليجيون منبطحون إلى بيت الطاعة الصهيوني خصوصا مع تهديدهم بأن ملكهم قد يزول في أقل من أسبوع بسبب التهديد الإيراني . وضحكا على الذقون كما يقال قصفت إسرائيل مطار" التيفور" العسكري ، في سوريا ، وقدمت فيه إيران ضحايا بل قرابين ، وعوض الرد على الهجوم وقواتها منتشرة على الأرض السورية تذبح المدنيين السنة العزل ،اكتفت بالتهديد والوعيد برد قاس لن يحصل أبدا حتى يلج الجمل في سم الخياط. والواقع أن الكبار هم من قرر الضربة الجوية الصهيونية ، وقرر عدم تجاوز الرد الإيراني عليها بالوعيد الإعلامي . والذي ساق إيران إلى اتفاق إيقاف مشروعها النووي ، هو من يقرر مصيرها متى شاء وأنى شاء . أما التلويح الأمريكي بالخروج من هذا الاتفاق ، وتظاهر الأطراف الغربية بمراجعة الإدارة الأمريكية في قرارها ، والتلويح بتعديل الاتفاق، كل ذلك من قبيل المسرح الهزلي المكشوف . إن ما قرره الكبار قد تقرر ، والتنفيذ المرحلي لما تقرر سار على قدم وساق ، ولله الأمر من قبل ومن بعد .
وسوم: العدد 770