صمَتَ علماؤنا… فتكلم «الشيخ» أفيخاي

«أيها العلماء الأشراف، أَعْلِموا أُمَّتكم ومَعَاشِر رعيَّتكم بأن الذي يُعاديني ويُخاصمني إنما خِصامُه من ضلال عقله وفساد فِكْره، فلا يجد ملجأً ولا مُخلِّصاً يُنجيه مني في هذا العالم، ولا ينجو من بين يدي الله لمعارضته لمقادير الله سبحانه وتعالى، والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله تعالى وإرادته وقضائه».

لم يصدُر هذا الخطاب عن عالم دين يتكلم في أمور العامة، ولا عن أحد حكام المسلمين يريد سوْقهم بالوعظ الديني، وإنما هو جزءٌ من منشور نابليون بونابرت إلى شعب مصر إبّان الاحتلال الفرنسي، يرتدي ثوب الواعظ ويتحدث في العقيدة الإسلامية، ويستشهد بآيات القرآن، لتطويع المصريين والرضا بالوجود الفرنسي، من دون إبداء مقاومة، وإلا فهم معارضون لقدر الله، وفق النظرة الاستعمارية لنابليون.

مرة أخرى ينطلق أحد ذئاب الكيانات الاستعمارية التي ترتدي ثوب الوعظ الديني، وهذه المرة يبرز المدعو أفيخاي أدرعي الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي للإعلام العربي، الذي لا يتوانَى في كل مناسبة تخصّ المسلمين والعرب عن الإدلاء بدلْوِه فيها، ولا يُثنيه سيل السباب والشتائم التي يتلقاها من الجمهور العربي عن مواصلة جهوده في التسلل إلى الشباب واستمالتهم عبر الخطاب العاطفي والتلبيس على المسلمين باستحضار آيات القرآن والأحاديث النبوية، بل أقوال كبار علماء الأمة، وَلَيِّ أعناقها وتوجيهها بما يُناسب المصالح الصهيونية. آخر ما رأيت من مواعظ «الشيخ» أفيخاي، كان ذلك المقطع الذي ظهر فيه والمسبحة في يده، وهو يستهل حديثه بإلقاء السلام تحية أهل الإسلام، وهو يُشير إلى أن الحديث سيكون عن فضائل يوم الجمعة، فلو رأيت فكأنك بإمامِ مسجدٍ يُمهّد لإلقاء محاضرة. ويبدأ أفيخاي أدرعي بحديث نبوي (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة)، ولم يفته أن يذكر تخريج الحديث الذي رواه مسلم، إظهارًا لاهتمامه بالعزْوِ والإسناد من أجل مزيد من التعمية والتلبيس. ثم يبدأ المتحدث باسم جيش الاحتلال في استغلال الحديث النبوي لأهدافه الصهيونية، بإبراز دور حركة «حماس» في تحويل يوم الجمعة من جمعة (عمل وخير) إلى جمعة شغب وعنف وإرهاب، ويعني بذلك فعاليات يوم الجمعة في سياق مسيرة العودة، وأورد قول الله تعالى «فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» للاستشهاد بها على أنه يوم عبادة وابتغاء للرزق وذكر لله، حوّلته «حماس» إلى يوم عنف وشغب. الشيخ أفيخاي أفتى ضمنًا بتكفير حركة «حماس» بقوله (الذين يدّعون الإسلام)، وجعلهم من المفسدين في الأرض مستشهدا بقول الله «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ». ثم اختتم أفيخاي أدرعي موعظته بالتحذير من استخفاف «حماس» بمستقبل الشعب الفلسطيني ودينه الحنيف.

في نموذج نابليون نجد أنه سلك هذا المسلك اعتمادًا على الجهل السائد بين المصريين في تلك الحقبة، حيث انتشرت خرافات وخزعبلات بعض الطرق الصوفية، وشاع التواكل وترك الأخذ بالأسباب والخلل في فهم عقيدة القضاء والقدر، وذلك كله قد بسّط المؤرخ الجبرتي دلالاته في كتابه «عجائب الآثار». أما نموذج الناطق باسم جيش الاحتلال، فإنه لم يستغل الجهل فحسب، وإنما استثمر هيمنة التطبيع مع الصهاينة على أنظمة الحكم العربية، التي نتج عنها صمت العلماء، صمت القبور، حِيال مشروعية دفاع الفلسطينيين عن أرضهم حتى لا تُلاحقهم تُهم دعم الإرهاب والدعوة إليه، وأفتى بعضهم بضلال حركة «حماس» تماهيًا مع اتجاهات الحكام الذين رأى بعضهم أن للصهاينة الحق في العيش على أرضهم (التي اغتصبوها) في سلام. فلماذا لا يُكفر أفيخاي أدرعي حركة «حماس»؟ ولماذا لا يتحدث بالآية والحديث طالما أن علماءنا كتموا ما أنزل الله، فتركوا المجال لأمثال هذا الصهيوني بالحديث في دين المسلمين؟ لماذا لا يوضحون للناس أن الدفاع عن الأرض ضد الغاصب المحتل فريضة؟ لماذا لا يقولون للناس أن الصهاينة عدو صائلٌ ينبغي دفعه؟ لماذا لا يردّون على أفيخاي أدرعي، الذي يُحرّم على الشعب الفلسطيني نضاله يوم الجمعة، بأنه لو قاتَلَنَا الأعداء ولو في البيت الحرام لكان علينا دفْعهم «وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ»؟

لماذا لا يقولون لأفيخاي وأمثاله أن المُفسد في الأرض هو الذي يحتل دولة ويقتل شعبها ويغتصب خيراتها بدعوى ملكيتها، وليس المفسد هو من يدافع عن أرضه ويمارس ذلك الحق الذي نصّت عليه الأديان السماوية والمواثيق الدولية. ولماذا لا يقولون لأفيخاي أن القرآن الذي يلوي عُنقه شرع لنا القصاص «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ»؟

أنا لا أُحوّل قطعًا المساحة المخصصة لمقالتي إلى استعراض فقهي، ولكنه طالما تكلّم عدونا الصهيوني بقرآننا وأحاديث نبينا، فلا يسعنا إلا الرد عليه من جنس ما تكلم به. لقد انعكست آثار التطبيع، الذي بلغ اليوم ذروته على المؤسسات الدينية الرسمية في الدول العربية، فكانوا شركاء للحكام في بيع القضية الفلسطينية، بعضهم شريكٌ بصمته، والبعض الآخر شريك بتجريمه المقاومة، فتركوا أسماع الأمة ليسْكب فيها أفيخاي وأمثاله الدناءات، فلا عذر لهؤلاء أو هؤلاء، ألا فليستقيموا أو فليستقيلوا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 771