ما هو السر وراء تنامي الدعوات الضمنية والصريحة للتهوين من شأن التدين في في بلادنا وغيرها من بلاد المسلمين؟

من اللافت للانتباه اطراد نشر بعض المواقع على الشبكة العنكبوتية في بلادنا مقالات تصب كلها في اتجاه التهوين من شأن التدين تلميحا أو تصريحا . ويعتبر هذا الأمر من تداعيات ما بعد حراكات وثورات الربيع العربي ، وهو ربيع تم الإجهاز عليه قبيل أن بزهر ويثمر، لأنه كان من المنتظر أن يخلق وضعا جديدا ما بين المحيط والخليج إلا أن جهات خارجية وداخلية عاجلته وغيرت مساره لتعود بالوضع في الوطن العربي إلى أسوأ مما كان عليه من قبل . ولقد تسببت حراكات وثورات هذا الربيع في استهداف تلك الجهات الخارجية والداخلية الإسلام لأن بعض تلك الحراكات والثورات رفعته شعارا لمواجهة الفساد والإطاحة به . ولقد نجحت الأحزاب التي رفعته شعارا في استقطاب الشعوب خلال بعض التجارب الانتخابية التي خاضتها بعض الأقطار العربية كمصر وتونس والمغرب . ويعزو البعض فوز الأحزاب التي رفعت الإسلام شعارا إلى انحناء الأنظمة لعاصفة الحراكات والثورات إلى حين تدبر أمرها مع هذه الأحزاب وتصفية الحساب معها وفق الأجندة التي وضعتها قوى خارجية ليس من مصلحتها أن تعايش ما سمته الإسلام السياسي والذي يعني بالنسبة إليها وصول الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية إلى مراكز صنع القرار . ولقد عاجلت القوى الخارجية بصنع عصابات إجرامية رفعت شعار الإسلام وبثتها في بؤر التوتر خصوصا في سوريا التي تحول الحراك فيها إلى ثورة مسلحة ، وفي العراق الذي خلق فيه الاحتلال الأمريكي والغربي وضعا مضطربا سهل مأمورية تلك العصابات الإجرامية التي وجدت القوى الغربية فيها ذريعة للنيل من الإسلام ، وصرف الشعوب العربية عن فكرة الرهان عليه للخروج من وضعية ما بعد النكبة والنكسات وللتخلص من أنظمة فاسدة مستبدة تعول عليها تلك القوى الخارجية لضمان استمرار مصالحها . وبسهولة ويسر سحبت تلك القوى الخارجية ومعها الأنظمة الموالية لها تهمة تلك العصابات الإجرامية على تلك الأحزاب التي فازت في انتخابات والتي  لا شك في نزاهتها لأول مرة في تاريخ الوطن العربي ، ولم يعد لدى القوى الخارجية وحلفائها في الداخل فرق بين تلك الأحزاب وتلك العصابات الإجرامية باعتبار وحدة  المرجعية عندهم  حسب زعمهم . وهكذا سهل على القوى الغربية غض الطرف عن الانقلاب العسكري الدموي على الشرعية والديمقراطية في مصر للإطاحة بحزب الحرية والعدالة الذي أسسته جماعة الإخوان المسلمين، والتي تعتبرها القوى الخارجية جماعة متطرفة وداعية وراعية لما تسميه الإرهاب ، وهي المعنية  أساسا بعبارة الإسلام السياسي ، وذلك لكونها لا تقر بوجود الكيان الصهيوني فوق الأرض العربية الفلسطينية  المغتصبة . ولقد كان الانقلاب العسكري في مصر على حزب الحرية والعدالة أو حزب الإخوان المسلمين أداة تخويف باقي الأحزاب التي رفعت شعار الإسلام كما رفعه حزب الإخوان، الشيء الذي جعل تلك الأحزاب تتنازل عن المراتب التي حققتها في الانتخابات لفائدة أحزاب أخرى لتجنب مصير حزب الإخوان ، فانتهت التجارب الانتخابية في تونس والمغرب إلى ما يمكن تسميته بانقلابات انتخابية حيث فرض على حزب النهضة التونسي وحزب العدالة والتنمية المغربي  الدخول مع أحزاب لم تحقق ما حققاه من نتائج في ائتلافات لتكوين حكومات فسيفسائية تلعب فيها الأحزاب غير ذات المرجعية الإسلامية دور التخفيف من تأثير الحزبين المحسوبين على المرجعية الإسلامية في صنع القرار وفق برامجهما . ولقد كان هذا انقلابا انتخابيا أو سياسيا جنب  الوقوع في حرج الانقلاب العسكري الدموي كما وقع في مصر. ولم يستطع لا حزب النهضة التونسي ، ولا حزب العدالة والتنمية المغربي التحرك بحرية وفق برامجهما بل استدرجا للتماهي مع برامج  الأحزاب الأخرى المشاركة في الائتلاف الحكومي معهما، الشيء الذي تسبب في فقدان الثقة فيهما من طرف من راهن عليهما ، وهما اليوم في وضع لا يحسدان عليه حيث أصبحا هدفا للنقد الشديد خصوصا وأن الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في عهدتهما لم يعرف تغييرا بل تروج أحاديث لا ندري مدى صحتها وبراءتها  وموضوعيتها عن تدهوره ، واتجاهه نحو النفق المسدود.

ففي ظل هذه الأجواء تتنامى الدعوات الصريحة والضمنية للتهوين من شأن التدين في بلادنا  وغيرها من البلاد العربية كما يلاحظ ذلك فيما تنشره بعض المواقع على الشبكة العنكبوتية . ويحاول أصحاب هذه الدعوات نقل ما يعتبرونه فشل الأحزاب المحسوبة على الإسلام في تجربتها السياسية إن لم نقل إفشالها حسب واقع الحال إلى الإسلام لإقناع الذين يراهنون عليه بالإقلاع والتخلي عن رهانهم ،لأن هذا الإسلام حين تمارس السياسة باسمه تكون النتيجة إما تفريخ عصابات إجرامية تسفك الدماء وتمارس الإرهاب أو أحزابا فاشلة لا خبرة لها في مجال السياسة ، ولا تختلف في شيء عن غيرها من الأحزاب التي لا صلة لها بالدين بل هي دون مستواها في الأداء السياسي . وإذا كانت الأحزاب التي لا صلة لها بالدين تنتقد حين تفشل سياسيا مرة ، فالأحزاب التي تحسب على المرجعية الإسلامية تنتقد مرتين، ولا تعذر إن فشلت لأنها تتبنى الإسلام كمرجعية ، وهي مرجعية تحظى بالمصداقية والثقة، ولا أحد يسمح بالعبث بها أو استغلالها سياسيا .

ويقدم اليوم الحزبان المحسوبان على المرجعية الإسلامية النهضة في تونس والعدالة والتنمية في المغرب خدمة مجانية لغيرهما من الأحزاب المتربصة بهما بسبب ما يروج عن فشلهما في صنع القرار وتدبير الشأن حيث تركب تلك الأحزاب على فكرة  هذا الفشل لتقدم نفسها بديلا عنهما ، وهو ما يتوقع خلال الاستحقاقات الانتخابية المقبلة ، وهكذا تحقق تنبؤ الملك الراحل الحسن الثاني حين نصح النظام الجزائري يوم فاز حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات بأن يعطيه فرصة للممارسة الحكم  لأنه ربما فشل، فلا يراهن عليه أحد مرة أخرى إلا أن النظام الجزائري اختار الإجهاز عليه لأنه لم يكن على ثقة تامة من فشله أو لم يكن بوسعه إفشاله حينئذ ففعل  فعل النظام المصري الحالي مع حزب الإخوان .

وقد يبدو التهوين من شأن التدين أمرا لا علاقة له بالوضع السياسي الحالي في مجموع الوطن العربي ، والحقيقة خلاف ذلك لأن القوى الخارجية وحلفاءها في هذا الوطن يعملون ما في وسعهم لإبعاد فكرة الرهان على الإسلام  سياسيا عن الشعوب العربية ،لأن ذلك يتعارض تماما معا مصالحهم . والملاحظ أنه موازاة مع نشر فكرة التهوين من شأن التدين، لاحت فكرة التقارب بين الأنظمة العربية والكيان الصهيوني ، وفكرة ما سمي بصفقة القرن التي يراد بها تصفية القضية الفلسطينية لصالح الاحتلال الصهيوني إلى جانب أمور أخرى منها الصريح ومنها الضمني الذي سيكشف النقاب عنه عندما يحين وقته كما حان وقت الكشف عن صفقة القرن، وإعلان القدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني .

ولا نستغرب في ظل هذه الأجواء أن نسمع ببعض من ينادي بتجاوز أحكام بعض نصوص القرآن الكريم التي لم تعد مناسبة حسب زعمهم لهذا العصر  ، وبحذف ما يسمى نصوص خطاب الكراهية فيه  ، وبالتشكيك في مصداقية السنة النبوية، والطعن في كتب الصحاح وعلى رأسها الجامع الصحيح للإمام البخاري ، وبالنيل من السلف الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم  واتهام عدالتهم في النقل عنه ، وبالدعوات إلى إلغاء العقوبات التي تستوجبها الجرائم الأخلاقية من قبيل الزنا والشذوذ الجنسي ، فضلا عن تلك التي تتعلق بالمجاهرة بالردة ومخالفة تعاليم الدين جهارا كالإفطار في رمضان ... وقد بدأت تظهر بدائل لأسماء هذه الجرائم التي يدينها الإسلام حيث صارت جريمة الزنا عبارة عن علاقة جنسية رضائية ، والشذوذ علاقة جنسية مثلية ، والردة عبارة عن حرية دينية ، والإخلال بالشعائر الدينية كالإفطار في رمضان عبارة عن  حرية شخصية ، وتعطيل أحكام الشرع  كما هو الشأن في الميراث عبارة عن مساواة بين الجنسين ... إلى غير ذلك من البدائل المقترحة التي تصب كلها في اتجاه التهوين من شأن التدين . ولم  تسلم عبادة الصلاة من النقد حيث طالب البعض بعدم إجبار الصغار على أدائها ، ولم يسلم شهر الصيام هذه السنة على غرار سنوات مضت من النفخ في فكرة التهوين من شأن عبادته حيث طالب البعض بالترخيص للمتعلمين البالغين في الإفطار خلال أيام اجتياز الامتحانات ، وهي فتوى صارت معمول بها في المجال الرياضي منذ مدة ... إلى غير ذلك من المطالبة بالتخلي المتدرج عن التدين لخلق هوة بينه وبين أكبر شريحة ممكنة في المجتمع لتحويله من هويته الإسلامية إلى هوية أخرى حسب الأجندة التي وضعتها قوى خارجية .

ونختم بالقول إن الإسلام  تتقوى شوكته كلما حاول خصومه التضييق عليه واستئصاله ، وقد سجلت  صفحات التاريخ ذلك ، ولكن خصومه لا زالوا كما كانوا من قبل يحاولون تحقيق المستحيل وهو خنق أنفاس هذا الدين الذي أظهره الله عز وجل على الدين كله ولو كره خصومه . وقد يفاجأ خصوم هذا الدين بغزوهم في عقر دارهم حين يعتنقه أبناؤهم بعدما بذلوا قصارى جهدهم في صرف أهله عنه في بلاد الإسلام مصداقا لقول الله عز وجل : (( فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ))، فهذه سنة الله عز وجل الماضية في الخلق، و هذه إرادته التي لا راد لها.

وسوم: العدد 775