ترامب يكلف أمريكا الكثير

clip_image002_aa45e.png

إن كون دولة ما تتمتع بالقدرة على فعل شيء معين في العلاقات الدولية لا يعني أنها تستطيع استغلال هذه القدرة كيفما تشاء. كما أن استخدام القوة يحرّك قوة أخرى مضادة، وفي هذه الحالة فإن كلفة استخدام القوة تكون الوصول سريعا إلى حدود قدراتك واستهلاكها حتى تنفد بالكامل.

لقد استخدمت الولايات المتحدة القوة بتهور على المستوى الدولي دائما حتى يومنا هذا، ولم تدِن في ذلك لكونها أظهرت هذا للعالم، بل اعتمدت على الثقة التي كانت تقدمها بشأن أنها لن تستخدم هذه القوة بلا رقيب، وكذلك ذلك الانطباع القوي الذي كانت تتركه بشأن أنها تسيطر على استخدام القوة وقدرتها على التفريق جيدا بين أصدقائها وأعدائها. ومن هذا المنطلق فإن أكبر قوة هي المصداقية.

عندما بدأت الولايات المتحدة بقيادة ترامب استخدام ورقة الدولار والضرائب التجارية خلال خلافها السياسي مع تركيا، فقد دمرت بالكامل الثقة بها وبعملتها الوطنية. ولهذا السبب فإن تدمير هذه الثقة يعتبر أكبر كلفة تتحملها الإدارة الأمريكية بسبب العملية التي أطلقتها ضد تركيا، بيد أن هذا ليس الخسارة كلها، بل بدايتها فقط.

وفي الواقع فإن الدولار جرى تقديمه ككيان مستقل يجب ألا يخطر استخدامه على بال أو لا يخطر أبدا على بال من ناحية السياسة الأمريكية مهما كلف الأمر، لكنه لم يترك أبدا بشكل مستقل في مجاله كما جرى تقديمه، بل أصبح دائما ورقة أو سلاح عمليات سرية، بيد أن الفرق فيما يحدث اليوم هو أن هذا الأمر يتم علانية بشكل لا مبالي.

وهو ما يقدِّم على طبق من ذهب إلى جميع القوى الدولية حول العالم الفرصة التي يبحثون عنها للتمرد على الدولار. ولو أننا كنا قد سمعنا الكثير عن الأساطير حول أن نية أي دولة أو زعيم التخلي عن الدولار أو محاولته فعل ذلك تساوي نهايته، فإننا سنسمع الفترة المقبلة الكثير من السيناريوهات المعتادة حول أن هذا الأمر لا يعتبر بهذا القدر من الصعوبة. وسنكون قد دخلنا في المستقبل القريب فترة يتحول فيها انهيار الدولار إلى أمر لا مفر منه.

يعتبر المجال الحقوقي من المجالات الأخرى التي يجب ألا يخطر استخدامه من ناحية السياسة الأمريكية على البال مهما كلف الأمر. فالأساطير التي تقول إن الجهاز القضائي في الولايات المتحدة مستقل عن السياسة تعتبر أقوى من الأسطورة الأمريكية ذاتها. وما يدعم هذه الأسطورة النماذج الذي شهدناها عندما حوكم رؤساء أمريكا حتى عندما كانوا في البيت الأبيض. بيد أن كون القانون هناك أحيانا مستقلا عن الرؤساء لا يعني أنه مستقل بالكامل عن السياسة.

ففي نهاية المطاف ربما يصبح الرؤساء والقضاة في عالم السياسة المتغير على طرفي النقيض، لكن هذا لا يعني أن القضاة بعيدون ومستقلون بالكامل عن السياسة، بالضبط كما أنهم ليسوا بعيدين تماما عن رأس المال أو كيانات الأقلية. تحاول السلطات الأمريكية جعل الجميع يحفظون هذه الأسطورة في مواجهة تركيا سواء في قضية مساعد المدير العام للبنك الأهلي التركي أو دعوى فتح الله غولن، بيد أنه عندما صار الحديث عن القانون التركي بشأن الراهب برونسون، فإن المسؤولين الأمريكان صاروا على وشك الاعتراف بما فعلوه عن طريق القول بأن القضاء أحيانا يصبح مجالا يتحكم به السياسيون.

ثمة شيء نجحت تركيا في تحقيقه في قضية برونسون، ألا وهو طرح هذا السؤال بشكل قوي: لماذا لا تؤمنون بوجود محاكم في تركيا في الوقت الذي تتوقعوننا أن نؤمن بأن هناك محاكم في الولايات المتحدة؟ ولا شك أننا نرى جيدا كيف يعمل في هذا المقام حكم مسبق استشراقي قذر مبني على فكرة أن مؤسسة القضاء المستقل ليست موجودة في العالم الإسلامي، وبالتالي في تركيا، في حين أنها موجودة لديهم. وأما تركيا فتقدم فرصة استثنائية، بمناسبة قضية برونسون، حتى يواجه أصحاب هذا الحكم المسبق الاستشراقي الحقائق التي لديهم.

إن الولايات المتحدة تعتقل في غوانتنامو أشخاصا تحتجزهم بشكل عشوائي دون محاسبة لسنوات وتعذبهم في سجونها هناك، كما تعتقل مواطنين أتراك على أراضيها استنادا إلى بعض المعلومات التي حصلت عليها بشأن أنهم لم يخضعوا الحصار الذي فرضته بظلمها عليهم، وهي الآن قادرة على أن تدعي أن مواطنها برونسون، الذي تم التوصل إلى أدلة شبه أكيدة على تعاونه مع الانقلابيين والإرهابيين في تركيا، شخص "بريء من الجرائم إلى الأبد". فالنفاق الذي تظهر به واشنطن بشأن مواطنها الذي نعتته بالبريء يقضي كذلك على ادعاء وجود قانون على أراضيها.

وأما الكلفة الكبيرة الأخرى التي تتحملها أمريكا بسبب سياسات ترامب هي القوة البديلة التي بدأت تتشكل في مواجهة واشنطن وعملتها الوطنية. فنحن اليوم نتحدث عن وتيرة وضعت تركيا، الحليف الوحيد لأمريكا في المنطقة، ودول أوروبا في الجبهة ذاتها المضادة للولايات المتحدة بعد الصين وروسيا وإيران. ولا ريب أن عالم المستقبل سيكون عالما يقضى فيه على الهيمنة الأمريكية.

ولقد كنا نعتبر أن تحقق هذا الأمر لا يزال بعيدا، لكن بفضل ترامب أصبح أقرب من أي وقت مضى.

وسوم: العدد 786