أثر العولمة على التمتع بكامل الحقوق والحريات
مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات
للعولمة معنى متفق عليه بوصفها ظاهرة جعلت من العالم بأسره كالقرية الصغيرة بفضل التكنولوجيا المتطورة التي طالت وسائل الاتصال والإعلام، وما تقدم اعتمد بالدرجة الأساس على أدوات متمثلة بالأقمار الصناعية والقنوات الفضائية والانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها كثير، وفنياً هي تعني توحيد القوانين وإزالة الحواجز بين الدول والثقافات العالمية وقد بدأت العولمة عملياً بالجانب الاقتصادي وطالت بعده كل الجوانب الثقافية والاجتماعية والسياسية والقانونية وغيرها، إذ عولمة الاقتصاد تعني سيادة نظام اقتصادي واحد يتمثل بالاقتصاد الحر والذي يقوم على حرية التجارة ورؤوس الأموال والاستثمار والعولمة على المستوى السياسي تعني الأنظمة الحاكمة الحرة التي تؤمن بحقوق الإنسان وقيمه الأساسية المتمثلة بحرية التفكير والتعبير والتأثير في الحياة العامة بكل صورها وتجلياتها عبر نظام ديمقراطي.
وتؤثر العولمة على الثقافة وتعني التمازج والتلاقح الحضاري، بيد أن المفهوم المتقدم أضحى نظرياً بسبب انتشار الأفكار الشعوبية والكبوات التي شهدتها مفاهيم العولمة لاسيما الانحرافات الفكرية التي طالت قيمها الأساسية، الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل هل تراجعت المفاهيم التي قامت عليها العولمة؟ هل حققت العولمة أهدافها المتمثلة بإشاعة مبادئ حقوق الإنسان؟
وللإجابة نقول إن التراجع عن بعض المفاهيم الإنسانية للعولمة غدا واضحا وعلى أكثر من صعيد وللتدليل على ما تقدم نسوق الأمثلة التالية:
أولاً/ البعد الاقتصادي:
تشكلت شركات عبر الوطنية ومؤسسات إنتاجية انتقلت من بلد إلى آخر بحثاً عن اليد العاملة والمواد الأولية منخفضة التكلفة على حساب الحق في العمل وفق شروط عمل عادلة وظروف عمل مؤاتية، أي تمت التضحية بالعمال والبيئة ومستقبل البلد، إذ تتسابق هذه الشركات في نهب خيرات البلد واستغلال عمالته الرخيصة وتبعث سموم مصانعها لتفسد البيئة مستغلة تخلف التشريعات وهشاشة الرقابة والفساد المستشري في أنظمة الحكم التي تسمح بمثل هذه المهزلة باسم اجتذاب الاستثمارات ومن الواضح إن هذه الشركات ستحرص على تخلف هذه البلدان لتستمر بعملها اللاإنساني. كما إنها تسببت بتخلف المشاريع الصغيرة والأعمال الشخصية للعاملين في القطاعين الزراعي والصناعي بسبب المنافسة غير المتكافئة.
ثانياً/ البعد الاجتماعي:
أثرت العولمة على القيم الاجتماعية الراسخة ومنها مكانة الأسرة بوصفها المكون الأساس للمجتمع واللبنة الأولى فيه والمصنع الذي منه يتخرج الأفراد الصالحون فقد أهينت المرأة والأب باسم الحرية وتزعزعت قيم الجوار واحترام الغير وحقوقه وسادت في العديد من المجتمعات ظاهرة التنمر الالكتروني وإفساد الأخلاق عبر الوسائل التقنية الحديثة والتي تستهدف الإناث بشكل عام والصغار من الذكور فانعكست على مجمل الحياة الاجتماعية.
رابعاً/ البعد الصحي:
قاد الطمع والجشع الشركات المنتجة إلى اعتماد التقنيات الحديثة لاسيما التعديل الوراثي في المنتجات الزراعية وما يحمل من مخاطر على صحة الإنسان، وشركات الأدوية الوهمية وتلك الرائدة في مجال الغش الصناعي والتي وجدت من الفضاء الالكتروني ضالتها للتسويق وللوصول إلى الضحايا في كل البلدان وتسهيل مهام نقل وتوزيع بضائعها الخطيرة.
خامساً/ البعد البيئي:
تسببت المصانع الكبرى والاستغلال البشع لمصادر الطاقة إلى ظاهرة الاحتباس الحراري وما رافق ذلك من تغيرات أثرت بشكل خاص على القطاع الزراعي والصناعي في البلدان الفقيرة والنامية، وحين أبرمت الدول اتفاقية باريس 2015 لمعالجة آثار ذلك بادر الرئيس الأمريكي إلى الانسحاب منها عام 2017.
سادساً / البعد المالي:
تحرص المؤسسات المالية العالمية ومنها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى فرض شروط صارمة على البلدان المستدينة ومنها العراق ما ينعكس سلباً على معيشة الأفراد لاسيما الفقراء برفع الدولة الدعم عن السلع والخدمات الأساسية أو زيادة مبالغ الضرائب والرسوم وغيرها من الإجراءات التي تتخذ لإرضاء المؤسسات المالية الدائنة.
سابعاً/ البعد الأمني:
انتشرت على نطاق كبير جداً الجرائم السبرانية والتي أخذت أشكالاً متعددة وصوراً غاية في الخطورة على أمن الفرد والمجتمعات فبعض العصابات قادرة على النفوذ للمعلومات والبيانات الشخصية وانتهاك خصوصية الفرد، كما ان المواقع والقنوات الفضائية العابرة للحدود تبث الفساد أو المادة الإعلامية المغلوطة أو الأفكار الهدامة والمنحرفة عن القيم الإنسانية ليل نهار.
ثامناً/ الاتصالات:
أثرت عولمة الاتصالات في الحقوق والحريات إذ تحولت بعض المؤسسات إلى شركات عملاقة تخزن بيانات ملايين البشر وتتلاعب بها كيف تشاء وتأييدا لما ذكرنا يمكن مراجعة الغرامات الأوربية والعقوبات التي فرضت على شركة غوغل مثلاً بسبب مشاكل تخص المستخدمين.
تاسعاً/ البعد الثقافي:
تحاول بعض الجماعات والجهات فرض سلوك ثقافي معين أو الترويج له بغية التأثير التدريجي في المجتمعات لاسيما تلك التي تستهدف فئة الشباب فالترويج لمفاهيم الإباحية والمثلية وغيرها تختطف الشاب من أسرته وتلقي به في أحضان السلوكيات الشاذة، كما وقد استغلت الفجوة الثقافية بين الشعوب لمصلحة البلدان المتقدمة أو المتحكمة بوسائل التأثير في الرأي العام العالمي والوطني، وجرى التعامل مع الحق في الرأي والتعبير بشكل انتقائي ما تسبب في اندثار مفاهيم حضارية وثقافية.
عاشراً/ البعد الأخلاقي:
نجد الانتقائية في التعامل ودليل ما تقدم التنصل عن مبادئ حقوق الإنسان التي طالما تغنت بها بلدان الغرب في أزمة المهاجرين الأفارقة والسوريين وما سجله البحر المتوسط من آلاف الحوادث المؤسفة التي يتعرض لها المهاجرون يومياً فضلا عن معسكرات الاحتجاز والترحيل القسري وآخرها فصل الأبناء عن ذويهم في الولايات المتحدة وغيرها كثير، وقد استغلت أزمة الهجرة التي تعد جزء من عالم معولم لارتكاب أبشع جريمة متمثلة في الاتجار بالبشر أو الأعضاء البشرية والجنس.
حادي عشر/ الحكم الرشيد:
ارتبط مفهوم العولمة بضرورة ترسيخ الحكم الديمقراطي الصالح وتدخلت العديد من الدول وكذا الأمم المتحدة في شؤون دول بعينها تحت ذريعة حقوق الإنسان ومقارعة الحكم الدكتاتوري، بيد إن الواقع يكشف لنا أن الفساد ضرب عميقاً في جذور الأمم المتحدة ذاتها والبلدان الراعية لحقوق الإنسان أو المتبجحة بدعمها للحكم الديمقراطي وبرنامج النفط مقابل الغذاء والدواء خير شاهد على ما نقول، كما وان النظام الضريبي والمصرفي وازدواج الجنسية سمح للفاسدين بنهب أموال الشعوب والإفلات من العقاب.
ثاني عشر/ التجارة الدولية غير المنصفة:
والتي تتمثل بمبيعات السلاح والمواد مزدوجة الاستخدام والتي تباح لبعض الدول مع العلم إنها تستبيح شعوبها أو شعوب دول أخرى تقصفها صباحاً ومساءً بكل الأسلحة وتتدخل بشؤون دول وتهدد استقرارها وتتسبب بمقتل أفراد شعبها، بل الأنكى إن الكثير من هذه الدول صارت تستخدم المرتزقة بشكل غير مباشر من خلال دعم الجماعات الإرهابية والتجربة العراقية خير دليل فخلال أسابيع حصل مجرمو داعش على آلاف السيارات الحديثة وأطنان من الأسلحة الثقيلة والمتوسطة المتطورة.
في النهاية يمكننا القول ان العولمة كأي حلم ولد ليحيى حياة كريمة إلا إن الظروف قادته إلى الموت في المهد وما تبقى مجرد مبادئ نظرية فارغة من المحتوى الحقيقي.
وسوم: العدد 788