العلمانية كبديل 2 (دواعي الاستيراد)

اندفع جمهرة العلمانيين وراء المنظور العلماني لمبررات عدة قبل قرن تقريباً، وأهم ما تبقى من مبررات الاستيراد العلماني يكمن في مسألتين: الهروب من الكهنوت الديني، وجلب الديمقراطية التي لا يمكن لها المجيء إلا فوق عربة العلمنة!

مشكلة الكهنوت:

يزعم الهاربون من منظور الإسلام في الحكم أن العلمانية ملجئ آمن لتحرير الدولة من هيمنة الكهنوت! وهو زعم لا يثبت عند التمحيص؛ فالدولة كآلة لا يمكن لها أن تشتغل في فراغ، إذ لا بد لها من مرجعية تنطلق منها وتقايس عليها تصرفاتها، وهذه المرجعية إما أن تكون ديناً سماوياً أو ديناً أرضياً، وقد رصد الفيلسوف طه عبد الرحمن معالم ذلك الدين الأرضي الذي دبجه فلاسفة أوروبا ليكون بديلاً للدين السماوي في كتابه "بؤس الدهرانية" وتتبع محاولات فلاسفة الغرب تأسيس مرجعية أرضية للأخلاق سواء كانت "الدين الطبيعي!" كما هي عند "جان جاك روسو" أو المجتمع كما هي عند "دور كايم"(1917م) أو العقل كما نظّر لها "إيمانويل كانت"(1804م)، مما يؤكد حتمية المرجعية لحركة الإنسان، وخلص من حفرياته الدقيقة إلى أن الهوى هو المرجع النهائي للعقل العلماني (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ) [الجاثية:23].

 وقد استوقفني تناقض القانون الأمريكي الذي يمنع الأطفال دون 18 سنة من شراء المجلات الإباحية في حين يجيز لهم شراء الأسلحة النارية، ويتضمن القانون زواجر رادعة لمتعاطي المخدرات في حين يجيز الخمر رغم أن دراسة قامت بها جامعة أوكسفورد البريطانية تشير إلى أن "عدد وفيات الإدمان على الخمور يفوق عدد ضحايا مرض الإيدز والملاريا والسل، وهنالك عشرات الأمثلة لمثل هذا التناقض لأن المرجعية العليا مختلة.

بينما لا تمتلك أي سلطة في الإسلام حق التحليل والتحريم النهائي إلا الخالق العليم، فعن أي كهنوت يتحدث مروجوا العلمنة؟!

ولا أروع من الحل النبوي الذي يجعل الوحي مرجعاً مقدساً، وينظر لتطبيقه كاجتهاد نسبي يمكن أن يوافق الوحي أو يفارقه؛ ففي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمرائه: (وإذا حاصرتَ أهلَ حِصنٍ، فأرادوك أن تنزلَهم على حكمِ اللهِ، فلا تنزلْهم على حكمِ اللهِ. ولكن أَنزِلْهم على حكمِك. فإنك لا تدري أُتصيبُ حكمَ اللهِ فيهم أم لا) ([2]).

متلازمة الديمقراطية والعلمانية:

 حتمية تلازم الديمقراطية مع العلمانية كما يصور بعض العلمانيين تشبه ما تعمله المتاجر حين تروج لبضاعتها الكاسدة بإرفاق هدية ثمينة تغري الزبون على الشراء!

 مع أن الدارسين بعمق للمسألة العلمانية توصلوا إلى أن العلمانية تنتج ديكتاتوريها إذا ما أصرت على فرض رؤيتها المحورية "نزع القداسة عن العالم" فمقاومة العلمانية الفرنسية للحجاب -وهو مسألة شخصية -صورة من صور الديكتاتورية، ومن يتابع خطاب التبرير الفرنسي يلمس خطاباً ايدلوجياً يدافع عن دين العلمانية!

 والديمقراطية في أبهى تجلياتها حكم الشعب بنفسه، وهذا الشعب قد يعتمد المرجعية العلمانية أو الإسلامية أو أي مرجعية يقايس عليها اختياراته، ولا ضرورة لهذا الالتحام سوى عند من تحولت العلمانية عندهم إلى ايدلوجيا فلا يمكنهم بيع الديمقراطية إلا بجوار العلمانية!

والذين يرطنون بالقيم الغربية وكأنها قيم عليا للبشرية لم يستطيعوا أن يميزوا بين الديمقراطية كآليات يمكن لها أن تشتغل في أي بيئة حرة، وبين حمولة الغرب التي لا تعني الكثير من أبناء البشر شيء.

([2]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (6/ 180).

وسوم: العدد 790