العربية مهانة منذ زمن

ليست دعوة عيوش للعامية أول حرب على اللغة العربية، وليس "تدريج" الكتب المدرسية أول إهانة للفصحى. وإن كانت هذه الخطوات الأخيرة أكثر جرأة على السفه وقلة الحياء. العربية مهانة منذ زمن في مجتمعنا. أهينت لغة الضاد في المدرسة حينما جُعلت للأدب والأحاجي، وللعلوم لغةُ موليير، نكايةً في العالَم الأبْله الذي يصرّ على اتخاذ الإنجليزية لغةَ البحث العلمي. أهينت العربية حينما لجأ أصحاب المقاهي والفنادق والمدارس الخاصة إلى تعليق لافتات بحجم كبير على واجهاتها باللغة الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية أو الإيطالية... فهذه مدرسة "لافونتين"، وتلك مقهى "تروكاديرو"،وهذا فندق "روايال". وكثيرا ما يسمي صاحبُ المقهى محلّه باسمٍ لا يعرف معناه لا هو ولا مرتادو مقهاه. فماذا تعني "أغورا" (َAgora) عند زبناء لا يهمهم في مقهاهم غير اجتماع على تدخين أو مباراة "البارصا" و"الريال"؟ من يخبرهم أن أغورا اليونانية كانت ساحة الفكر الحر؟ من يُفهمهم أنها الساحة التي احتضنت خطاب العقل وألزمت اليوناني بمسؤوليته عن الشأن العام؟ أسماء كثيرة ذات معنى عند الفرنسيين ولا مدلول لها عند المغاربة. أسماء أعلام ذوو تقدير عظيم عند أهلهم مجهولون في مجتمعنا. يفتح الاسم بابَ التاريخ مشرعا فتتزاحم المعاني والدلالات والعِبر. وقد يصير عند النُّسّاخ والمستوردين الجهلة اسما أعجميا لا تُحسن الشفاهُ نطقه. سألتُ صاحب مقهى ماذا تعني "zénith"؟ فأجابني: "يكفي أن الاسم غريب". فلعلّه لو علم أنه تحريف لكلمة "سَمْت" العربية عند بعض اللغويين لغيّره. وسألت جاره: "لماذا سميتَ مقهاك prestige؟"، فأجابني: "إنه اسم جذاب" (c’est attirant!).

وحين تسوءُ المعرَّبينَ هذه الأسماءُ الأعجمية يشنّون الغارة على "المفرنسين" فيخبطون العربية ذات اليمين وذات الشمال، فلا ذوق ولا جمال. سمى أحد المستثمرين قاعة للأيْروبيك "Alghazel"، ولست أدري لماذا لم يقل "الغزالي"؟ لكن، هل كان أبو حامد من أوائل مدرِّبي هذه الرياضة؟ أم يا تُراه كان مفتونا "بالفِتنيس" (fitness). وآخرُ سمى مخبزته "ابن سينا"! فليت شِعري ما علاقة الطبيب الفيلسوف بالخبز والعجين؟ وغير مستبعد أن نجد قاعة للحلاقة وقد كُتب عليها "قاعة أينشتاين للحلاقة". ولأنّ التطرّف يُوَلّد التطرّف فقد قد أصرّ بائع دجاج على أن يجعلها "ذجاجا" بالذال المعجمة. وحين نُبّه على ذلك أفادنا بأن الدجاج شيء و"الذجاج" شيء آخر. ثم إنك تجد الآباء يسمون أبناءهم بأسماء غريبة أو ذات معنى سخيف، أو بلا معنى أصلا، كل ذلك وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. فهذه "دنيا"، وتلك "رِتاج"، وأخرى "فاتن" و"ميّاسة"... ومن الذكور "إهاب" و"ياسين" و"وليد" و"طه" ... وهلم أسماء جذابة ذات طنين ورنين. والشيء بالشيء يُذكر، إن أمة لا تقرأ يَسهل عليها أن تُسمّيَ "طه" لكنها تستقبح أن يسميَ أحدُهم ابنَه "طسم" أو "حم"! كان لأحد الأصحاب ابنة اسمها "تسنيم"، سألته ذات مرة: "لماذا اخترت لها هذا الاسم؟". فقال: "لأنه مذكور في القرآن". فقلت له: "إبليس أيضا مذكور في القرآن!".

مجتمع تائه لا لغة له، فلا المعرَّبون يدركون ما يفعلون ولا المفرنَسون "تفرنسوا" على بيّنة. أذكرُ تلميذا أنهى امتحان الانجليزية وحين كان يهمّ بالخروج سألته: "أتعرف معاني الكلمات المبعثرة على قميصك؟" فقال: "لا أعرف، أعجبني القميص فلبسته". فقلت له: "أتضع على صدرك ما لا تفهم. كلها كلمات قذرة نجسة: مخدرات، جنس، خنزير...". كلمات بالإنجليزية التي امتُحن فيها ذلك المساء. صعِق الشاب ثم توارى خجلا. ورُبّ عبارات فاحشة على ثياب شباب اليوم، وأخرى إشهارية لكل مرذول. أما الإشهار فتلك قصة أخرى، أليست لغته الرسمية هي "العيوشية" منذ زمن بعيد؟ تُقابلك لوحات إشهارية كبيرة وأنت تطوف بشوارع البلد فتقرأ هنا: "مْعَ اتصالات البَطبوط، دَوّزْ النّمْرة اللي بْغيت، وها نْتَ تْهَنيت"، وتقرأ هناك: "مع شركة بغْرير، باشْ تَكْري باشْ تشْري"، وقد يقف سائح إنجليزي عشق العربية أمام لوحة تقول: "شْهِيواتْ رَمْضان، مْعَ مَرجان"، فربما تعجّب: "شَهَواتٌ وفي رمضان؟!"

إداراتنا العمومية أيضا في تِيه، تَقرأ على باب مكتب المحاسبة "service de comptabilité"، ولا مقابل له بالعربية. وحين تلج المكتب تقدَّم لك أوراق كلها بالفرنسية في بلد لغته الرسمية هي العربية. بينما أنا ذات يوم في شركة لبيع السيارات الجديدة إذ طلع علينا رجل مشتكيا: "كيف لا تتحمّلون العطب الذي أصاب السيارة؟ وضمانُ سنتين ما أفعل به؟". أجاب الموظف: "هذا النوع من العطب غير مشمول بالضمان"، وأخرج له العُهدة التي وقّعها (le contrat). كانت ثلاثةَ أوراق مكتوبة بأحرف فرنسية صغيرة جدا، تحتاج ثلاثة أيام لفكّ مستغلقاتها. صرخ الرجل: "أنا لا أعرف الفرنسية. أنا في بلد عربي". وما علم المسكين أن العهدة وُضعت أصلا لكي لا تُقرأ، وإذا قرئت لا تُفهم!

ولقد أهينت العربية على أيدي بعض حُماتها والمنتسبين إليها. حتى مؤلفو الكتب المدرسية غدَوْا يتكلمون لغة على غير وَفقِ قواعد التخاطب عند العرب، وذلك قبل أن يظهر "البغرير" و"البطبوط" إلى الوجود. فتجدهم يقولون في مقدمة كتاب العربية أشباهَ هذه العبارات: "أيها التلميذ، أيتها التلميذة، إنكَ (كِ) مقبلٌ (مقبلة) على سنة جديدة تتعرّف (تتعرّفين) فيها اللغة العربية. فعليكَ (كِ) أن تكون مُجدّا (مجدّة) ... إلخ". فما تكاد تُنهي مقدمة الكتاب حتى تكون قد أخذت جرعات كافية لتجعلك تكره لغة العرب. كيف لا وقد كُتب عليك أن تتحدّى بلاغة العرب وإيجازهم، وتجهلَ متى ينوب التذكير عن التأنيث، ولأي مقصد بلاغي يخاطَب المذكر والمؤنث معا. إنها لغة الحقوق والمناصفة تُقعّد قواعدَ لغة العرب، وتُغيّر أعراف التخاطب والكلام.

ها أنتم أولاء ترون كيف أن لغة العرب مهانة قبل ظهور "اللغة البغريرية" و"العيوشية". لكن ردّ فعلِ المستنكِرين محمود، فأنْ يستيقظ النائم متأخرا خير من ألا يستيقظ يومه كله.

وسوم: العدد 790