من شاعر رومانسي إلى إرهابي في «الإخوان المسلمين»!
ثمة كتاب له أهمية في مرحلة ما في تاريخ مؤلفات «الإخوان المسلمين»، لم أجد له ذكراً في الدراسات والمقالات المكرسة لتقديم صورة الجهاد عند الإسلاميين، وصورته على وجه التحديد عند «الإخوان المسلمين» العرب عامة، وعند «الإخوان المسلمين» المصريين خاصة. هذا الكتاب هو كتاب «القتال في الإسلام»، ومؤلفه هو الإخواني أحمد نار.
ولأن هذا الكتاب غير معروف عند كثير من الدارسين غير المنتمين للتيارات الإسلامية والمعنيين بالإسلاميين، تاريخياً وفكراً واتجاهات، وغير معروف عند كثير من الجيل المتأخر من أبناء الصحوة الإسلامية، ولأنه غير موجود في المكتبات التجارية، ويكاد يدخل ضمن الكتاب النادر في المكتبات العامة في العالم العربي وفي العالم الإسلامي، سأقدم معلومات عنه ووصفاً له ثم سأوضح أهميته في تاريخ «الإخوان المسلمين» المصريين.
الكتاب صادر عن مطبعة دار الكتاب العربي بالقاهرة سنة 1952. والمطبعة والدار مملوكتان للحاج حلمي المنياوي عضو الهيئة التأسيسية لـ«الإخوان المسلمين». والكتاب من القطع الصغير، وجاء في 215 صفحة. كُتِب على الغلاف الأول والغلاف الثاني في أعلاهما من جهة اليمين: «من روح القرآن»، وكُتب على الغلاف الأول في أسفله من جهة اليسار وفوق اسم المؤلف: الجزء الأول. وهذه العبارة تشير إلى أن الكتاب هو الجزء الأول من سلسلة عنوانها «من روح القرآن» كانت الدار تزمع إصدارها.
لون الغلاف الأول سماوي وعليه رسمة لفرس تعدو يمتطيها فارس عربي ملتحٍ يعتمر كوفية قصيرة وعقالاً، شاهراً سيفه الذي يصل حدّاه إلى أدنى قرص الشمس الذي تتوسطه رسمة للمصحف مكتوب عليها القرآن الكريم، وكان القرص في ذروة توهجه، ناشراً شعاعه في الأرض.
في الصفحة التي تلي صفحة الغلاف الثاني، صورة فوتوغرافية لحسن البنا، وهو واقف بزيه الرسمي الكامل. وهذه الصورة التقطت له في أثناء زيارته مدينة غزة.
قبل صفحة موضوعات الكتاب التي هي آخر صفحة فيه صفحتان تحدثتا عن خطر القعود عن الجهاد على المسلمين، وأشادتا بـ«الإخوان المسلمين» وبحسن البنا، من دون أن تسميهما وذمّت غالبية الأحزاب السياسية في مصر، وأغلبية ساستها من دون أن تسمي الأحزاب وتسمي الساسة.
وفي إشارة، أوضح إلى أن تينك الصفحتين كانتا تتحدثان عن «الإخوان المسلمين»، وعن ساسة مصر، وعن مصر على وجه التحديد، قالتا: «تفتحت عيون أعداء الله وشعوب الإسلام على نوع جديد من الجهاد والكفاح لم يألفوه، فحسبه بعضهم خروجاً على الإسلام، وظنوه خلطاً بين الدين والسياسة، وتمسحاً في الإسلام باسم الدين، بينما عرف بعضهم حقيقة أمره، ولكن ران على قلوبهم أطماعهم وسياستهم التي تضار بظهور الحق وانتصار أهله، ولم يؤمن به إيماناً عملياً وعلمياً ووجدانياً إلا فئة قليلة... فحملوا رؤوسهم على أكفِّهم وأعلنوا في غير موضع الجهاد باسم الله وتحت راية القرآن، فشهدت لهم دماؤهم على أرض فلسطين، وشهدت لهم دماؤهم على أرض وادي النيل، وستشهد لهم حومات الوغى ما دامت هذه الجذوة متأججة في صدورهم يورِّثونها لمن خلفهم جيلاً بعد جيل...»!
الذين «شهدت لهم دماؤهم على أرض فلسطين» تعني بهم السطور السابقة الذين قتلوا من متطوعي «الإخوان المسلمين» في مصر وفلسطين والأردن وسوريا والعراق في حرب 1948. والذين «شهدت لهم دماؤهم على أرض النيل» تعني بها خمسة قتلى من «الإخوان المسلمين» في حرب القنال عام 1951 ضد الإنجليز، التي أمر بشنها حزب الوفد، وقبلها تعني بها اغتيال حسن البنا في عام 1949.
تضمنت الفقرة الختامية التي تلت السطور السابقة معلومة كاشفة عن الكتاب، ونصّها ما يلي: «أما وقد بدأ السير في هذا السبيل فقد وجدنا من عدة المجاهد المسلم أن يلم بأحكام القتال في الإسلام، وكفانا الأخ الكريم الأستاذ أحمد نار هذه المؤونة، فوضع هذا المؤلف القيِّم وعرضه على فضيلة المرشد العام الراحل رضي الله عنه وأرضاه، فأعجب به ولكن رحمه الله لم يشهد ظهوره، ورأينا حاجة إلى إظهاره في هذه الأيام لينتفع به الآن وفي المناسبات القادمة في شتى نواحي الوطن الإسلامي».
وفي أسفل هذه الفقرة على جهة اليسار، وضع هذا الاسم: السندي.
السندي هذا الذي اكتفى بذكر اسم عائلته من دون أن يذكر اسمه الأول هو عبد الرحمن السندي قائد التنظيم السرِّي المسلَّح في «الإخوان المسلمين». إذن صاحب الكلام الذي يحمل تهديداً ووعيداً في المستقبل، الذي نقلت لكم معظم كلامه، هو هذا الرجل الخطير الغامض، المريض بالقلب منذ صباه، الذي بسبب هذا المرض قضى نحبه، وهو في منتصف العمر. وعلى الغلاف الأخير هناك مستطيل بحجم صغير مرسوم فيه باخرة تمخر عباب البحر وطائرة محلقة في السماء، يتوسطهما رسم للكرة الأرضية، وداخل المستطيل شريط رباعي متوازي الأضلاع مكتوب فيه «السندي وشركاه».
يذكر أحمد عادل كمال عضو النظام الخاص في مذكراته «النقط فوق الحروف: الإخوان المسلمون والنظام الخاص»، أنه بعد خروجهم من السجن عام 1951، أنشأ عبد الرحمن السندي شركة «السندي وشركاه» للتجارة، ثم فشلت فشلاً ذريعاً. لكنه لم يخبرنا ما طبيعة عملها. ومن شعارها، ربما كان عملها متعلقاً بالسفر أو الشحن أو التصدير أو الاستيراد. والمعلومة التي أفادنا بها تدل على أن موهبة السندي في فن التجارة هي أقل بكثير من براعته في صناعة الإرهاب.
الكتاب طُبِع طبعة ثانية عام 1968. طبعته المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع بمدينة حمص.
تتوفر حول مؤلف الكتاب روايتان إخوانيتان مضطربتان.
الأولى وردت في ترجمة مبتسرة لأخيه مالك نار قيل فيها: «الأخ الأستاذ مالك محمد إبراهيم نار من أبناء منيا القمح بمحافظة الشرقية. يقول عنه الدكتور رشاد البيومي إنه قائد فصيلة من فصائل (الإخوان) في حرب فلسطين... دخل (الإخوان) هو وأخوه أحمد نار الذي كان أحد فتوات محافظة الشرقية. وكان الجميع يخشى بأسه حتى شيوخ المنسر. ويأبى الله إلا أن يمنّ عليه بالهداية، ويصبح جندياً عاملاً في صفوف الجماعة هو وأخاه مالك».
والأخرى وردت في لقاء صحافي مع الحاج علي عبد الحليم الذي كان في يوم ما مسؤول جوالة «الإخوان» بمدينة أبو حماد في محافظة الشرقية. فلقد سأله الذي أجرى اللقاء معه؛ هل يتذكر مواقف لحسن البنا أثّرت فيه؟
فأجاب قائلاً: أتذكر أنه جلس ذات مرة يقدم النصيحة لأحد الناس عُرِف عنه أنه شيخ منصر (تعبير عامي لوصف قُطّاع الطرق والمجرمين)، وتعجبنا كيف يعطي الشهيد وقته الغالي الثمين لأحد الناس غير المنضبطين حتى وجدنا هذا الشخص، ويُدعى أحمد إبراهيم نار - من منيا القمح بمحافظة الشرقية - أصبح من أكثر الإخوة التزاماً، بل وتضحية ونفع الله به الدعوة. وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم في الجاهلية، خيركم في الإسلام». وألّف الأخ كتاباً بعدها كنا نتدارسه بعنوان: «القتال في الإسلام». بصرف النظر عن أن كونه كان شيخ منصر (أصلها في العامية المصرية شيخ منسر)، يجعل حديث «خيركم في الجاهلية...» أو في رواية أخرى: «خياركم في الجاهلية...» لا ينطبق عليه. المهم هنا: مَن نصدق؟ هل نصدق رشاد البيومي الذي قال عنه إنه كان فتوة يخشى بأسه حتى قطاع الطرق والمجرمون، أم نصدق الحاج علي عبد الحليم الذي قال عنه إنه كان قاطع طريق ومجرماً؟!
ذهلتُ وأنا أقلب في حزمة من المجلات القديمة، منها مجلة «أبولو» ومجلة «الثقافة» أني وجدت لصاحبنا في الأولى قصيدة يرجع تاريخها إلى شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1934 يرى فيها أن القمر مكتئب حزين، ويذرف الدمع لأنه غائب في الصباح بسبب انتشار نور الشمس. ووجدت له في الثانية قصيدتين يرجع تاريخهما إلى شهر أغسطس (آب) عام 1939؛ الأولى أهداها إلى التي لم يرها غير مرة، وشم فيها أحلامه، ولم يحظَ منها إلا بالنظرة العابرة، والأخرى يدعو فيها إلى إطلاق الروح في دنيا الخيال واستقبال القمر بنشوة وابتسام.
هذه القصائد تحمل هذا الاسم: أحمد محمد إبراهيم نار وفي إحداها كتب محل إقامته، وهو كفر محمد أحمد في منيا القمح.
لستُ أقطع بأنه هو، وإن كنت أرجِّح ذلك. لذا فإني أسأل «الإخوان المسلمين» المصريين المعتّقين، ومنهم الشيخ القرضاوي مستفهماً: هل هذا الشاعر الرومانسي هو الذي في رواية لكم كان فتوة وفي أخرى كان شيخ منصر؟
أحمد نار مؤلف الكتاب كان في النظام الخاص، ونعرف هذا من كتاب عضو النظام الخاص محمود عساف: «مع الإمام الشهيد حسن البنا»، ونعرف هذا من تقديم المخيف عبد الرحمن السندي لكتابه، وهو التقديم الذي جاء على عكس ما هو شائع، في مؤخرة الكتاب لا في مقدمته، وباسم منقوص. وللحديث بقية.
وسوم: العدد 793