محنة الأمَّـــة .. وبدايـــة الأزمــــة!
في الأسبوع الماضي؛ ألقيتُ محاضرةً في المركز الإسلامي بـمدينة "برمنجهام" بإانجلترا، وقد احتدمَ الجدالُ على أشدّه -بعدما فرغتُ مِن كلامي- ولا زال الناسُ –لاسيما أدعياء السلفية، وغِلمان الوهابية- لازالوا غاضبون مِن صراحتي الشديدة عن أسباب التراجع الحضاري الذي أصاب الأمة؟ وكيف انتشر الفكر التكفيري المظلِم مِن كهوف أفغانستان إلى أدغال أفريقيا؟ وكيف نجحت الأنظمة الاستبدادية في تحويل "أُمَّة سيد العالمين" إلى مضحكة التاريخ؟!
إنَّ ما قلته –في المحاضرة- لم يخرج عمَّا هتف بهِ زعماءُ الإصلاح؛ أمثال: الأفغاني، والكواكبي، ومحمد عبده، وفريد وجدي، وعبد الله النديم، والبشير الابراهيمي، ومالِك بن نبي، والشيخ الغزالي، وطه جابر العلواني، وغيرهم من أولي الألباب.
نعم؛ لمْ أخرج في حديثي عمَّا ذهب إليه هؤلاء الأعلام المجدِّدون، لاسيما العلاَّمة/ عبد الحميد أبو سليمان- الذي طرح هذا الموضوع وعالجه بمهارة، في كتابه الشهير (أزمة العقل المسلم) وفصَّله تفصيلا. وأعلن أنَّ فصول الأزمة بدأتْ منذ سنة 40 هجرية، أيْ: بعد انتهاء الخلافة الراشدة، وتحوّل الحُكْم إلى مُلْكٍ عضوض دعائمه القبلية والعصبية والاستئثار والاستبداد، وكان طبيعياً، وقد تغيَّرتْ القاعدة السياسية، أن يستقر الأمر لسلطان بني أمية، ولا يستقر لعثمان أوْ عليّ أوْ الحسن مِن بعده -رضي الله عنهم جميعا.
وكان طبيعياً أن لا تقوم على مدار أكثر من قرن من الزمان قائمة للجماعة القليلة من رجال الالتزام الإسلامي في مكة والمدينة، وأن تُدمَّر صفوف الحسين بن عليّ، وعبد الله بن الزبير، ومحمد ذي النفس الزكية، وزيد بن عليّ، وسواهم في حروب أهلية طاحنة كانت الغلبة فيها للقاعدة القبلية الواسعة، لتزداد تمكناً بتقدم الأزمان مع جموع الأمم الوافدة على الإسلام من فرس وروم وهند وترك وسواهم من الأمم التي انضوت تحت لواء الإسلام دون أن تتاح لها الفرصة للتربية والتدريب، كيْ يصهروا نفوسهم في بوتقة الإسلام الخاصة الخالية من شوائب الجاهليات والعصبيات والباطنيات!
هكذا كانت بداية الانحراف والتباعد عن غايات الإسلام ومفاهيمه الخالصة ومنهجه السليم؛ هي غلبة الأعراب من رجال القبائل، وبالتالي تغيُّر القاعدة السياسية لتنتهي الأمة إلى قيادة ونظام هو خليط من إسلام وجاهلية.
وإذا كانت غلبة الأعراب على جيش الفتح وإسقاط الخلافة الراشدة، وإقامة مُلك بني أمية في موضعها السبب الأول للتغيير والانحراف، فإنَّ ما نجم عن هذا التغيير الظاهر الملموس من تغيير معنوي كان أشد خطراً وأبعد أثراً، فقد نتج عن هذا التغيير انقسام في صفوف القيادة الاجتماعية مثّل فصاماً بين القيادة الفكرية عن القيادة السياسية، وكان أساساً هاماً لِما نجم بعد ذلك من عوامل الضعف والتدهور والتمزق وتراجع الطاقة الهائلة التي فجرها الإسلام في النفوس!
فبعد قيام سلطان العصبية والأثرة والقهر في نظام المجتمع الإسلامي؛ فإنَّ القيادة الفكرية الإسلامية الملتزمة المتمثلة في أرض الحجاز وحاضرة الخلافة الراشدة لم تتقبل التغيير الجديد وفكره وغاياته، فهبّتْ لمقاومته على أساس عقائدي وفكري، وليس على أساس قبلي.
وحين أنهكت الثورات والحروب الأهلية الطاحنة لأكثر من قرن من الزمان أصحاب الفكر والالتزام الإسلامي الذين لمْ يستطيعوا استقطاب جماهير الأمة التي سيطر على عقليتها وتربيتها عقلية ومفاهيم القبلية والشعوبية والطائفية، اضطرت صفوفهم إلى التراجع والانطواء بعيداً عن القيادة السياسية والتخلي عن أسلوب المواجهة والقتال، وأخذت القيادة السياسية الجديدة في محاصرتهم ومحاولات إخضاعهم لمآربها وتضييق الخناق على معاقل الصلابة في مقاومتهم حتى كان نصيب كبار العلماء وعلى رأسهم الأئمة الأربعة الإيذاء والنكال؛ ليموت الإمام (أبـو حنيفـة) في السجن دون أن يقبل تولِّي القضاء لسلطة سياسية غير ملتزمة، وليُضرَب الإمام (مـالك) حتى تُشلّ يده لِما جهر به من فتوى بطلان طلاق المُكره وما كان لهذه الفتوى من دلالة سياسية سلبية على خلخلة قبضة السلطة السياسية القائمة، كما نال الإمام (أحمـد) الكثير من العذاب والأذى لمعارضته مخططات السلطة السياسية، وكان نصيب الإمام (الشافعـي) الهرب من حاضرة السلطان في بغداد بعد أن سِيقَ إليها مُكبلاً من اليمن لخوف السلطة من فكره ونشاطه السياسي حتى لجأ إلى مصر –تلك الحاضرة البعيدة عن مركز السلطان– طلباً للسلامة والنجاة. بلْ إنَّ التهمة "العجيبة" التي أرادوا أن يحاكموه من أجلها؛ هي حب آل البيت والثناء عليهم، وما عُرِفَ آنذاك بفرقة "الرافضة" مما جعله ينشد في ذلك:
يا راكباً قِفْ بالمحصّب من مِنى إنْ كان رفضاً حُب آل مُحَمّد واهتفْ بقاعد خِيفها والناهض فليشهد الثقلان أنّي رافضُ!
لقد شكَّل هذا التمزق والفصام بين القيادة الفكرية الإسلامية والقيادة السياسية الاجتماعية الأساس لتراجع وتمزق نسيج المجتمع العام وتدهور الفكر والأنظمة الإسلامية وانحطاطها وفتح الباب واسعاً أمام قوى التدهور والفساد والانحطاط .. لاسيما مع تطور الأجيال وتبدل التحديات، حتى غدتْ الهوة بين المثال والواقع لا تخطئها العين، فأصبحت الغايات أماني، والإنجازات تاريخاً وذكريات، وأصبح إفلاس المجتمع، وإفلاس قياداته السياسية بسقوط الأمة في قبضة أعدائها واضحاً، كما أصبح إفلاس قيادته الفكرية ظاهراً للعيان، بل لم تعد هذه القيادة قادرة على أخذ زمام المبادرة، وتجديد طاقة الأمة الحضارية، لمواجهة الهجمة الحضارية الوافدة. لذلك انفصلت القيادة السياسية عن القيادة الفكرية، وعارض السلاطين العلماء، وباعدوا بينهم؛ مما أدى إلى الركون إلى الحرفية والتقليد، وإلى اتباع الجاهليات والأهواء، حتى عجزت الأمة عن الاستمرار في توليد المعارف وتطوير الأنظمة، لبلوغ آفاق حضارية متنامية! فمنذ انفصام القيادتين: السياسية والفكرية، وعزلة القيادة الفكرية؛ تعيش الأمة على بقايا الهياكل القديمة! فازدادت معاول الإنحراف السياسي والفكري والحضاري، إلى جانب تغير الأحوال وتبدل المجتمعات، حتى لمْ يبقَ من البناء الإسلامي التاريخي إلاَّ رسومه وهياكله!
لقد مثَّل هذا الفصام بين القيادة الفكرية والقيادة السياسية التربة الخصبة لأمراض الأمة؛ والتي جعلتها اليوم تقف فكرياً ومادياً مبهورة الأنفاس –عاجزة ومهددة في صميم وجودها وكيانها– أمام التحدّي الحضاري الغربي، الذي انتصب يهددها مادياً ومعنوياً بالسحق والدمار.
فقد أدى هذا الفصام النكِد أولاً: إلى عزل القيادة الفكرية عن المسئولية الاجتماعية والممارسة العملية، وهذا بدوره كان العامل الأساس والأهم خلف عجز العقل المسلم وضموره حتى انزوى في أروقة المساجد بين طيات الكتب النظرية والتاريخية التي تعني في جوهرها بأسلوب وصفي ونهج لغوي في معرفة مرامي وغايات نصوص الكتاب والسنّة، ومحاولة الحيلولة بين السلطان وأتباعه وبين استعمال هذه النصوص كوسيلة وأداة لتأصيل انحرافاته، وانتهى الأمر بهذه المعركة إلى ما عرف بقفل باب الاجتهاد، ولمْ يكن في الحقيقة للاجتهاد باب يُقفَل ولا دار تُهدَم! وإنما كان ذلك تعبيراً عما انتهى إليه الأمر من الضمور الذي أصاب الفكر من آثار عدم الالتزام لدى القيادة السياسية وما لِحقَ ذلك من محاولات السلطان السياسي للقهر والاستبداد بتطويع كل شيء تصل إليه يده لخدمة مصالح السلطة وأعوانها وعصبياتها، مما جعل العلماء ينكفئون على ما في أيديهم في صحون المساجد بعيداً عن كل حادث وجديد!
وقد أدى هذا الفصام النكِد ثانياً: إلى جهل القيادة السياسية وحرمانها من وجود قاعدة فكرية تخدمها وتواكب معها المتغيرات وتمدها بالفكر والسياسات والبدائل، فلا غرابة إذنْ أن تتحول القيادة السياسية في مجمل تاريخ الدولة الإسلامية إلى سلطة مستبدة غشوم تأخذ الناس بالقهر والخسف ولا يكون للشورى ومشاركة الأمة مجال ولا نصيب في تسيير شئون الأمة وتوليد قناعاتها وطاقة بذلها وعطائها، ولا غرابة أيضاً أن ينتهي الأمر بمجمل الأمة إلى الاضمحلال والانحسار والتراجع الحضاري في الكيان النفسي والفكري وفي المؤسسات والنظم ... حتى صارت أُمَّة خير الأنامe؛ في مؤخرة الأمم وذيل الحضارات! فضحكتْ من جهلها الأمم .. ومازالت الأمم تضحك، وستضحك كثيراً ... مادامت العقلية السلفية التكفيرية هي السائدة، ومادام سفهاء الوهابية؛ يصعدون المنابر، ويتصدرون للفتيا، ويوجِّهون الرأي العام، ويقودون المجتمعات المغلوبة على أمرها إلى المصير المجهول ... وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون!
وسوم: العدد 793