هل تراجع الإمام البنا عن فكرته؟!
(1)
سيظل تاريخ وسيرة الإمام الشهيد حسن البنا وإقامته لجماعة الإخوان المسلمين وعمله الدعوي والسياسي والاجتماعي في فترة زمنية لم تتجاوز العشرين عاما مجالا للبحث والتنقيب عن مسيرة رجل يمكن أن يقال عن أن ما أنجزه خلال هذه المدة وفي ساعات عمله اليومية تفوق بأضعاف كثيرة ما يمكن أن يتصوره الناس عن انتاج رجل لأكثر من أربع وعشرين ساعة في اليوم.
فقد كان أبا وله زوجة وأسرة وعمل يقتات منه قبل أن يجبره إخوانه في الجماعة على التفرغ لجماعته، وإضافة إلى زياراته وتجواله داخل القطر المصري وخارجه وكتاباته في الرسائل ووسائل الإعلام ومحاضراته في دروس الثلاثاء، وحضوره شخصيا في ندوات ومؤتمرات تفرض عليه الاستعداد لها بما يتناسب مع داعية صاحب مشروع رغم وضوحه وأصالته الشرعية والوطنية ومصاحبته للتطور السياسي والاجتماعي العالميين، فقد كان يبذل جهدا يوازي جهد العصبة أولي القوة للتعريف به والدفاع عنه، ولم تكن دعوته تحمل أي غموض فقد كان واضحا في أهدافه وكما جاء في رسالة المؤتمر الخامس عام 1939 ميلادية:
(نحن نعتقد أن أحكام الإسلامي وتعاليمه شاملة تنظم شؤون الناس في الدنيا وفي الآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية أو دين ودولة...).
ويحدد فكرة جماعة الإخوان المسلمين في النقاط التالية: (دعوة سلفية – وطريقة سنية – وحقيقة صوفية – وهيئة سياسية – وجماعة رياضية – ورابطة علمية ثقافية – وشركة اقتصادية – وفكرة اجتماعية).
ولم يكن عليه رحمة الله غافلا عن أن فكره وجماعته سيواجهان صعابا وإنكارا وكان يتوقع أن تأتي ساعات تشتد فيها المحن ليس فقط على من يحمل فكر جماعته ولكن على الفكر نفسه ومبادئه إنكارا وتشويها، فقال في رسالة (إلى أي شيء ندعو الناس): (إن تكوين وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ ... تحتاج إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف .. ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر .. وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل .. ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه، والخديعة بغيره..).
وبعد هذا التاريخ الطويل للجماعة وقناعة الملايين على امتداد الأرض بفكرها وتمسكه بها وثباته عليها بالرغم من كل محاولات الطعن فيه .. بل وأمام حملات التغريب وتشويه الإسلام نفسه .. واغتيال المؤسس بواسطة سلطات دولته .. هل من العدالة أن يأتي أحد اليوم ليبحث عن نوايا الرجل وينسب آراء له، لم ينطق بها علنا أو يقول بها صراحة توازي على الأقل صراحة الطرح الأول للفكر اعتمادا على ظن أو التماسا لحديث منقطع في محتواه وظروفه من سياقه وأهدافه؟
(2)
واقع ما يعلمه الناس من تاريخ الإمام الشهيد أنه كانت له شبكة اتصالات واسعة مع الكثيرين من الهيئات والأشخاص خارج القطر المصري وداخله، ولطبيعة الاحتلال العسكري القائم وقتها، والموقف المعادي من النظام الحاكم وبعض القوى المدنية والسياسية، فقد كانت له اتصالات بهيئات وشخصيات مدنية وعسكرية لا يعلم أحد عنها شيئا، إلا ما اختص به بعض إخوانه داخل الجماعة لتحقيق مهام محددة، ومن هذه الشخصيات من كان قد بايع الجماعة أو المحبين لها العاملين بصدق لأجل دينهم ووطنهم، وكانت كثيرة ومتعددة اختفت أسرار معظمها مع من لقي ربه من الإخوان بعد أن اعتبروها أمانة لم يأذن لهم الإمام بالإفصاح عنها، ومن أبرز هذه الشخصيات التي كانت على صلة بالإمام القاضي المستشار حسن الهضيبي (عليه رحمة الله) الذي كان عمله كقاضي يمنعه من العمل السياسي وبقيت بيعته للإمام لا يعلم أحد عنها شيئا غير وصية منه لبعض إخوانه بالعودة إلى الأستاذ المستشار حسن الهضيبي في أمور الجماعة إذا تعذر الاتصال به شخصيا (أي الأستاذ البنا) .. وكانت مفاجأة اعتبرتها الجماعة تزكية للرجل واعتبرها هو (عليه رحمة الله) تكليفا تقتضيه البيعة التي في عنقه.
ومثال آخر يقارب مثال الأستاذ حسن الهضيبي (المرشد الثاني للجماعة) وفعله هو بعد ذلك عندما قام بتكليف أحد رفاقه في الصلة مع الإمام الشهيد وهو الأستاذ عبد العزيز علي (عليه رحمة الله) بمسؤولية متابعة عمل الجماعة في عام 1962م، وبقيت مسؤوليته عن الجماعة حتى خروج الأستاذ سيد قطب من السجن.
والأستاذ عبد العزيز علي كان عضوا في قيادة الحزب الوطني الذي اسسه الزعيم مصطفى كامل في 16 رمضان 1323-22 أكتوبر 1907 ، ولكن تم حله مع حركة الجيش في عام 1952 ، وكان رئيسه في ذلك الوقت الأستاذ فتحي رضوان، ليمثلا معا ومع غيرهما الشخصيات الوطنية الشريفة التي سعى عسكر 1952 لتقديمها كواجهة مدنية لهم وتكليفهم بتولي وزارات قبل أن ينسحب رحمه الله ويفاصلهم.
وبهذين المثالين يمكن إدراج طبيعة حديث الإمام الشهيد حسن البنا مع الأستاذ فتحي رضوان صاحب الصلة العميقة معه، والتي لم يعلم أحد بمدى عمقها، وهل كانت مثل صلة الإمام مع الشخصيتين السابقتين بمعنى أنها بيعة له أم أنها كانت ثقة متبادلة، ومحاولة من الإمام لتخطي العقبات التي كان الاحتلال البريطاني يفرضها على الدولة المصرية بعدم إعطاء الجماعة فرصة الوصول إلى البرلمان للحديث عن دعوتهم في المجلس الشريعي، وكان التطبيق العملي لها ما فعلته سلطات الاحتلال مع ترشيح الإمام نفسه مرتين متتاليتين، مما حدى بالإمام رضوان الله عليه لمحاولة تحقيق ذلك عن طريق تكليف بعض أفراد الإخوان ليكونوا في إطار الحزب الوطني للقيام بهذا الواجب الدعوي.
وهذا الموضوع كان قبل الأحداث الساخنة التي حدثت عام 1948م، بما يعني أن الجماعة ومرشدها كانا في سعة من أمرهما وفي قمة العطاء الداخلي والخارجي، وأن الإمام الشهيد حسن البنا لم يكن في وارد التراجع عن يقينه بشمول الإسلام لكل نواحي الحياة.
والآن وبعد هذا الزمان فإن من العدالة والإنصاف أن لا يشوه أحد تاريخ الإمام الشهيد وينسب إليه موقفا أمام الله سبحانه وتعالى وبمسؤوليته عنه.
(3)
الدنيا كلها تشهد أن ما تعرضت له جماعة الإخوان المسلمين خلال مراحل تاريخها كله من صعاب كانت كافية في أي مرحلة من مراحلها أن تقضي عليها، وبفضل الله وحده بقيت صامدة كالصخرة التي تتحطم عليها معاول المخالفين، وأنها تحملت في سبيل التمسك بما رسخ في قلوب وأرواح وعقول أفرادها من شمول الإسلام لكل نواحي الحياة الكثير من البلاء الذي شمل رجالها ونسائها وأطفالها، ولم يستثن رمزا (حيا كان أو ميتا)، والتاريخ يقول أن الرموز والقيادات هم الذين كانوا أصحاب القسط الأوفر من البلاء، ولو علم الناقدون أو الباحثون المحايدون والمنصفون وغيرهم قيمة ما فعلته الآية الكريمة من سورة القلم في توجيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم (ودوا لو تدهن فيدهنون) في ما عليه الجماعة وأفرادها من ثبات لوفّر عليهم عناء الضرب في مجاهيل النفوس.
ومع هذا التاريخ فلا يمكن لبشر انتمى للجماعة وبايعها أو حتى اختلف معها وعاداها أن ينكر على أي فرد فيها بشريته ولا أن يكون الجميع على قدر واحد من طاقة الصبر والاحتمال، أو مجردا من الانفعالات البشرية التي خلقها المولى عز وجل في خلق من خلقة جعله سبحانه من الطين كما جاء في سورة (ص): (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين ...).
وأمام القول الذي نقله رمزان من رموز جماعة الإخوان المسلمين ممن عاصروا الإمام الشهيد عليهم جميعا رحمة الله، هما الشيخ محمد الغزالي والدكتور فريد عبد الخالق من أنه وفي ذروة المحنة والشدة التي واجهت الجماعة عام 1948 وكان مجهدا وحزينا لما يجري لأفراد الجماعة أنه قال: (ليس لنا في السياسة حظ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لعدت بالجماعة إلى أيام المأثورات)، وأن هذا الحديث كان في اليوم السابق لمقتله الذي تشاركت فيه قوى عديدة.
وقبل التعرض لمناقشة هذه المقولة التي صدرت عن الإمام البنا في لحظة من الزمان الكل يدرك قسوتها، فيبدو أنها مع ما ورد على فكره من دفع مجموعة من الشباب لدخول العمل السياسي على لوائح الحزب الوطني مع رئيسه الأستاذ فتحي رضوان، قد أصبحتا من لوازم ومفردات الكثير من المقالات عندما تواجه الجماعة أي محنة .. وليست كلها بريئة بقدر ما هي محاولة للتأثير على فهم الجماعة وقدرتها على الصمود والثبات على ما توقن أنه الصحيح من الدين.
وعودة إلى حديث الإمام الشهيد حسن البنا الذي يغفل الناس عن أنه إنسان له انفعالاته وله عاطفة متدفقة وحانية على كل أبنا الدعوة ، كانت ظاهرة وبادية لكل من حوله مقتديا في ذلك بقدوته المصطفى صلى الله عليه وسلم "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ"، "أمّتِي أمّتِي يا رب"؛ وهو الجانب التاريخي من شخصية الإمام التي من المفروض مراعاتها لتكتمل بها رؤية شخصيته والحكم عليها حين يصدر عنه مقولة من المقولات التي تخالف تماما ما كان يعتقده من صحيح الدين وجمع عليه إخوانه وكان يبشر به في كل الدنيا.
هذا الجانب هو الذي حكى عنه بعض من كانوا قريبين منه وكان لا يجد حرجا في أن يترك العنان لمشاعره والإفصاح عنها في وجودهم، وعن هؤلاء الإخوة عرف البعض منهم أنه كان يبكي بكاءً شديدا إذا تعرض واحد من جماعة الإخوان المسلمين لأي مكروه، وأنه في حالات كثيرة كان لا يراعي ما يقال عنه الآن (بروتوكولات) اللقاءات إذا علم أو شعر بأن أحد الحاضرين قد أصابه مكروه، أو حتى تعرض لمكروه بسببه، أو بسبب عمل تم تكليفه به من قبل الجماعة.
وهي مواقف كثيرة، وفي أيامه الأخيرة التي كانت مضنية له بدنيا ونفسيا ووصف حالته فيها الشيخ محمد الغزالي: (... وأفزعني أن عانقت عظاما معلقة عليها ملابس! كانت الهموم قد اخترقت جسد الرجل، فلم تُبْق منه إلا شبحا يحمل وجهه المغضّن (أي المكدود) العريض).
وفي مثل هذه الحالات كإنسان هل يعيب أحد عليه أن يتأوه أو يصرخ أو أن يُحمّل شخصه ما جرى، كمن يقول مثل من يواجه أزمة أو كارثة لو كنت فعلت كذا لكان كذا .. أو لو كنت فعلت كذا لكان كذا كما يحدث مع كل الناس، خصوصا وأن النظام الظالم الفاجر المتآمر اعتقل وطارد كل إخوانه وتركه هو وحده طليقا يأوي في آخر ساعات يومه إلى منزله، وهي مشاعر لم يتذوق لهيبها من حرمه الله من حلاوة الأخوة في الله.
ولأن ما قاله الإمام الشهيد ويسعى البعض إلى محاولة التضليل به وعدم حصره في الجانب الإنساني وأنه لم يكن غير صرخة من الألم دون الرجوع عن ثوابت ما يعتقده من دين الله، فيمكن الرد عليه بالواقع العملي للجماعة بعد استشهاده عليه رحمة الله، بالآتي:
1- لو كانت تعبيرات الإمام الشهيد وحديثه هو ما انتهى إليه لأعلنه على الملأ قبل استشهاده أثناء محاولاته إنهاء الأزمة مع النظام، وأيضا لأعلن عنها من كانوا وسطاء من شخصيات وطنية قبل أو بعد استشهاده ومنهم صالح حرب (باشا) رئيس جمعية الشبان المسلمين التي تم إطلاق الرصاص على الإمام بعد خروجه من مقرها ليلة إطلاق الرصاص عليه.
2- أن الرمزان الكريمان الشيخ الغزالي والأستاذ فريد عبد الخالق شاركا في عضوية الهيئة التأسيسية ومكتب إرشاد الجماعة بعد عودة الجماعة للعمل بعد انتهاء محنة 1948م، ولم يعتبرا ما قاله الإمام هو قرار.
3- وحتى ولو كان قرارا من المؤسس الشهيد الإمام حسن البنا فهو عليه رحمة الله والجميع يعلم أن مثل هذا القرار لابد أن يصدر عن مؤسسات الجماعة الرسمية .. فهذه هي جماعة الإخوان المسلمين،.
4- لو كان توجه الإمام الشهيد حسن البنا حقيقيا لأخبر به من كان يرشحه ليكون أمينا على الجماعة وهو الأستاذ حسن الهضيبي (عليه رحمة الله)، وهو ما لم يقل به المرشد الثاني الذي لم يتنازل عن الثابت من أفكار الجماعة بشمول الإسلام لكل نواحي الحياة والثابت عن الأستاذ الهضيبي في ذورة الخلاف مع عسكر 1952م ورؤية البعض من أعضاء الجماعة المخالفين لتجنب الصدام معهم هي الانسحاب من العمل السياسي لمدة، ولمعرفته بخطط العسكر، وأمانة لتاريخ الجماعة وفكرها والوطن فقد كانت له مقولة حاكمة (لا أقبل أن تتحول جماعة الإخوان المسلمين لجمعية دفن موتى).
5- كل أعضاء أول مكتب للإرشاد بعد استشهاد الإمام كان إجماعهم على ما انتهى إليه فكر الجماعة وكان تصورهم عما تم نقله لهم وبمعرفتهم لعواطف الإمام ومشاعره تجاه إخوانه أنها كانت صرخة تنفيس عن حزنه وألمه لما كان يحدث لإخوانه.
6- وبعد ما حدث من الانقلاب العسكري المصري في عام 2013 على كل مكتسبات ثورة الشعب المصري في 25 يناير 2011م، قد يكون من الطبيعي وأثناء مراجعة الجماعة للحدث أن يرى فرد أو أكثر –على سبيل المثال – رأيا مخالفا لخوض الجماعة معركة الانتخابات الرئاسية تحديا للعسكر، وهو أمر مقبول إذا بقي في هذه الجزئية خلال تقييم الأداء والتي تعني حصر الخطأ في اجتهاد واحد وهو غير ما يقال أن التوجه الكامل للعمل السياسي كان خطأ ومخالفا لفكر الجماعة الذي كان يريده الإمام البنا.
والله سبحانه هو الهادي إلى سواء السبيل.
وسوم: العدد 794