ما هو قصد البنك الدولي من وراء إصدار تقرير يوصي بالابتعاد عن مهارة الحفظ
ما هو قصد البنك الدولي من وراء إصدار تقرير يوصي بالابتعاد عن مهارة الحفظ في مدارس دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بما في ذلك المغرب ؟؟؟
كثيرا ما نسمع بمقولة الحفظ يؤثر سلبا على الذكاء ، وحينما تصدر هذه العبارة عن شخص أو جهة لا علاقة لهم بقطاع التعليم يلتمس لهم عذر الجهل بمهارة الحفظ أو الاستظهار أو الاسترجاع ، أما أن تصدر هذه العبارة عن هيئة دولية كالبنك الدولي ،والذي يوجد فيه خبراء على دراية تامة بما يوجد في كل القطاعات، فالأمر يدعو إلى الشك في النوايا التي يصدر عنها هذا البنك بخصوص مهارة من مهارات التعلم يعتبر الحديث عنها من شأن أهل الاختصاص .
ومما قال أحدهم في مقال نشر يوم أمس على أحد المواقع ما يلي :
" أوصى تقرير جديد أصدره البنك الدولي دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، وضمنها المغرب بالابتعاد عن نظام الحفظ والتلقين في المدرسة ، والعمل على التشجيع على التفكير النقدي والإبداع لزيادة معدلات النمو وتحقيق الرخاء "
هذه التوصية ليست بريئة كما قد يظن الكثير ممن يترقبون توصيات هذه المؤسسة البنكية الدولية سنويا والتي يكون ظاهرها مساعدة دول العالم الثالث على تحقيق النمو والرخاء ، وباطنها شيء آخر معلوم لا حاجة للخوض فيها، لأن القصد من هذا المقال هو التنبيه إلى استهداف هذه المؤسسة البنكية الدولية مهارة تعلميّة ذات صلة بثقافة دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا العربية الإسلامية .
من المعلوم أن مهارة الحفظ أو الاستظهار أو الاسترجاع هي مهارة من مجموع مهارات التعلّم لها كغيرها دور في تحقيق أهداف التعلّم .
ومن المعروف في ثقافتنا الإسلامية أن هذه المهارة ذات صلة بديننا ،لأن القرآن الكريم الذي هو الرسالة الخاتمة المنزلة على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم له صلة وثيقة بمهارة الحفظ والاستظهار والاسترجاع حيث أنزلت هذه الرسالة على قلب نبي الإسلام، فكان يسترجعها ويستظهرها ويحفظها كما أنزلت إليه ، وفي هذا شرف لهذه المهارة التي يستهدفها الذين لهم حساسية تجاه الرسالة الخاتمة التي تحول دون تحقيق أهدافهم المبيتة والمكشوفة .
إن الهدف غير المعلن من وراء استهداف مهارة الحفظ هو استهداف الرسالة الخاتمة التي دأب المسلمون على حفظها عن ظهر قلب وذلك لمنع تداولها ، وتنزيل تعاليمها الموجهة للبشرية نحو ما يحقق نموها ورخاءها ورفاهيتها وسلمها وأمنها في العاجل والآجل .
وتحاول جهات عدة منها البنك الدولي أن تلقي في روع الدول الإسلامية أن سبب تخلفها هو مهارة الحفظ التي تميز ثقافتها ، وتسود في مدارسها لثنيها عنها واستبدالها بما يجعل الاحتكاك بالرسالة السماوية الخاتمة فاترا شيئا فشيئا إلى أن يصير منعدما ، وتصير هذه الرسالة ككل تراث مكانه المتاحف وليس الواقع المعيش .
ولقد ثبت علميا وواقعيا أن المتعلمين الذين يمرنون ذاكرتهم على مهارة الحفظ أو الاستظاهر أوالاسترجاع هم أذكى وأنجب المتعلمين، لأن هذه المهارة توسع من طاقات ذاكراتهم الاستيعابية ،علما بأن هذه المهارة تساعد باقي المهارات، وتقدم لها خدمة كبرى ، ولا يصح بتاتا أنها تؤثر سلبا عليها كما يزعم من يجهل قيمتها ودورها في كسب المعرفة .
ومعلوم أن التعلّم يبنى ويراكم ، ولا يمكن أن يحصل ذلك دون مهارة الحفظ التي تصون مخزونات الذاكرة من الضياع والتبخر . ومعلوم أن البشرية اليوم تفخر باختراع تكنولوجيا حفظ ملايير المعلومات في الذاكرات الاصطناعية. ومهما يحصل من تطور تكنولوجي في مجال حفظ المعلومات ، فإنه لا يمكن أن يستغني عن الذاكرة البشرية العجيبة التي هي وراء كل تطور علمي وتكنولوجي عرفته أو ستعرفه البشرية مستقبلا .
ولا يمكن أن يستغني أي علم أو أية معرفة مهما كانا عن مهارة الحفظ التي تجعل الطريق ممهدا لباقي المهارات ، فعلى سبيل المثال لا الحصر يعتمد علم الطب على هذه المهارة اعتماد كبيرا بحيث لا يتسنى لطالب هذا العلم أن يقطع أشواطا فيه إلا عن طريق استيعاب جسم الإنسان عضوا عضوا حفظا قبل أن ينتقل إلى تعلم كيفية تطبيبه . وعلى غرار علم الطب لا بد من مهارة الحفظ في كل العلوم سواء المادية أو الإنسانية . ولا عيب في اكتساب هذه المهارة بل العيب في عدم اكتسابها ،لأن الذين لا يكتسبونها يظهرون عجزا واضحا في اكتساب المعرفة مقارنة مع الذين يحفظون كما يشهد على ذلك الواقع .
ومعلوم أن النوابغ في كل المعارف يفخرون بقوة الذاكرة التي تعتمد أساسا على مهارة الحفظ . وبالعودة إلى تاريخنا الإسلامي نجد أن نوابغنا كانت قدراتهم على الحفظ متميزة يكاد من يسمع شيئا من أخبارها لا يصدق ما بلغوه من حفظ يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل في صباهم ثم تتسع دائرته شيئا فشيئا حسب مراحل العمر حتى تبلغ مبلغا قد لا يصدقه الناس في زماننا حينما يطلعون على أخبار حفظهم العجيب والغريب . ولقد كان الحفظ دعامة قوية لهم مكنتهم من امتلاك شتى المعارف في شتى التخصصات حيث كان طبيبهم فيلسوفا وأديبا وشاعرا وفقيها ومحدثا ...إلى غير ذلك من المعارف التي لا مندوحة فيها عن مهارة الحفظ .
ويؤكد الواقع المعيش عندنا في مؤسساتنا ومعاهدنا وجامعاتنا ما سجله التاريخ من نبوغ السلف وعلاقته بالحفظ حيث أبان طلاب العلم الذين يحفظون كتاب الله عز وجل عن تميز واضح في مختلف المعارف من طب وهندسة ومعلوميات ... وهذا يذكر بمقولة للعلامة ابن خلدون رحمه الله الذي أشار إلى بركة حفظ كتاب الله عز وجل في مرحلة الصبا ،والتي تكسب الحافظ قدرة على التعلم بسهولة ويسر .
ولقد أثبت التعليم العتيق عندنا أن ما كان عليه السلف من حفظ وعلم ونبوغ أمر ممكن في كل زمان حيث أبان طلبة هذا التعليم عن قدرة فائقة على التحصيل لأنهم يباشرون تعلم مختلف المعارف بعد حفظ كتاب الله عز وجل الذي يساعدهم على حفظ ما دونه، ومن ثم يقدح فيهم زناد باقي المهارات التعلّمية من تحليل وتركيب ونقد وإبداع ...
ونختم بالقول إن أهمية مهارة الحفظ في ثقافتنا الإسلامية المستهدفة اليوم من طرف جهات عدة منها البنك الدولي الذي يحكمه منطق الربح والخسارة المادية ليس غير، جعلت سلفنا الصالح يشيدون بها ويسمون المتمكن منها حافظا، ذلك أن الكثير من العلماء تثبت صفة حافظ على مؤلفاتهم أمام أسمائهم وألقابهم وكناهم إشادة بهم واعترافا بمكانتهم العلمية .
وأخيرا علينا أن نثبت للبنك الدولي ولغيره أن الحفظ عندنا من مقومات شخصيتنا وهويتنا وثقافتنا ، وأنه هو ما يميزنا عن غيرنا ، وأنه ليس هو سبب تعثر التعلم في مدارسنا بل تغييبه هو السبب في ذلك . وعلى أمتنا المغربية وغيرها في شمال إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط أن تكون على وعي بما يحاك ضد مقوماتها الإسلامية لخلق هوة بينها وبين دينها الذي هو صمام أمانها ، ووسيلة نهضتها وتطورها ، وأنه هو ما يخشاه الذين يكيدون له بشتى الطرق والوسائل والأساليب التي باتت مكشوفة وصارخة .
وسوم: العدد 799