دوافع الدعم الأمريكي للكيان الإسرائيلي كما يراها تشومسكي
«هل سنبقى في تلك المنطقة؟ هناك سبب واحد للبقاء.. هو إسرائيل». يعجبني في ترامب تبجُّحه بما كان يستتر منه الآخرون، وصراحته الفجّة وحديثه المباشر في قضايانا، فها هو يُعبّر من خلال جملته السابقة عن الحقيقة التي تقول إن إسرائيل هي طفل أمريكا المُدلّل، ويعكس استمرار الدعم اللامتناهي لذلك الكيان المسخ. لسنا في حاجة إلى البرهنة على تلك الحقيقة، بقدر ما نحتاج إلى الوقوف على أسباب هذا الدعم، ومُعظم النخب العربية تُردّد ما يريد الأمريكان ترديده فقط دون غيره من أسباب محورية أُريد لها التهميش.
أبرز ما يتم على أساسه تفسير التبنِّي الأمريكي السرمدي للاحتلال، هو قوة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، ورغم الاتفاق على أهمية هذا السبب وثِقَله، إلا أنه ليس هو المحرك الرئيسي لسياسة البيت الأبيض تجاه إسرائيل، فالمصالح الإستراتيجية لأمريكا هي التي تُحدّد القرار الأمريكي كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري، وإن الضغوط الصهيونية ذات أهمية ثانوية تُؤخر القرار قليلا أو تُعدّل شكله، لكنها لا تُحدده أو تُعدل اتجاهه الأساسي، فسر نجاح اللوبي الصهيوني في أنه يدور في إطار المصالح الاستراتيجية لأمريكا، ويطرح دولة الاحتلال باعتبارها أداة لتحقيق هذه المصالح، فمصدر نجاحه ليس ذاتيا ولكن بتوافق مصلحته مع المصالح الأمريكية. لنا أن نعرف أن عددا من الرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم في أمريكا دعوا إلى قيام دولة إسرائيل، قبل أن تكون هناك تجمعات يهودية لها ثقل يُذكر مثل أندرو جاكسون، وبخلاف ما يتم ترويجه عن قوة الصوت اليهودي في الانتخابات داخل أمريكا، فقد انخفض عدد ممثلي اليهود في مجلسي الشيوخ والنواب في انتخابات 1994 ما يعكس تراجع قوة جماعة الضغط اليهودية، ومع ذلك زادت درجة الانحياز الأمريكي لإسرائيل، فليس الانحياز لإسرائيل إذن مرهون بتصاعد قوة اللوبي. ولا يقال إن اللوبي يُوجِّه سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل لسيطرة المالي اليهودي، فحجم المال الذي تتحكم فيه الجماعات اليهودية يُشكل نسبة ضئيلة مقارنة برأس المال الكلي، ولنا أن نعرف أن اللوبي الصهيوني لا تقتصر عناصره على يهود، وإنما تتضمن عناصر علمانية وليبرالية وإنجيلية ونحوه.
البعض يُفسر ذلك الدعم بأنه ينطلق من المصالح الأمريكية في المنطقة بوجود حليف استراتيجي قوي وسط الدول العربية، لكنه رغم حقيقته النسبية إلا أنه ليس هو الدافع الأساس، فمصالح أمريكا في المنطقة العربية تصطدم بذلك الانحياز الواضح للكيان الصهيوني، على حساب مصالح العرب، ويُعرّض المصالح الأمريكية للخطر، ومع ذلك تستمر في دعمها المفتوح للاحتلال.
هذه الأسباب وغيرها توضع حتما في الحسبان، لكن ثمة سببا جوهريا آخر يتغافل عنه كثير من الكُتّاب العرب، ربما تفاديًا لاتهامهم بالتفكير من منطلق ديني. لكنني تحفّزتُ إلى تناول هذا السبب الذي قرأتُ وبحثتُ فيه كثيرا من قبل، بعدما شاهدت لقاءً مُتلفزًا للمفكر الأمريكي ناعوم تشومسكي، نشره الإعلامي أحمد منصور على حسابه الشخصي في الفيسبوك، وطابق ما لديّ من خلفية معلوماتية.
يستعرض تشومسكي أسباب الدعم الأمريكي لإسرائيل، ومن أهمها أن الحزب الجمهوري، وهو الحزب الأقوى في أمريكا، الذي يدعم دولة الاحتلال بقوة، يقوم على قاعدة شعبية مُكونها الأعظم هم الإنجيليون، وهم داعمون متحمسون للسياسات الإسرائيلية وأصحاب مبادئ تدبيرية (البعد الديني النبوءاتي)، فهم يتطلعون إلى معركة هرمجدون، حيث يُقتل الجميع وتصعد الأرواح المُخلصة إلى السماء. وبسؤاله: ماذا يحدث لليهود عند ذلك؟ قال: بحسب ما تقول بعض النظريات فإن 160 ألف يهودي سوف يؤمنون بالمسيح، وأما البقية فستلحقهم اللعنة الأبدية، ويرى أن سبب دعمهم لإسرائيل بسبب تفسيراتهم للكتاب المقدس. يؤكد تشومسكي على أهمية الأسباب الدينية الثقافية في ذلك الدعم وهي المسيحية، حيث نشأت الأصولية المسيحية قبل الأصولية اليهودية، وأشار إلى أنهم (أي الأصوليين المسيحيين) يقرؤون في الكتاب المقدس عن ضرورة عودة اليهود إلى فلسطين. قطعًا لو نقلت هذا الكلام عن كتاب إسلاميين لاتهمتُ بالتطرف والخبال الفكري والوقوع تحت سطوة التفكير الخرافي، لذا آثرت التعبير عن قناعاتي من خلال المفكر الأمريكي اليهودي نعوم تشومسكي، فأول ما قرأت عن هذا الموضوع كان من خلال كتب ومحاضرات الداعية السعودي سفر الحوالي (كتاب «يوم الغضب»، ومحاضرة «القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى»).
وما ذكره تشومسكي اختصارًا، أود التوسع في ظلاله قليلًا، حيث أن الأصوليين أو الإنجيليين يؤمنون بحرْفية العهد القديم والجديد معًا، ووفق اعتقادهم فإن قيام دولة إسرائيل تمهيد لعودة المسيح المُخلص، الذي يواجه الوثنيين (المسلمين وغيرهم) وذلك خلال معركة كبرى تُسمى «هرمجدون» أي: سهل مجدون في فلسطين، وأن السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين تأخير لوعد الله، وهؤلاء ليسوا جماعة انعزالية تعيش في رهبنة، بل أصحاب نفوذ اجتماعي وإعلامي غاية في القوة والتأثير، ويتبؤون مناصب رفيعة في الحكومة منها منصب الرئاسة. ووفق اعتقاد هؤلاء أنه بعد المجيء الثاني للمسيح سيؤمن به جمع غفير من اليهود، وتهلك البقية، لذا يشتركون مع الصهاينة في هدف واحد رغم عداوتهما، وهو قيام دولة إسرائيل. هذا المعتقد قامت على أساسه العديد من الحركات الدينية أبرزها، الحركة التدبيرية التي ضمت 40 مليون أمريكي، منهم الرئيس الأسبق رونالد ريغان، وجدير بالذكر أن ريغان كان شديد الكره لليبيا لاعتقاده أنها واحدة من أعداء إسرائيل الذين ذكرتهم النبوءات، بحسب الكاتبة الأمريكية جريس هالسل في كتابها «النبوءة والسياسة». واستنادًا إلى تلك النبوءات التوراتية، تمكنت الصهيونية المسيحية (الأصوليين أو الحرْفيين) بكل منظماتها، من تكوين ضمير جماعي في المجتمع الأمريكي بوجوب الدعم الأمريكي لإسرائيل. وهو السبب ذاته الذي من أجله دعمت إنكلترا الصهاينة وعملت على تمكينهم في فلسطين، حيث أن السائد في أمريكا وانكلترا هو المذهب البروتستانتي الذي يعتبر المظلة الفكرية والمنهجية لهؤلاء الأصوليين الإنجيليين. ولا أدري، إن كان الكُتّابُ والمفكرون الغربيون يتحدثون عن هذا السبب، فلماذا يُحْجم مفكرونا وكُتّابُنا العرب عن الخوض في هذه القضية وبيانها للناس، بل إنه يتعين عليهم فضح هذه الطائفة المتطرفة التي تفوق في خطرها تنظيم «داعش» بكثير.
إن الولايات المتحدة كما يقول إدوارد سعيد، هي أكثر الأمم انشغالًا بالدين، وهذا التيار الديني المهووس بعودة المسيح عقب قيام الدولة الإسرائيلية، هو تيار خطير لديه استعداد لارتكاب أعظم الحماقات، فعلى الأقلام العربية والاسلامية ألا تغفل عن هذه الحقيقية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 802