خلق التواضع بين الحاكم الغربي والحاكم العربي
ما ينبثق من القلب ينفذ إلى القلب لكون النفس الإنسانية مفطورة على التأثر والاستجابة لكل ما هو صادق من الشعور والقول والعمل ، وما فيه شبهة نفاق وتزييف وتضليل تنفر منه فورا ، أو بعد حين قليل عندما تتعرى حقيقته قبيحة دنيئة الغاية . سحرني ما استشعرته من قوة الصدق في سلوك الرئيس الأميركي السابق أوباما في زيارته إلى أطفال مرضى لابسا زي سانتا كلوز ، وحاملا كيس هدايا لأولئك الأطفال لمناسبة عيد الميلاد . احتضنته طفلة منفجرة بكاء ، تأثرا بالمفاجأة التي سترافقها ذكرى عذبة غالية ما عاشت ، واحتضن أوباما أطفالا آخرين ، . وتفجرت السعادة في وجوه الجميع وضحكاتهم . مشهد تمنيت مثله في العالم العربي حيث قسوة القلب وموت الشعور الإنساني هما السائدان المتحجران في القول والفعل ، ولا أغالي ولا أتيأَس . بهجة الجميع وانفعالهم لحضور أوباما فسر بكونه علامة على شعبيته المتصلة من أيام رئاسته . في الغرب ، الغرب العدواني الظالم الذي يصدر لنا الخراب والموت وكل صنوف الشرور ، وأخطرها وأقبحها حمايته للطغاة العرب ؛ يصبح الرئيس أو أي مسئول كبير آخر بعد تركه منصبه مواطنا عاديا آمنا لا تطارده قضايا ولاتهم بعد . كان المنصب وظيفة حمل عبء أدائها وفق القانون ، لم يكسب قرشا واحدا زيادة فوق راتبه ، ولم يوظف فردا أو مجموعة من أقاربه ومحاسيبه مهما كانوا معدومي الأهلية مثلما يحدث في العالم العربي الذي ينقلب فيه الوطن مزرعة أو متجرا خاصا بالحاكم وأولئك الأقارب والمحاسيب سواء أكان النظام ملكيا أم أميريا أم جمهوريا . هوية الإفساد والإفساد واحدة . ويظل المسئول الغربي متواضعا خلال توليه المسئولية وبعدها امتدادا لشخصيته قبل توليها . في العالم العربي ، سواء أكان الحاكم متورثا أم متجددا يصير ... فوق كل الناس ، أقواله وأفعاله مقدسة . كل كلامه مصيب ولو كان الخطأ الأكبر ، وكل أفعاله حكمة وحزم وقدوة ولو كانت الحماقة والبلاهة عاريتين . يواطىء الأعداء ويؤثر مصالحهم على وطنه وشعبه ، ولا يجرؤ أحد على التلميح إلى تواطئه ، وهو يشن حربا عدوانية على أشقاء له ، تستمر أعواما ، وتتعاقب فيها هزائمه وخسائره المليارية الدولارية ، ويجب أن ينعت في بلاده ويعامل باعتباره الشجاع الملهم الحازم الذي لا عيب له مهما صغر حتى نسمعه يستعطف الناس داعيا لهم بالرحمة : " رحم الله امرأ أهدى إلى عيوبي ! " ومن الحق ، ومن العدل ، أن يكون استعطافه ودعاؤه : " رحم الله امرأ أحصى عيوبي عددا ! " ، فهي من الكثرة والوفرة حتى لتحتاج إلى آلة حاسبة . والحاكم العربي يغير الدستور لتمديد رئاسته ، وقد يستمر في الحكم 9 سنوات ، مثلا ، بعد انتهاء رئاسته التي ليس فيها من الرئاسة سوى اسمها ، وقد يحول جيشه إلى مؤسسة تجارية وصناعية وزراعية مبعدا له عما وجدت الجيوش من أجله ، وهو حماية البلاد من أعداء الخارج . والحاكم العربي بصفته مسلما أولى من يكون متواضعا رحيما ، متنائيا عن التكبر والقسوة ، فالله _ تعالى _ يمتدح التواضع : " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ... " ( آل عمران 159 ) ، وفي الحديث الشريف : " وإن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدكم على أحد ولا يبغي أحدكم على أحد " ، ولأن لله في خلقه شئونا شتى ، ولأنه _ سبحانه _ وهب هؤلاء الخلق القدرة على تطوير أمورهم بما فيه صلاح أحوالهم ؛ يظهر أوباما المتواضع الرحيم في أميركا ، ويتوالى عندنا ظهور الطغاة المتكبرين القساة ، ولاحقهم عادة أسوأ وأعتى طغيانا وظلما من سابقهم لغياب من يردعهم أولا بأول . وإذا كانت أميركا ابتليت بعد أوباما برئيس معتوه شبه مجنون ، يلكم هذا ويركل هذا داخل إدارته ، فلا نظن من يليه سيكون في سوئه أو أسوأ منه إلا إذا عجز الأميركيون عن التعلم من غلطتهم الكبرى بانتخابه الذي تزدحم الشكوك والتهم حول نزاهته .
ويظل صحيحا ما قاله خليل مطران : " لا تلم نيرون إني لائم * أمة لو كهرته ارتد كهرا "
كل قوم خالقو نيرونهم * قيصر قيل له ،م قيل كسرى " .
وسوم: العدد 804