النخبة الإسلامية وحتمية المراجعة
ما لاحظته، من متابعاتي، ومن مشاهداتي، أن كثير ا من النخب العاملة في الحقل الاسلامي تعتقد بأن ما تحمله بالذات يجسد الغاية والهدف: حياة سعيدة في الدنيا وفوز في الاخرة. هذه النخب في رؤيتها تعيش حقيقة عالمين منفصلين: اللاشعور والواقع. هذه النخب تعيش الواقع المعاش اللاسلامي وتمارس فيه حياتها، وتجهد للدخول في كل مؤسسات المجتمع وبالتحديد السياسية. كما تعيش في الوقت ذاته حالة شعورية ترفض هذا الواقع، وتذمه، ولا ترى فيه اية فائدة. الواقع برأيها تحديا لإرادة الله.
هذه النخب (أتكلم عن الوسطيين) ترى الحل بازاحة النظام اللاديني واستبداله بحكم الشريعة التي وحدها تعطي البشر حياة خيرة وطيبة!
العجب ان النخب في هذه الفئة ترى نفسها المثال، ولا تجد غضاضة في التعبير عن تضحياتها، وعن صمودها في مواجهة الواقع. ولا ترى هذه النخب ان كل ما فعلته، وقبلها نخب اسلامية سابقة، هو الاندماج في الواقع، والتنافس فيه، واستخدام الاسلام ( ربما لا شعوريا) لزيادة رصيد الكسب المادي والمعنوي! هذا الكسب كلما تضاعف ازداد معه التصاق هذه النخب بالواقع وصعُب المفارقة بينها وبين النخب اللادينية ( التي لا تنادي بالاسلام حكما لكنها تؤمن به وفق مفهومها الخاص) في التسابق على الزعامة، وعلى الكسب المادي، وعلى الريادة في المجتمع.
إن المتمعن في هذه الظاهرة النخبوية الاسلامية يجد ان تلك النخب تركز على الشكل والشعائر، وتتجنب المضمون بتعقيداته، ومضامينه المكلفة؛ النخب هذه برعت في بناء مؤسسات تربوية، وفي بناء اتحادات طلابية، وكشفية، وحتى احزابا لكنها فشلت تماما في بناء فهم اسلامي لتبرير التناقض في مسارها المائل للشكل على حساب المضمون؛ وما نقصده بالمضمون انها لم تجد تفسيرا او تخط فهما لدور الفرد المسلم في مجتمع لا يطبق الاسلام؛ ودور المال في مجتمع رأسمالي او اشتراكي، ودور السياسة في مجتمع يقصي الاسلام؛ ولذلك كان من اسهل الامور على هذه النخب ان تصبح بسلوكها هذا ممثلة لإسلام روتيني، متعايش مع الواقع، ويفتقد الزخم لتغيير الواقع، وتكتفي بنقد عابر، وحمل ورؤية افلاطونية لعالم مثالي تريده تلك النخب لكنها تعيش نقيضه في الممارسة وفي الشكل؛ ولربما تشكك في صميم وجدانها بامكانية حدوثه!
لم تستطع هذه النخب ان تُعْمل الفكر وتحاول ان تخط مسارا مختلفا؛ فمنذ تأسيس حركة الاخوان في عام ١٩٢٨ (كمثال وليس المقصود وحدها) وهذه الحركة عاجزة رغم كل الفرص أن تُغير الواقع بل بقيت دائما في صراع مستميت معه؛ فما انتصرت ولا تغير الواقع بل ازداد سوءا عليها وارتد سلبا على المجتمع! ولا نقصد في قولنا هذا حركة الاخوان، ولا نبرىء الانظمة الحاكمة، بل هدفنا في هذا تبيان ما نراه العجز النخبوي الاسلامي.
برأيي ان السبب في هذا العجز يعود بالدرجة الاولى الى فكرة أن التغيير لا يمكن الا عبر الإمساك بالسلطة او المشاركة فيها؛ هذه الفكرة بسبب دينامية الاسلام كانت سببا في توجس بقية النخب ( العلمانية) التي لا تحمل الشعار الاسلامي، وتوحدها لصدِّ اية محاولة اقتراب نخبوي اسلامي من السلطة؛ وهكذا امام رغبة نخب اسلامية في السلطة، وعزم نخب علمانية على منعها من الوصول الى السلطة، تولدت مصادمات كبرى زادات المجتمع انشقاقا وتفككا.
الحل، مجرد رأي لا اكثر، هو ان تتقبل النخبة الاسلامية اولا انها بالفعل فشلت في تظهير المثال المرغوب للمستقبل، وانها فشلت كذلك في الوصول الى السلطة، وأنها حتى لو وصلت من خلال ديمقراطية مريضة ( مرسي مثالا) ليس لديها الرؤية ولا الاليات، ولا العلاقات الخارجية، التي تؤهلها للاقلاع بالمجتمع وايصاله لبر الامان.
لذلك:
طالما ان الواقع، والتجارب، والرؤية المحمولة، اوصلت النخب الى طريق مسدود، فلما لا يكون الحل نقيض المُمارس تماما؛ اي التخلي تماما عن مسار الوصول الى السلطة لفرض الشريعة، وتخلى النخب عن التناقض في حياتها بين المظهر والمضمون، والعمل على مسار مختلف يتأسس على التالي:
اولا: تأسيس دولة عادلة حيادية ( الدولة الحيادية لا يعني انها رافضة لثقافة الاكثرية، ولتاريخها).
ثانيا: السعي لجعل الدولة دولة قانون للجميع ولا ضرورة لأن تكون دولة شريعة.
ثالثا: مناقشة واعية للاسلام في ضوء العصر، والانفتاح على رؤى جديدة، تعطي للاسلام بعده الغائي بما يتناسب مع اذهان الناس وضرورات الحياة.
رابعا: الاهتمام بالاقتصاد، ومحاولة دراسته نظريا وتطبيقه عمليا، وعبر مسار الخطأ والتجربة، للوصول الى اقتصاد عادل ومتصالح مع البشر والبيئة.
خامسا: التركيز على الثقافة بشكل كبير؛ ادب وفن وشعر ورواية وغيرها لبث رؤية يتقبلها الشباب، ويؤمن بها؛ فالثقافة هي حصن حصين لأي مجتمع، وانهدام هذا الحصن هو الغاء لوجود المجتمع.
اعود واقول ان النخبة الاسلامية عليها بالفعل ان تراجع تاريخها، وعليها ان تخط مسارا جديدا، لأن الاستمرار بما درجت عليه، لن يثمر الا ما أثمر سابقا؛ تصادم واقتتال وتخوين وظلم وتطاحن بلا فائدة.
واختم بمقولة لنور الزمان، العالم سعيد النورسي، احد اكبر المؤثرين في الحياة الفكرية الاسلامية في تركيا منذ زمن عبد الحميد الثاني ومرورا باتاتورك وحتى بداية الستينيات؛ يقول النورسي ان الفرد في المجتمع هو الجدول، والجالية المسلمة هي النهر، والنهر والجدول يصبان في بركة واحدة هي الدولة؛ فالدولة تتغير وتتأقلم وفق معادلة الجدول والنهر.
وسوم: العدد 807