ثقافة التهجير القسري وتبرير السيطرة

ما زال التهجير القسري قضيّة ملحّة في عالمنا رغم تراكم المواثيق القانونية والإعلانات الحقوقية، فالحالة تتفاقم عالمياً ضمن بواعث متتعدِّدة وملابسات متنوّعة، لكنها تأتي مشفوعة بثقافة تبريرية لا يصحّ التهاون معها.

يتخلّل عمليات التهجير القسري الإقدام على إخلاء مناطق تشتمل على أصول عقارية وموارد وعلى مصالح إنتاجية واقتصادية، تكون بحدّ ذاتها جاذبة لإحلال بديل قد يسعى إلى التمسُّك بها وربما طمس أثر من سبقوا إليها، وهو ما يتطلّب خطابات تبريرية للإقدام عليه ومحاولة توفير مشروعية زائفة له. من شأن هذا أن يحفِّز ثقافة تبرير السيطرة، التي تقوم مثلاً على ادِّعاء أحقِّيّة تاريخية بالمكان والأملاك، مع افتعال حكايات وإحياء أساطير وتأويل التاريخ وتوظيف نصوص وشعارات ثقافية ودينية بما يخدم هذه السرديّة. وليس نادراً أن يتمّ نسج خطاب تاريخي ثأري على أساس إثني أو طائفي لتبرير هذا المسلك، أو نزع امتياز المواطنة أو حتى الصفة الإنسانية ذاتها عن المجموعات البشرية التي يستهدفها التهجير بتصويرها في هيئة “دخيلة” أو “مارقة”.

وقد تنضج الخطابات التبريرية بصفة لاحقة، مثل اعتبار السيطرة على الأرض والعقارات والموارد بعد التهجير القسري حقاً مكتسباً بموجب أحداث الصراع، فيتم اعتبارها “غنيمة حرب” أو “جزاءً عادلاً” لقاء ما يقع اتِّهام المكوِّن السكاني المُهجّر به؛ من قبيل اعتباره الحاضنة الشعبية للخصم أو “العدوّ”.

وقد ينعقد تبرير التهجير والسيطرة على الأملاك بذريعة اتفاقات تمّ إبرامها؛ حتى إن جاءت ضمن ملابسات مُجحِفة أو مشكوك بسلامتها القانونية، أو اعتبار أنّ التهجير وقع جزاء وفاقاً؛ لقاءَ ما تمّ مع مكوِّنات سكانية أخرى، أو بفعل “تبادل سكاني” ونحوه.

من المألوف أن تُنسَج في هذا السياق حجج ومقولات ذات طابع تبريري؛ من قبيل الزعم بأنّ السكان “غادروا مناطقهم طواعية ولا يرغبون بالعودة إليها”، أو ادِّعاء أنّ المهجّرين تنازلوا عنها وافتراض أنهم سلّموا بالأمر الواقع، وهي خطابات تفرض استنتاجاتها المحبوكة كحقائق مُسَلّم بها حتى دون الاكتراث بمطالب المهجّرين أو الإنصات لنداءاتهم المسموعة.

وتُمعِن الخطابات التبريرية لمسلك التهجير القسري والسيطرة في نزعة “لوْم الضحيّة”، بما يخدم وظائف دعائية ويمنح طمأنة ذاتيّة للقائمين على الإخلاء القسري وللمستفيدين من عمليات الإحلال السكاني بعد التهجير؛ على نحو يُراد به شرعنته واستدامته. وقد تقع الشرعنة القانونية، بالفعل، من خلال حزمة قوانين ومراسيم وإجراءات، أو بإعمال أعراف تُناهز في أثرها مفعول القانون؛ بما يرمي إلى تثبيت السيطرة الإحلاليّة على المناطق المهجّرة.

من المألوف في هذا الصدد أن تجري مساعٍ لطمس الأحقِّيّة القانونيّة والتاريخيّة في الأصول والموارد، وهو جهد يقوم على نفي أحقِّيّة المهجّرين بالمكان وأصوله وموارده، وقد يقع هذا بالتلاعب بالسجلات الثبوتية أو العبث بها. وقد يقع التهجير أساساً بناء على حزمة خطوات وإجراءات من بينها سلب الأحقية القانونية أو سنّ قوانين تمييزية في الملكيات العقارية مثلاً، مثل قوانين التملّك الآري في العهد النازي التي دفعت الملاّك اليهود إلى بيع عقاراتهم وشركاتهم بثمن بخس، وبعض “مراسيم بينيش” في تشيكوسلوفاكيا التي نزعت المواطنة والملكيات العقارية من الأقليتين الألمانية والمجرية علاوة على من يُصنّفون بـ”الخونة والأعداء” بالنظر إلى التعامل مع الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية، وكذلك القوانين والإجراءات التي تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على المواطنين الفلسطينيين والتي تكرِّس حالة نزوح السكان أو طردهم كما في “قانون أملاك الغائبين” مثلاً الذي أصدرته دولة الاحتلال سنة 1950 بعد النكبة الفلسطينية، وكما يتجلّى في تعقيد فرص حصول الفلسطينيين على رخص البناء في شرقي القدس منذ سنة 1967 بما يضطرهم إلى بناء مساكن دون ترخيص فيقع هدمها بالتالي، بصفة من شأنها التضييق على سبل المقدسيين في العيش ودفعهم إلى مغادرة المدينة.

لا شكّ أنّ خطابات شرعنة التهجير والإحلال، وكذلك المسوِّغات القانونية والعرفية في سبيل ذلك؛ هي من التحدِّيات الجسيمة التي تحول دون تحقيق العدالة ورتق النسيج السكاني بعد تمزيقه وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل التهجير. تتضافر هذه الخطابات مع مساعي الشرعنة والاستدامة في اتجاه يسعى إلى تثبيت واقع التهجير والإحلال ومنع الاستدراك عليه أو معالجته عكسياً.

وإذ تترتّب على ذلك مصالح جديدة لمكوِّنات الإحلال والاستيطان البديل، مستفيدة من الأصول والموارد التي تعود في أصلها للسكان المهجّرين؛ فإنّ هذه المصالح تشجِّع تواطؤات تحول دون تحقيق العدالة وإعادة الأمور إلى نصابها من جديد.

ولا تكتمل مساعي التهجير القسري والتطهير العرقي إلاّ بمحاولة تثبيت نتائجها أمراً واقعاً، وهو ما يتحقّق عبر جملة من الوسائل والأساليب؛ ومنها محاولة فرض صيغة تعبِّر عن إقرار ضمني من “الأطراف” بالأمر الواقع. وليس نادراً، بالتالي، أن يقع توظيف مقولات “إحلال السّلام” لتكريس حالة التوزيع السّكاني المجحفة المترتِّبة على التهجير والإحلال, كما تتولّى بعض خيارات “الحلّ” أو “التسوية السياسية” تعزيز هذا الأمر الواقع، ومنها مثلاً أسلوب “التبادل السُّكاني”، الذي قد يقوم على تهجير جماعي قسري متبادل بحقّ مجموعات سكانية أو على تسويغه وشرعنته بأثر رجعي.

وإن بات التهجير حالةً دائمة؛ فإنّ أيّ سلام سينهض معه دون الاستدراك عليه وتمكين المُهجّرين قسرياً من استعادة حقوقهم؛ إنما يعني، غالباً، تثبيتَ الأمر الواقع أو الحالة الراهنة المترتِّبة على التهجير، وسيكون هذا سلاماً متأسِّساً على أقدار من القهر وانتفاء العدالة، وقد يكون بالتالي حلقةً من حلقات تثبيت المظالم وتأبيد وقائعها وشرعنتها ودرء فرص الاستدراك عليها، خاصة مع اختلال موازين القوى بين مقترفي التهجير القسري وضحاياه. ولا يجوز تقديم مشيئة الأطراف “الراعية للمفاوضات” على إرادة الشعوب المتضرِّرة، بفرض تسويات سياسية من شأنها تصفية حقوقها غير القابلة للتصرّف وعرقلة استعادة الحقوق السليبة أو درء العودة الكريمة والإنصاف التاريخي والحصول على التعويضات اللازمة.

ثمة حاجة مؤكدة لمراجعات نقديّة لخيارات “التبادل السكاني” وغيرها مما يشتمل ضمناً على فعل الاقتلاع أو يتولّى تسويغه وشرعنته بعد الإقدام عليه، بما يعني ضمناً أنها قد تكون حلقة من حلقات التهجير والتطهير العرقي والإحلال، وإن تدثّرت بمنطق يقوم على التكافؤ في الضرر/ التعويض بين طرفيْن؛ كما يوحي به مفهوم “التبادل”.

ليس خافياً ما شهدته العديد من أقاليم الحروب والصراعات وبؤر النزاعات والتوتّرات، على مدار القرن العشرين، من حالات “التبادل السُّكاني” التي جرت بصفة قسرية تحت التهديدات والمخاوف أو بإرادة سياسية تتجاوز إرادات المجموعات السُّكانية المعنيّة مباشرة بها. وحتى عندما تتوفّر إرادةٌ ما من داخل المجموعات السكانية تقبل بمنحى “التبادل السكاني” هذا؛ فإنّ ذلك، على افتراض شرعيّة تمثيله المجموعات المعنية؛ يبقى كفيلاً بإثارة التساؤل عن مشروعية المساس بالحقِّ الفردي بالوطن والأملاك من خلال قرار سياسي أو توجّه يُفتَرض به أنه “جماعيّ”. ثم إنّ التهجير المترتِّب على “التبادل السكانيّ” لا يقع، عادةً، في ظروف آمنة أو مُريحة، أو ضمن ملابسات من التوعية الكافية بالحقوق، وهو ما يجعل الموافقة عليه رسمياً أو ضمنياً محفوفة بشبهة الإكراه أو التّضليل أو الابتزاز. ويَلحَق بذلك اتِّخاذ خطوات من شأنها تهيئة السُّبُل نحو نضوج مظاهر “التبادل السُّكاني” أو التهجير الناعم عبر تكثيف البواعث الطاردة للسُّكان من أوطانهم و/أو الجاذبة لهم نحو بيئاتٍ أخرى.

تفرض الدروس المُستخلَصة من وقائع التهجير القسري في أقاليم عدّة إيلاء عناية خاصة لتحفيز الشجاعة المدنية في مواجهة ثقافة الطرد والتهجير، والحثّ على تماسك المكوِّنات المجتمعية المتنوِّعة عموماً، لا سيما من خلال القيادات المحلية والدينية ومؤسسات المجتمع المدني والمبادرات الشعبية ووسائل الإعلام، وتعزيز التضامن المتبادل في مواجهة بوادر التحريض ضد المكوِّنات السكانية المرشّحة للتهجير، مع اتخاذ ما يلزم من تدابير وإجراءات تعين على النهوض بهذا الدور.

كما ينبغي كبح التوجّهات والسياسات والإجراءات جميعها التي من شأنها الضغط على مكوِّنات سكانية محدّدة عبر التضييق على فرصها في العيش في بيئاتها أو تحفيزها على الهجرة البطيئة بفعل ظروف ضاغطة. ويدخل في ذلك الضغط على الموارد وفرض التزامات مالية باهظة من قبيل الرسوم والضرائب والغرامات التي يشقّ أداؤها على الفئات المستهدفة بها من السكان، وإقامة منشآت مثل جدران الفصل، أو تعديل البنى التحتية مثل مسارات الطرق؛ بما يضرّ بمصالح تلك الفئات ويضيِّق فرصها في العيش على نحو يدفعها إلى الهجرة.

ثمة حاجة إلى تطوير مراصد الإنذار المبكِّر في حالات التهجير المحتمل في بؤر النزاعات أو الأقاليم المرشّحة لذلك، بما يعين على تعزيز جاهزية الهيئات والأطراف ذات الصلة، إقليمياً ودولياً، لدرء هذه الانتهاكات قبل وقوعها والمسارعة إلى احتوائها في أطوارها المبكِّرة؛ وهو ما يتطلّب إرادة سياسية جادة ترضخ للالتزامات الإنسانية والأخلاقية وللقانون الدولي والمواثيق ذات الصلة لا يبدو أنها حاضرة كما ينبغي في عالمنا.

وسوم: العدد 811