القرارات المرتجلة في الديموقراطيات العريقة .. مجنون يلقي حجرا في بئر فيحار فيه العقلاء

يعيش البريطانيون منذ أكثر من سنتين حالة من القلق والاضطراب نتيجة استفتاء شعبوي انحاز إلى قرار الانسحاب من الاتحاد الأوربي بفارق يقل عن 2% من أصوات المستفتين ..

القرار الشعبوي الذي لم يكن قادرا على استشراف الأبعاد الحقيقية لعملية الانسحاب ولتداعياتها ، والذي صنعته حالة نزق عند فريق ، ولامبالاة سلبية عند آخرين ؛ وضع الديموقراطية البريطانية التي هي من أعرق الديموقراطيات في العالم الحديث أمام تحديات حقيقية لم تجد منذ منتصف 2016 مخرجا منها ..

ورغم صدور دعوات حقيقية للانقلاب على الاستفتاء ، أو الالتفاف على نتائجه إلا أن سدنة النظام الديموقراطي في بريطانيا آثروا الوفاء لديموقراطيتهم على الرغم من الضرر المتوقع الذي يمكن أن يلحق بدولتهم ووطنهم ومواطنيهم !!!

على الطرف الآخر من العالم هناك القرارات الفردية المرتجلة التي ولنما يزال يتخذها رجال الأعمال والتاجر الناجح ترامب في محراب البيت الأبيض الأمريكي ..

فترامب الرجل المغرور بنجاحاته التجارية ما يزال منذ وصل إلى البيت الأبيض يحاول أن يعطي دعاياته الانتخابية بعض المصداقية كأي دعاية يجب أن تتوفر في مشروع إسكان أو مسحوق غسيل ..

الانقلاب على قانون التأمين الصحي الذي أنجزه خلفه بالتعاون مع الهيئات الديمقراطية الأمريكية نفسها - الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران - نقل السفارة الأمريكية إلى القدس - قوانين الهجرة بما فيها بناء الجدار العازل مع المكسيك ، والذي ما يزال موضع أخذ ورد ؛ ولعل آخر ما في هذه الجعبة المفاوضات مع طالبان ثم إعلان الانسحاب الأمريكي من سورية وهو القرار الذي تقول العامة في بلادنا في مثله : مجنون ألقى حجرا في البئر أربعون عاقلا ما أخرجوه .

قرار الانسحاب الأمريكي من سورية - بغض النظر عن موقفنا منه كسوريين - أحدث خرقا في السياسات الدولية والإقليمية بل الأمريكية نفسها إذ ما يزال رجال الخارجية والدفاع الأمريكيون يتفننون في البحث عن الرقاع له ..

على المستوى الأوربي الحليف التاريخي والاستراتيجي للولايات المتحدة يحدث التصريح الفلتة زلزالا لدى دول الاتحاد مجتمعة ومنفردة حتى يتساءل وزير الخارجية الفرنسي في مؤتمر ميونخ عن لغز السياسة الأمريكية في سورية :  ترامب الذي يصعد ظاهرا مع إيران ثم يخلي لها المساحات شاسعة بقرار الانسحاب الخطير  ..

المعركة التي تدور حاليا بين ترامب وبين الكونغرس بشقيه حول الجدار العازل مع المكسيك ، والذي ترفضه الهيئة التشريعية ويصر عليه ترامب ولو بالالتفاف يضعنا أمام تساؤلات حقيقية عن جدارة النظام الديموقراطي العالمي في حالتيه البريطانية والأمريكية ليبقى السؤال عالقا : هل العيب في الديمقراطية الشعبوية اللامسئولة كما في الحالة البريطانية ، أو العيب في الديمقراطيين كما في الحالة الترامبية الأمريكية .. مجرد تساؤلات.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 812