إذا كان كل جيل قد خلق لزمانه فليس من حق الخلف التفريط فيما ورث عن السلف من مكارم
لا يختلف الناس ، ولا يجادل عاقلهم في أن كل جيل خلق لزمانه ، إلا أن الخلاف ينشأ بينهم في الكيفية التي يتعامل بها كل جيل مع ما ورثه عن سابقه . ومعلوم أن الأجيال يرث اللاحق منها السابق ، ويكون الإرث إما ماديا أولا ماديا . ولما كان عجلة الزمان تدور إلى الأمام ، فإن الحياة قد تطرأ عليها تغييرات في جوانبها المادية ، و ربما في بعض جوانبها اللامادية أيضا .
ومعلوم أن كل جيل يبذل قصارى جهده ليرقى بحياته إلى أقصى ما يمكن ماديا ولا ماديا . ولا يمكن للأخلاف أن يحكموا أو يحاكموا الأسلاف على ما كان في زمانهم بموجب قاعدة كل جيل خلق لزمانه ، والعكس يصح أيضا إلا أن الجيل الذي يورّث الجيل اللاحق به الجيد من ماديه ولاماديه من حقه أن يحاسبه على التفريط فيه .
وإذا كان تطوير الجيل اللاحق ما ورثه من سابقه أمرا مطلوبا ومحمودا ، فإن التفريط فيه والتقاعس عن صيانته من الضياع أمر ممنوع ومذموم .
ولقد ركب الأسلاف ظهور الخيل والبغال والحمير ، واتخذوها زينة ، وكان ذلك مناسبا لزمانهم ، وورّثوا ذلك للأجيال التي أعقبتهم ، فلم تنكرما ورثتهم منهم إلا أن المتأخر منها طور وسائل الركوب حتى بلغ بها ما طار به في الجو ، وسار به في البر والبحر بأقصى سرعة ممكنة ،لكن دون ترك ركوب ما ركبه الأسلاف من الدواب ، ودون الزهد فيما اتخذوه منها زينة .ولا أحد يجرؤ على إلزام من تأخر من الأجيال بترك ركوب ما يركبون جوا وبرا وبحرا في زمانهم مما لم يكن في زمان من تقدمهم ، ولكن لا أحد في المقابل يقبل التفريط فيما كان يركب من كان قبلهم ،مع أن بعض الظروف قد تفرض على من تأخر ركوب ما ركب من تقدم ، ولو أنه فرط في ذلك لندم على تفريطه ندما شديدا .
وعلى مثال ما يركب تقاس كل أمثلة ما يتعلق بالموروث المادي . ولا نقول أن كل موروث مادي يكون صالحا لأزمنة جاءت بعد زمانه ، ولكن بعضه قد لا يستغني عنه الناس في أزمنة عديدة تأتي بعده .
ومن المسلمات أن كل متطور لاحق في المجالات المادية إنما يدين بالفضل للسابق منها، ولولا هذا الأخير لما تطور الذي يليه ، فعلى سبيل المثال عن العربة التي كانت تجرها الخيول تطورت كل العربات بما فيها أحدث طراز منها ، وعن قوافل الإبل تطورت القطارات ، وعن السفن الشراعية تطورت كل الجواري المعاصرة والغواصات ، وعن نحت المساكن في الجبال تطورت المباني والقصور ، وناطحات السحاب ... إلى غير ذلك من الأمثلة .
هذا يكون في الجانب المادي أما في الجانب اللامادي، فالأمر يختلف حيث يتعذر تطوير الكثير منه كما يمكن تطويرالمادي، فالقيم الأخلاقية على سبيل المثال لا يقبل الكثير منها التطوير وإنما تقبل التتميم كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " فهو عليه الصلاة والسلام لم يقل بعثت لأطور مكارم الأخلاق أو أغيّرها ، وإنما قال لأتممها أي لأصل بها أقصى ما يمكن من كرم . ولقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان قبل بعثته من مكارم الأخلاق من قبيل كرم حاتم الطائي حين أمر بأن يخلى عن ابنته بسبب ذلك يوم وقعت في السبي .
ولا يحق لجيل من الأجيال مهما تراخى به الزمن أن يفرط في مكارم الأخلاق بذريعة أو حجة أنه خلق لزمانه ، وأن ذلك يخول له أن يتراجع عنها ، ويستبدلها بمساوىء الأخلاق التي هي أنسب لزمانه من مكارمها في اعتقاده .
وإذا كان أعظم موروث لامادي على الإطلاق هو دين الإسلام ، فلا يقبل من أي جيل من الأجيال أو من أي قرن بعد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعي تطويره أو استبداله بغيره بذريعة أفضليته عليه ،وهو الذي أكمله رب العزة جل جلاله ، ورضيه للبشرية جمعاء إلى أن يرث الأرض ومن عليها .
ولا يعقل أن يتعامل مع الإسلام كالتعامل مع وسائل النقل أو غيرها من الأمور المادية ، فيقال لكل جيل إسلامه ، كما أن لكل جيل ما يركب وما يسكن ... وحتى بعض الماديات مما يأكل أو يلبس إذا تطورت أشكالها مع تعاقب الأجيال ، فإنه فيها المتغير والثابت ، فالمتغير في اللباس مثلا هو كل ما يطرأ عليه من أشكال وتصميمات مع تعاقب العصور، لكن الثابت فيه هو أن يحقق الستر الذي أراده الله عز وجل للخلق ، ولا يقبل من جيل من الأجيال أن يرفض الستر بذريعة أنه خلق لزمان العري أو الكشف . وما قيل عن الملبس يقال عن المأكل والمشرب أيضا ، فالمتغير منه مع توالي العصور هو أصنافه ، وطرق إعداده، لكن الثابت فيه هو أن يكون طيبا مما أحل الله عز وجل ، ولا يقبل من جيل أن يتعاطى المحرم منه بذريعة أنه هو الأنسب لزمانه .
إن مناسبة هذا الكلام أن بعض الجهات تستغل مقولة " كل جيل خلق لزمانه " لتجهز على مكاسب الأجيال السابقة المادي منها واللامادي على حد سواء . وأكثر ما يستهدفه تلك الجهات الإجهاز على دين الإسلام وقيمه حتى أن بعضها يجازف تهورا منه بالقول أنه لم يعد صالحا لهذا الزمان وما سيليه من أزمنة قادمة ، وبهذا ينادي بتعطيل قيمه ، واستبدالها بقيم أخرى كالقيم العلمانية على سبيل المثال . ومن هنا صرنا نسمع بالدعوات المطالبة بإقصاء الدين من الحياة لتصير مدنية ،وكأنها بوجود الدين فيها هي عسكرية .
وبناء على هذا صرنا نسمع بمن يطالب بحرية الجسد على سبيل المثال لا الحصر ، وهي حرية ترتبت عنها كل أشكال الفجور مما صار يسمى مثلية ورضائية ، وهي في الحقيقة فواحش حرمها الإسلام ، ومن أجل إشاعتها يطالب من يسوقونها بإقصاء الدين الذي يجرّمها من الحياة تماما ليفسح لها المجال . والمطالبون بشيوع هذه الفواحش كأنهم يقرون أن هذا الجيل خلق لزمان المثلية والرضائية . ومما يحاجج به هؤلاء لإقصاء الإسلام من الحياة أن بعض التشريعات لم يعد المسلمون في هذا الزمان يلتزمون بها كجلد الزناة أو رجمهم أو قطع أيدي السّراق ،لأنها لم تعد مناسبة لأهل هذا الزمان ، وما أدى إلى المطالبة بشيوع الفواحش كالمثلية والرضائية وشيوع جرائم كالسرقة سوى تعطيل حدود الله عز وجل ، وحجج هؤلاء مردودة عليهم ذلك أن الحدود المعطلة اليوم إنما هي صمام الأمان الذي يصون المجتمع المسلم من مفاسد لن تستطيع أشكال بديلة من العقوبات القضاء عليها أو حتى الحد منها ، فمع وقوع أول حالة رجم أو جلد أو قطع يد سيرعوي كل الزناة والسّراق ، ويتم الاستغناء عن عشرات أو مئات المحاكم والسجون ، وآلاف القضاة والحراس . ولا يقولن أحد إن هذا زمن الزنى والسرقة، لهذا وجب تعطيل حد الزنى وحد السرقة لفسح المجال لهما . وعلى غرار القول بتعطيل تلك الحدود، يطالب البعض من أصحاب الأهواء العلمانية بضرورة تعطيل تشريعات إسلامية أخرى وإلحاقها بما صار معطلا منها إلى حد أنه حصلت المطالبة بتعطيل بعض الفرائض ، وتعطيل بعض الأحوال الشخصية ، ولا شك أن شرائع أخرى سيطالب بتعطيلها بذريعة أنه لكل جيل زمانه يفعل فيه ما يحلو له ، ولا يلزمه شرع . وهي مقولة إذا صحت في أمور، فإنها لا تصح في أخرى . ولا تتحمل الأزمنة ما يصدر من عيوب عمن يعيشون فيها ظنا منهم أنها مكارم ، ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :
وسوم: العدد 813