الأمة الإسلامية اليوم أكثر من أي وقت مضى في أمس الحاجة إلى قيادة فكرية راشدة

الأمة الإسلامية اليوم أكثر من أي وقت مضى في أمس الحاجة إلى قيادة فكرية راشدة يشترط في من يضطلعون بها  بلوغ عتبة الكاريزما

لقد عرفت البشرية عبر تاريخها الطويل قيادات فكرية إلى جانب قيادات سياسية . وكان الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يمثلون القيادات الفكرية بالنسبة للأمم التي كانوا يبعثون فيها ، وكان بعضهم يجمع بين القيادة الفكرية والقيادة السياسية . وإلى جانب الرسل والأنبياء عرفت البشرية أيضا قيادات فكرية اضطلع بها الفلاسفة ورجال الدين، وقيادات سياسية اضطلع بها الحكام .

 وغالبا ما كان المفكرون يشاركون الحكام قيادة الأمم ، كما أنه كان الصراع على أشده بينهم في بعض فترات التاريخ حيث كان الحكام يبطشون بالمفكرين .

ولقد قص علينا القرآن الكريم كيف كان الأنبياء والرسل الذين يمثلون القيادات الفكرية يتعرضون لمضايقة الحكام الذين يمثلون القيادات السياسية عندما كانت دعوة الإسلام وهو الدين عند الله عز وجل من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم تتعارض مع أهواء الحكام .

ومن المعلوم أن القيادة سواء كانت فكرية أم سياسية تتطلب صفة الكاريزما ، ولفظة  "كاريزما "  لفظة يونانية الأصل  تعني القدرة على التأثير في الآخرين، وذلك عن طريق توفر أصحابها على مواصفات  تجعلهم قادرين على التأثير فيمن يتوجهون إليهم بالخطاب ، ومن هذه المواصفات الثقة بالنفس ، وقبول الانتقاد ، ورجاحة العقل ، والخبرة  والعلم بالظروف والكيفيات والأساليب التي تضمن حصول التأثير فيمن يريدون التأثير فيهم .

وتنفرد كريزما الأنبياء والرسل عن كريزما غيرهم ،لأن الله عز وجل اصطفاهم لحمل الرسالات وتبليغها ، وألقى في قلوب الناس محبتهم ، وأيدهم بالمعجزات التي كانت تحدث أكبر التأثير في الأمم التي كانوا يبعثون فيها ، كما أن الدعوة التي كانوا ينقلونها إلى الناس كانت تحدث أكبر التأثير في نفوسهم، فتحملهم على الاقتناع بها ، ولهذا لا يمكن أن ترقى  إلى كاريزما الأنبياء والرسل كاريزما غيرهم  مهما كانت درجة تأثيرهم في الناس .

ولقد تميزت كاريزما خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن كاريزما من سبقه من المرسلين بسبب طبيعة الدعوة التي جاء بها ،وهي دعوة للعالمين إلى نهاية العالم وقيام الساعة ، وكان لا بد أن تكون كاريزما الرسول الخاتم متميزة عن كاريزما من سبقه من المرسلين .

ولقد أثرت كاريزما رسول الله صلى الله عليه وسلم في من جاء بعده من قيادات فكرية  وقيادات سياسية كما كان الشأن بالنسبة للخلفاء الراشدين الذين يتميزون كاريزميا عن غيرهم ممن تلاهم من الساسة  . وكانت القيادات يومئذ إما جامعة بين الفكر والسياسة في آن واحد أو كان الساسة يعتمدون على المفكرين في قيادة الناس .

ولقد أتى على بعض القيادات الفكرية حين من الدهر كانوا يبتلون فيها بمحن من طرف قيادات سياسية كانت تريد إخضاعهم لها رغبة منها في تسخير تأثيرهم في الناس لصالحها . ولقد كان الناس يتأثرون بالقيادات الفكرية أكثر من التأثر بالقيادات السياسية ، وكثيرة هي القيادات السياسية التي أطاحت بها القيادات الفكرية بسبب قوة الإقناع لديها ، وقوة التأثير فيمن تتوجه إليهم بالخطاب .

ومعلوم أن القيادات السياسية حتى الكاريزمية منها تخشى القيادات الفكرية  الكاريزمية، فتكون إما متوددة إليها  للاستفادة من صيتها ودوره في التأثير في الناس أومعادية  ومضطهدة لها .

والوضع الحالي اليوم بالنسبة للأمة الإسلامية هو غلبة استئثار القيادات السياسية بالحكم وبصناعة القرار باستثناء بعضها والتي تروم الاستفادة من القيادات الفكرية، وهي تقربها وتتودد إليها عسى أن يشفع لها ذلك عند شعوبها التي تميل أكثر إلى القيادات الفكرية وتثق فيها أكثر مما تثق في القيادات السياسية . وقد تخسر بعض القيادات الفكرية مكانتها لدى الشعوب بسبب قربها من  بعض القيادات السياسية ، وتتهم بالتبعية والولاء لها  بل وخدمتها . ولا توجد اليوم قيادة سياسية يمكن أن  تثق في القيادات الفكرية، لهذا بلغت العلاقة بين الطرفين أسوأ مستوى لها في هذا الزمان ، وتكررت  من جديد مشاهد المحن التي كانت القيادات الفكرية ضحية لها في الماضي .

وتفتقر معظم القيادات السياسية إلى كاريزما ،فتستعيض عنها بالقبضة الحديدية وبالتشبث بالسلطة من خلال تغيير فقرات الدساتير التي تنص على  فترات الحكم المحدودة والتي تمددها  إلى أقصى مدد حتى تصير مدى الحياة . ولما كانت الكاريزما عملة صعبة بالنسبة للقيادات السياسية التي تختار الشمولية أسلوبا لها في الحكم ، فإنها تتوجس من كاريزما القيادات الفكرية ، وتبذل كل ما في وسعها للتضييق عليها ، وقد  تسخر من يتعقبها بالطعن والهمز واللمز للتأثير في مصداقيتها ولسحب البساط من تحتها  .

ومشكلة القيادات الفكرية اليوم هو عدم بلوغ عتبة الكاريزما لعدة أسباب  وعلى رأسها التنافس على الكاريزما ، واعتماد أسلوب الصراعات فيما بينها  والطعون في بعضها البعض، الشيء الذي يقصر بها عن عتبة الكاريزما .

ولقد كانت القيادات الفكرية في العالم الإسلامي  خلال القرنين التاسع عشر والعشرين كاريزمية في معظمها حتى أنها صارت تدرّس في المعاهد  التعليمية بسبب طابعها النموذجي والفريد . ولقد كانت تلك القيادات الفكرية تقود حركات التحرر والنضال من أجل تحرير الأقطار الإسلامية التي كانت تعاني من الاحتلال الغربي . ولقد استطاعت تلك القيادات الفكرية تعبئة الشعوب الإسلامية بسبب كاريزميتها لتحقيق الاستقلال والحرية .

وما أحوج الأمة الإسلامية اليوم إلى قيادات فكرية كاريزمية لمواجهة الحملة الشرسة التي يتعرض لها العالم الإسلامي برمته ، ويتعرض لها الإسلام من طرف خصومه الغربيين ، وطوابيرهم الخامسة المسخرة أو مرتزقتهم للنيل منه بشتى الطرق والأساليب . والقيادات الفكرية مطالبة اليوم بتجاوز عقدة التنافس على القيادة  فيما بينها  ، وعقدة تراشق التهم، لأن ذلك يحول دون توفير الظرف المناسب لوجود كاريزما من شأنها أن تلم شعث هذه الأمة التي تعيش فترة يتم وضياع في ظرف هو في منتهى الدقة.

ومن المؤسف أن نجد  في القطر الإسلامي الواحد قيادات فكرية متعددة لكنها متنازعة ومتنافسة على الكاريزما قد انتهى بها تنافسها إلى الفشل في الظفر بثقة أبناء ذلك القطر ، وكيف يثق هؤلاء بمن هم في مستوى تلك القيادات ويكون شغلهم الشاغل هو الصراع فيما بينهم ، واستقطاب الأتباع والمريدين والتحريش بينهم لنسف كل جهد يمكن أن يبذل من أجل الإسلام وأمته .

ومن واجب الأمة الإسلامية أن تحرص على المساهمة الفعالة في خلق كاريزما القيادات الفكرية ، وذلك من خلال التنبه إلى مكائد الطوابير الخامسة التي يسخرها الغرب لمنع ظهور تلك الكاريزما ، ولبقاء الأمة كقطعان لا رعاة لها . وإن تلك الطوابير الخامسة لتبذل قصارى جهودها لخلق هوة سحيقة بين الأمة وقياداتها الفكرية من خلال التشكيك في مصداقيتها حتى أن بعض تلك الطوابير الخامسة صارت تنافس القيادات الفكرية الإسلامية على الكاريزما ، وتعتمد في ذلك على الدعاية الإعلامية الرخيصة في زمن تطور تكنولوجيا التواصل ، وهي تكنولوجيا صارت تستخدم لاستباحة الفكر حيث صار المتطفلون عليه  من الرويبضة يحسبون على أهله، وهم  مجرد جهال يضلون ويضلون بفتح تاء المضارعة وضمها .

وأخيرا نقول إنه ليس في الوقت  اليوم متسع أمام القيادات الفكرية الإسلامية لإعلان طلاق بائن بينها  وبين الصراع والنزاع  فيما بينها في مؤتمر مشهود يعلن فيه عن ميلاد الكاريزما  المفقودة التي تستطيع أن تجمع بين تلك القيادات جمعا لا تفرق بعده للسير بالأمة نحو نهضة مأمولة إن شاء الله تعالى .   

وسوم: العدد 816