الأيدولوجيات مطية الأحزاب
أيدولوجيات تائهة:
التعددية الحزبية ظاهرة إيجابية، وهي تدل على حيوية المجتمعات وامتلاكها قدرا من الحرية، ولكن التعدد الحزبي عندنا فالأمر يختلف حيث تجد أحزابا بمسميات متعددة، قد يلتقون في الانتماء لأيديولوجيا واحدة قلبًا وقالبًا، وهم مع هذا مختلفون، لا يعود السبب في التعدد إلى الاختلاف على أولويات عملية، أو آليات تنموية، وإنما هو اتهامات متبادلة بالخروج عن الثوابت الوطنية الأصيلة، والانحراف عن ايدلوجيا لا وجود لها على أرض الواقع عمليًا، وإنما هي في الكلام الذي لم يعد يتطرّق إلى مبادلة الفكر بالفكرة، بل إلى الصراع الأزلي المرتكز على قاعدة: (لكي أنجح لابد أن يفشل غيري) وكل ما يعرض عن الآخر من أفكار؛ هي محطّ انتقاص وتخوين وتعظيم الزلات وكتمان الإيجابيات.
وهذا الأمر يتجلى بوضوح بين الأحزاب التي تدّعي تمسّكها بالدين، فهي لم تذكر من الدين إلا ما يجعل الأمة عاجزة عن تصويب مسارها أو تحديد أخطائها وكذلك بين تلك التي تزعم الليبرالية وهي ترفض الآخر ولا تتفاهم معه أو تعطيه حق الوجود، أو العلمانية وتجدها تستنجد بالنصوص الدينية لتثبيت شرعيتها.
الثيوقراطية تغير معناها التاريخي:
في تعريف الثيوقراطية كواقع على الأرض، فهي لا تصف حالة دينية، بل اعتبار الرأي أو القرار أو فكرة مقدسة رغم صدورها عن بشر قد لا يكون مؤهلا لمثل هكذا قرار.
وفي هذا التعريف تجد أن الحالة الثيوقراطية تصف معظم الأحزاب إن أردنا الاحتراز بهذا التبعيض.
فكلامهم ـــــــــ كما يرونه ـــــــــــــ منزّه، وأفعالهم مثالية رغم نتائجها الفاضحة في الفشل والمخرجات التي لا قيمة لها في التنمية، وما جلبوه من كوارث تصيب المجتمع في تعاظم الأمراض الاجتماعية والفقر.
إذا قال رئيس الحزب أو أي متنفذ فيه توالت صرخات الإعجاب دون أن يكون أثرا واقعيا لقوله أو متابعة أو حتى دراسة لما يطرح من رغبات أو حتى أمنيات.
للفساد أيضا معنى متطور:
أضحى الفساد في كثير من بقاع العالم المتخلف نسبيا وله معنىً متباينا، فبعد أن كان عبارة عن اختلاسات أو رشاوي هنا وهناك، أضحى الفساد شاملًا واستحقاقا في بعض المناطق، تتقاسمه مراكز القوى، وعندما تجتاز مالك القوة أو النفوذ حدود تطال مصالح الآخر، يصبح هذا فسادا، ولابد من مكافحته، قد تطال العقوبات أكباشا هنا وهناك أو أناسا كانت ترتع بلا إذن.
ولكن أقطاب الفساد وأذرعه محمية؛ وخصوصا الصناديق السوداء لطائرات الفساد التي تسقط في وقت ما، فيحرص ألا تتعرض لقضاء نزيه أو تحقيق مهني، لأن وراءهم رؤوس ذات سمعة لا ينبغي أن تُمس رغم أنها ذات سمعة ملوثة، فهؤلاء هم عتاة اللصوص المتصفين بضعف الانتماء وفقدان الإحساس والضمير، واليوم نجد هذا منتشرا في بلدان كثيرة وليس في بلد واحد، مع مراعات الفرق الكبير بين من يأكل الحرث والنسل؛ ومن يقضم من سنابل الزرع بعضا ويترك الآخر.
من يحصد نتائج الدعوات الأيدلوجية؟
لا ترى خجلا من الفشل في تحقيق ما تتطلع إليه الشعوب عبر تأييدهم لدعاة أيدولوجيات دينية أو قومية أو طائفية، بل هنالك جرأة في المطالبة باستحقاقات تمثيلية لا تذهب إلى أهلها، وإنما إلى أناس يدعون أنهم يمثلونهم؛ أي على حساب من أمثلهم أتمتع أنا، ولا تدري أي منطق هذا، فهو حال يعجب البعض ويعتبره حالة مثالية مستغلّا أوهاما تقترب من الهلوسة.
والإحساس بفشل القيادات التي غالبا ما تكون من عوائل تاريخية ترث السلطة وراثة قانون ونظام وعرف؛ فالتركيز على مردود تلك السلطات التي أضحت أمرا واقعا لا طائل منه، حيث اتخذت تلك العوائل شرعيتها عن طريق التغلب في الاستحواذ على السلطة، وبناء عليه فإن لها قدرة على قمع أية معارضة، رغم ضعفها النفسي وعدم قدرتها على تحمل النقد لأنها لا تدري بأنها رابضة وجاثمة على صدور من لا حول لهم ولا قوة ولم يعودوا يأملون إلا بالفتات...
لماذا مسار الاقصاء واضح في بلداننا؟
في الحقيقة أن الاقصاء الذي يظهر في أثناء التنافس الانتخابي موجود في كل العالم، بل حتى من غير الانتخابات، فالرأسمالية لا تقبل مخالفًا لنظامها الاقتصادي، أو أي تهديد لنمط حياتها أو أي فكر يفرز أيدلوجيا لها نظرة عن الكون والإنسان والحياة كالشيوعية والإسلام، كذلك الأفكار الأخرى كالشيوعية التي لا تقبل المخالف، وأما حملة الإسلام أو من يسمون أنفسهم بالإسلاميين، فهم عند التطبيق لا يختلفون عن غيرهم بجهلهم للإسلام ووسائله وآلياته، بل وحتى لرسالتيه التي جاءت لإنقاذ البشرية، وهذا واضح من التقليدية والكلام الذي لا ينتج فكرا واقعيا أو قيادة لنظام.
لكن هنالك نوع من التزاوج والتهجين المنتج للمسوخ في منطقتنا بين ما انبثق من ولاية المتغلب، وتكرار الانقلابات، مع إنشاء الروابط الضعيفة التي لا تعطي منظومة قيمية معينة، مثل القومية والوطنية وغيرها، وعداء هذه للحركات الإسلامية تسبّب في حدوث تشوّه خطير في تلك الحركات.
فالإقصاء مسألة غريزية ينظمها عقل الأمور وتسييرها بنظام وتثبيت آليات وحقوق، ومراكز الدراسات التي لا تفهم في واقعنا؛ مهمتها هي استخلاص التباينات والرأي المتعدّد وتحليل الرؤى، وتعديلها لإنتاج أمرا إيجابيا، فهو في كل مكان، وبلداننا أشد مرافقة للأيدلوجيا وتعددها ونقلها من بقاع الأرض مع اسقاطات تاريخية لأمم أخرى وتجارب مختلفة وأسس لم تمر بأمتنا ولا تتناسب وتاريخ الأمة وهويتها التي تبقى في واقع النفسية، وتولي السلطات من يقمع ولا يجمع.... كلها لم تبق مرتكزا تقام علية يقظة للأمة ومن ثم تجذير عوامل النهضة من ثوابت الأمة في بناء عقلية فكرية لا تتناقض والنفسية، وبتناقض الإثنين تكون شخصية الأمة شخصية غير متصالحة وغير واضحة وهزيلة.
الطغيان في بلاد العرب وحربهم لأية فكرة تنويرية:
الطغيان هو تعاظم لغريزة حب السيادة وحب التملك، وما لم يردع بقانون أو أن الناس تتغاضى عنه، وتسمح له باختراق القانون فلا محالة فالطغيان كائن ولا يعود إلى الاستئذان إلا من باب التمتع برؤية الخوف والإذعان، فالغرائز عمومًا هكذا ما لم يضبطها قلب عاقل وإنسان يعقل الأمور متماهية مع حياة رشيدة.
في عوالم لا تختلف على الأيدولوجيات وتقدم التنمية والنفعية، همها الاستقرار، وتعلمت على مر التاريخ أن تسقط هذا التاريخ على واقعها وتعالج سلبياته، فاتجهت إلى القانون، والقانون هو جعل كل المتباينات شرعية فلا تثار مسألة وجودها بين الناس فهي معترف بها من جيل وتطبق طبيعيا من الأجيال الأخرى فيتركز الاستقرار.
ففي عالمنا كانت الدولة مرتبطة بقائد له قدسية كبيرة، ورغم تعدد القيادات وابتعاد تلك القيادات عن القدسية من خلال الاستبداد في السلوك، إلا أن الفكرة بقيت من خلال حشر تعسفيّ لعلماء في الشريعة، بما سمي وعاظ السلاطين ووفق الحالة السياسية وتطورها شكلا ومضمونا، وسخروا تبريرهم للحوادث بما خرج عن ولاية الأمة وحقها في الاخيار واستجابت الأمة ليكون عرفا ثم رسخ شرعا وما هو بشرع ليجري من خلاله اجتهاد لحالات وتعددها.
فبعد أن كان تنظير الماوردي والفرّاء يحافظ على القرشية في الحكم دعما للحكم العباسي، انتقل لاحقا إلى ولاية المتغلب في تنظير السٍمناني، والجويني، والغزالي لدعم حاكم ليس قرشيًا، ثم أخذ جانب ذي الشوكة في تنظير ابن تيمية وغيره، ومازالت الحكام في النظم العسكرية تأخذ شرعيتها من التغلب وتجمله بانتخابات واستفتاءات الكل يعلم أنها ليست حقيقية، ويثورون على من ينتخب فعلا من الناس... ومازال حكم ذي الشوكة قائما في النظم الملكية، لكن كل النظم أضحت في هذا العصر أوليغارشية تستمد ديمومتها من المال والسلطة ولمجموعة من القابضين على الحكم سواء فئة مثل العسكر أو عائلات متوارثة النفوذ، وغيرها من أشكال الاستمرار بالحكم والشعوب لا تقدر على شيء خصوصا بعد أن أدخل الغرب المنطقة في دوامة أعظم من الاحتلال والاستغلال، هي دوامة ما سمي بالإرهاب، فأضحى القمع لأي معارض تحت هذا الباب الواسع المدى، المستنجد بشرعية إضافية من رضى أصحاب المصالح في الدول الصناعية الكبرى.
والحقيقة إن القمع لأي فكرة جديدة سلوك مكرور من حكامنا، فالحاكم جاهل ويعادي أي تجديد أو تطور مطلوب فيقمع أي فكرة حتى لو كانت بالنتيجة تطور حكمه دون أن تسعى لتغييره، فهؤلاء الجهلة المحاطين بثلة من المنافقين اقنعت نفسها حين اكتشفت فجأة ــــــــ مستجيبة للنفاق ــــــــ أن مستوى تفكيرها راقي وأنها أعلم وأفهم ممن في البلاد، فهي القيادات التي إن غابت تدهورت البلاد، وكم النفاق لايريها بأن البلاد تتدهور فعلًا من وطئه حكمها وجهلها وتخلفها.
الانقسام الأيديولوجي الوهمي والتناحر في الأوهام:
سقوط الدولة العثمانية واعتبارها امتدادا للدولة العباسية والأموية والراشدة، ولّد ردّ فعل ايديولوجي أكثر مما هو سياسي، فهذه الدعوات اتخذت جانبا إرشاديا و"عودة للخلافة" أو "استئناف للحياة الإسلامية"، دونما وجود لآليات حقيقية أو خطط فاعلة تراعي أن الزمن يمر وأن الأمة تتغير معطياتها، وأن هنالك أفكارا وأيدولوجيات تدخل منطقة الثروة وتتصارع للهيمنة والنفوذ فيها، وإذا ضبطت المعاهدات ومنها لوزان تركيا "العلمانية" بعد السلطنة فان، دولة كإيران لم تضبط، ولكنها لا تتعامل مع الخلافة واستئنافها بل هي ملكية أوليغارشية توسعت بنفوذها لتسيطر على الشريط النفطي بمحاذات الخليج من الجانب الآسيوي، ولم يختلف جوهر الفكرة القومية وعلاقتها بالدين.
فالعلمانية وغيرها من الأفكار وجدت بعد حالة من الاضطراب والتي تعقبها محاولة بحث عن الهوية والوجود وكان من الطبيعي أن تصطدم بالمتمسكين بالدولة العثمانية فمالت لمقاومة آثار الدولة العثمانية والنزعة لها باعتبارها آخر ما بقي فيها الشريعة التي لم تك حقيقة فاعلة كليا لكنها كانت موجودة بشكل ما وانتهى التعامل بها مع السقوط العثماني، فالعلمانية في المنطقة ليست علمانية أو ليبرالية كما في الغرب وإنما اتخذت جانبا متطرفا في تركيا بالذات ضدّ أي شيء إسلامي حتى العبادات، بينما العلمانية القومية لبقية ما كان تحت الدولة العثمانية أمر مختلف، جعلت الدين جزء من مقوماتها القومية، بيد أن الدين غير فاعل أو له حاكمية، بل يتعاملون معه مجرد أحد المقومات المقدسة حيث يستعان بقدسيته من خلال وعاظ السلاطين الذين بات معظمهم موظف عند الدولة راتبه منها لاستحصال الشرعية.
التعصب للدين عند العلمانيين أكثر من التعصب عند الإسلاميين لأن القومية أصلا نوع من العصبية ولا ينبغي أن تمسّ مقوماتها، فكان نوعا من التملك والاقصاء للإسلاميين الذين يريدون تفعيل الدين رغم أن الفهم ليس متطورا، ولا يأخذ المتغيرات التي حصلت جراء الاحتلال وما بعده.
لا الإسلاميين ولا العلمانيين عندهم برامج واضحة للتنمية، والتنافس بين مجموعة الأحزاب العلمانية يرتكز على فشل الآخر وإخفاقات أدائه ــــــــ كما قررنا سابقا ــــــــ فإذا ما اعتلى السلطة وتخلّص من خصومه، سرعان ما يعود إلى سيرته نفسها وهكذا انقضى قرن من الزمان، وما انفكّ المنهج عاملًا.
ولو كان هنالك وعي وفهم حقيقي لأمكن تحقيق التوافق بين الجميع على التنّمية، وتركوا الخلافات على أيدولوجيات لم تكن يومًا على الأرض فاعلة، اللهم إلا في القهر والتراجع والسلبية.
فالإسلاميون يحملون عوامل النجاح لكنهم فاشلون في فهم فكرهم الذي توارثوه، لا يرجعون حقيقة كما غيّرهم في هذا المجتمع، وإلا لو راجعوا لفهموا مهمتهم أنها ليست تطبيق الشريعة أو وضع الخلافة والشريعة كقالب على مجتمع تغير وليس توقفا ليستأنف، والعالم تقدّم وليس يرجع ليتعامل بأساليب لم تعد صالحة للعصر، فالإسلام إن لم ينبع بمعالجاته بما يلائم الواقع ويخاطبه، لا يختلف عن تطبيق الشيوعية أو الرأسمالية أو أية فكرة وضعية، فهي قوالب لا تناسب المجتمع ليلبسها أو يتصالح عليها.
لو فهموا لأدركوا أن مهمتهم الآن هي إيجاد بيئة لمنظومة فاعليتها التنمية وتجمع الكل، الغاية جعل جو من الهدوء والاستقرار النفسي والفكري بما يسمح للإنسان أن يفكّر بشكل صحيح ويتخذ قراره الذي سيحاسب عليه من رب العباد وليس إجباره بأي وسيلة.
واختصارا لهذا كلّه نأتي إلى أصل الرسالة فنعرف واجب الدولة الحديثة، فأصل الرسالة هو الدعوة لاستعادة العزيمة، (إلا من أتى الله بقلب سليم) أي بتفكير وعقل للأمور سليم هي استنهاض لإعمال العقل وليس فرض أي منهج أو صيغة تفقد الإنسان أهليته للحساب، فليس يمثل عدل الله من يفقد الإنسان قراره وخياراته فما هو الواجب؟
الواجب هو: السعي لمنظومة تعتمد النهضة التنموية لتضع الإنسان في حالة من المساواة ثم العدالة وليكون قادرا على اتخاذ قراره ومسيرته، وقدرة على الفهم والاستنباط؛ عندها سيختار هو نظامه الأيديولوجي وبكل قدراته العقلية والنفسية وتكون النخبة قد أدّت واجبها فعلا والحساب عند الله.
وفي الحقيقة إن التحديات التي تعرضت لها تلك المنظومات، والتعذيب والقمع بأبشع أشكاله، جعلها تتبنى أعرافا قد تنتج الفساد عندما يتعرض أعضاؤها للفتنة جراء ممارستهم السلطة وسيطرتهم على المال، مثلهم مثل غيرهم، لكنهم محميون بالنظام الحزبي الذي لا يختلف في أغلب تفاصيله بين الإسلاميين والعلمانيين على مختلف ومتعدد عناوينهم...
وهذا يمنع الأحزاب أن تزعم أيدولوجيتها تحمل الاسم دون آليات تحولها إلى الأرض، فهي إما مختصرة بإخفاقات المنافس أو شمولية لا تتناسب والواقع المعاش ليس لكونها خطأ أو لا يمكن تفعيلها، بل يمكن تفعيلها ولكن تحتاج إلى تنظير بشري قابل للانتقاد عند الإسلاميين، وتنظير لأليات وقيادة وسيطرة لكل الأحزاب، فمواكبة المدنية والتنمية ليس باستيرادها وإنما بنقلها ولكن باستيعاب كوادر النقل والانشاء ومن أهل البلد لتفاصيلها لكي تصان أو يعاد بنائها وتحديثها عند الضرورة، والمدنية عامة للبشرية فليس بالضرورة ان تنقل كلها ولكن ممكن أن تكون بلداننا مشاركة في إنتاجها وتطويرها.
وخاتمة القول: إن الأيدولوجيات لا تطوّر بلدا وهي تمتطى دون برامج وآليات وإنما ليراك الناس مخاطبا عواطفهم لتحملك الأيدولوجيا للسلطة، وبالتالي ليس من واقع لها غير المسميات، لكنها ستكون خيارات شعب عرف هويته ووصل بثقافته نحو معرفة قيمة الوجود للإنسان وإيمانه بالقيم والتضحية لأجلها ولكن مرة أخرى بعد فهمها وليس يتصورها كما الوهم لا واقع له.
وسوم: العدد 822