صفقة القرن أم صفعة القرن والقضية الفلسطينية
كثر الحديث مؤخرا عن شيء يجهز له في دهاليز السياسة الأمريكية، بعد أكثر من قرن على وعد بلفور، حيث عرضت الإدارة الأمريكية وبالتشاور مع أطراف عربية نافذة "حسب مصادر إعلامية وسياسية عديدة " رؤية جديدة لتسوية القضية الفلسطينية، دأب الإعلام على وصفها بصفقة القرن، ودخل هذا المصطلح دائرة التداول السياسي والإعلامي منذ تولي الرئيس ترامب منصب الرئاسة، وبدأت تتكشف خيوطها شيئا فشيئا وسط غموض يحيط بمضامينها واستحقاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية، وتكاد تجمع وسائل الإعلام على أن جاويد كوشنر مستشار الرئيس الأمريكي هو عرّابها.
فصفقة القرن هي؛ عنوان جزئي في مسار طويل متكامل، ومدخل إلى أفق آخر يتجاوز حدود الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي والعربي الإسرائيلي، لينتقل إلى أفق إعادة التشكيل الإقليمي للمنطقة، وإعادة رسم دور إسرائيل القادم في منطقة الشرق الأوسط الجديد.
ورغم محاولة البعض التشكيك بوجود صفقة القرن من الأساس، والحديث هو اختراع فكرة أصحاب نظرية المؤامرة العرب، أو أكذوبة كما أطلق عليها محمد دحلان في تصريحات له في مارس/ آذار الماضي، إلا أن الوقائع على الأرض تشير بما لا يقبل مجالا للشك أن هناك طبخة تطبخ تحت أي مسمى كان، وهو ما أكّدته تصريحات نيكي هيلي مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، وأن سخونة الحديث عنها ارتفعت مؤخرا لتتناولها وسائل الإعلام وتصريحات سياسيين الغرب، وإن ما يحدث في ورشة المنامة هو حلقة أخرى للصفقة واقترح كوشنر 50 مليار دولار استثمار في فلسطين، ومصر، والأردن، ولبنان.
إن هذا التطور في المشروع الصهيوني لم يكن من فراغ، بل ولد من رحم وعد بلفور ومن ذلك الحين بدأت المأساة وتطورت لتصل إلى المرحلة الحالية، ولو عدنا قيلًا إلى الوراء إلى مؤتمر هنري كامبل بانرمان رئيس وزراء بريطانية عام 1907م، والذي جمع ممثلين عن ست دول أوربية، هو الذي وضع الأساس للدول الغربية في تنفيذ مشاريع التجزئة والتفتيت للدول العربية، وتعتبر هذه الوثيقة من أخطر ما تمّ إعداده من قبل الغرب ضدّ الأمة العربية، وكل ما جرى ويجري إلى الآن هو نتاج هذه الوثيقة، والتي بني عليها احتلال فلسطين، وتقسيم العالم العربي ضمن معاهدة سايكس بيكو، واحتلال العراق وتدميره، والتدخل في شؤن هذه الدول وتفتيتها كما يجري الآن في سوريا، واليمن، وليبيا...
ثم شرح رئيس الوزراء البريطاني فكرته التي أصبحت وثيقة معتمدة، حيث جاء فيها: إن المنطقة الممتدّة من الخليج العربي إلى المحيط الهندي هي سرّ قوتنا وسرّ ضعفنا (الدول المجتمعة)، وهذه المنطقة ضعيفة وجاهلة ومتشرذم، لكن تمتلك كل مقومات النهضة يمتلكون ما لم نمتلك، فالعرب يمتلكون تاريخا واحدا، ودينا واحدا، ولسانا واحدا، وكل المواد الخام التي يحتاجها الغرب، وتستطيع خنق العالم من خلال الممرات المائية -المضايق: هرمز وباب المندب وقناة السويس وجبل طارق- وإن نهضتم لا تحتاج سوى قائد صالح، وإن نهضت سوف تؤثر على بقائكم في القمة، وحتى لا يحدث ذلك فيجب العمل على:
1- إبقاء شعوب هذه المنطقة مفكّكة جاهلة متأخرة.
2- محاربة أي توجه وِحدوي.
3 – زرع جسم غريب يفصل الشرق عن الغرب؛ ويكون ولاؤه لنا (الغرب).
فبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها كشفت بريطانية عن نواياها الحقيقة، واستثمرت الصهيونية الفرصة في توظيف هذه المقررات في إصدار وعد بلفور وإقامة دولة اسرائيل باغتصاب فلسطين كمرحلة أولى، ومن ثم السعي لتحقيق الحلم من الفرات إلى النيل، وقبلها حاولوا مساومة السلطان عبد الحميد على بيع أرض فلسطين وكان موقفه واضحًا خلده التاريخ، إن ما يسمّى بصفقة القرن (صفعة القرن ) هي نتاج لهذا التسلسل، ولا يوجد جديد سوى أسلوب الصياغة والطرح واختيار الوقت المناسب الذي تمرّ به الأمة العربية فهي في أسوء حالاتها، فبعدما تمّ تدمير أهمّ الدول والقضاء على أهم قدرات الأمة في التصدي وهي قدرات: (مصر، والعراق، وسوريا)، وإضعاف الموقف العربي من خلال إثارة الشحناء بين الدول، واستقطاب بعض الحكام العرب من خلال الضغط الأمريكي، والابتزاز السياسي التي تمارسه لصالح اسرائيل، بعد ذلك أصبحت الاجواء مهيأة لطرح المرحلة الأخيرة من مشروعهم الخائب وما يطلق علية ب(صفقة القرن) وهي: صفعة القرن للأمة إن تحقّقت!!!.
وهذه الصفقة هي تكرار لمخططات قديمة جديدة لتغيير خارطة المنطقة برمتها، جغرافيًا وسياسيًا واقتصاديًا، واللافت للنظر أن ما تسرّب عن هذه الصفقة كان من مصادر عبريّة أو غربيّة، أما وسائل الإعلام العربية أو تصريحات المسؤولين العرب فكانت غاية في الغموض والإبهام!
ولا تتوقف أثار هذه الصفقة وحدودها على الشأن الفلسطيني بل تتعداه لكل المنطقة؛ بجوانب وترتيبات ومراحل هدفها الأخير وربما الوحيد هو دمج إسرائيل الكامل في المنطقة واعتبارها شريكًا استراتيجيا وحليفا دائما، وما كان لإدارة ترامب أن تتجرأ وتطرح مبادرات أو صفقات تنهي القضية الفلسطينية، وتتخذ خطوات نقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعتبارها عاصمة لإسرائيل، والاعراف أن الجولان أرض إسرائيلية، لولا تخاذل الموقف العربي، بل ومشاركة بعض القوى العربية المباشرة في هذه الصفقة التي تصل حدّ التواطؤ، إنها صفعة القرن للأمة وليست صفقة، لأنها تستهدف تغيير المنطقة سياسيا، وجغرافيا، ودينيا، واقتصاديا...
ملخص الصفقة هو: ضم الضفة الغربية بدون القدس والمستوطنات إلى الأردن، وتسليم أهل غزة إلى مصر للسيطرة عليهم وإنهاء الوجود الفلسطيني في فلسطين التاريخية، ووضع نهاية لفكرة الدولة الفلسطينية، وتحميل الدول العربية المشاركة في جريمة إنهاء القضية الفلسطينية، وإن السيناريوهات التي تطرحها الصفقة ليست حلولا، وإن الإغراءات التي وعدت أن تقدمها اسرائيل لن يتحقق منها شيء، بل هي صفقة انتحار لكل الدول المشاركة فيها، والرابح الوحيد فيها هو الكيان الصهيوني والباقي خاسرون.
إنها تهدف في النهاية إلى فرض حلّ للقضية الفلسطينية ينطلق من رحم وعد بلفور والاحتلال، ومن الضعف العربي واستسلام القيادة الفلسطينية منذ اتفاق أوسلو، والجديد في الطرح هو الكيفية التي يتم بموجبها تقديم الأفكار الامريكية والعناوين المرافقة لها، إن اللعب بالكلمات هو أسلوب قديم في السياسة، أما ما نحن بصدده فهو اللعب في المصطلحات بحيث يكون العنوان شيء والمحتوى شيء آخر.
فهذه الصفقة لا تهدف الى التنازل المجاني عن فلسطين فقط، لكنها تمهد لألحاق العالم العربي بإسرائيل، وإعادة رسم خارطة التحالفات الإقليمية بشكل يجعل من إسرائيل القوة الإقليمية السائدة والأهم في المنطقة، ودخول العرب في غياهب النسيان والدمار.
إرهاصات ضعف إسرائيل باتت واضحة وكثيرة وفي كافة مناحي الحياة، وإن مظاهر ضعفها وتفككها وربما انهيارها كثيرة، مما أوجب الإسراع في عرض الحلول من خلال صفقة القرن، أو أي صفقة أخرى تؤدي للنتيجة ذاتها من انتشال دولة الاحتلال الإسرائيلي من وضعها المتأزم، لا سيما أن الوضع العربي المنهار مناسب الآن كما ذكرنا.
ورغم ما يبدو من اندفاع اعمى لبعض الدول العربية في تنفيذ الاجندة، فان عوامل تعطيل الصفقة اكثر من عوامل اتمامها، لأنها تحتاج الى ميزانية ضخمة والى فترت زمنية طويلة لتنفيذها، وموافقة الشعب والسلطة الفلسطينية، وانقسام الموقف الفلسطيني المتعسر، وموقف المملكة الأردنية ووضعها الصعب والخطير، وإخلاء سيناء من السكان أو تهجيرهم، عدم وجود إجماع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، عدم وجود إجماع دولي.
إن الصفقة ليست قدرا محتوما على الجميع القبول والخنوع لها، بقدر ما هي مؤامرة جديدة تستند إلى ضعف عام للموقف العربي، وإلى توطئ بعض الأنظمة العربية التي اختلط عليها أولياتها بشكل حول العدو الأكبر للعرب (إسرائيل) حليف محتمل.
وإن الصفقة لا قيمة لها إلا إذا وقّع عليها الفلسطينيون والعرب ووقعوا في فخ القبول بها، والأساس يكمن في رفضها حتى كعنوان ناهيك عنها كخيار، إن المعركة في الأساس ليست مع أمريكا وإسرائيل بقدر ماهي فينا وبيننا كدول عربية، فأما أن نرفض ونكون، أو نقبل ولا نكون!!! و سنكون إن شاء الله.
ولا نبالغ ان قلنا ان تأجيل اعلان تفاصيلها الصفقة اكثر من مرة هو مؤشر على فشلها قبل انطلاقها ، او كم يحلو للبعض تسميتها " ولدت ميتة " ، وهي بيع اوهام للشعب الفلسطيني والشعب العربي ، وسيقول الشعب الفلسطيني والعربي كلمة الاخيرة ان فلسطين ليس للبيع .
وسوم: العدد 830