إدلب: جيبُ استنزاف، و محرقةٌ للسوريين
مُذْ كان القرار بإطالة أمد الصراع في سورية، أصبحت الأمور تسير في حالة من اللاإرادية لدى أطراف الأزمة المحليين، فلا هم يصنعون قرارهم، و لا هم يقررون متى يُدعَوْن إلى جنيف أو سوتشي، فضلًا عن أن يُستَشاروا في جدول الأعمال الموضوع على طاولة النقاش.
و آخر ما كان من ذلك ما يُسمّى مسار أستانا، الذي بات الحديث فيه ملهاة كبرى، و غدتْ تفسيراته كحسابات السحرة في حساب " الجُمَّل "، يريح المأزوم بقرب نهاية أزمته، غير أنه يجعله كالذي يقبض على الماء.
لقد ذهب تحالف روسيا في الملف السوري، إلى تفسيره على أنّه نهاية مرحلة، تمثل انتشاء المعارضة ببسط سيطرتها على 70% من الجغرافية السورية، و صولًا إلى تجميع بقايا قواهم في منطقة لا تزيد عن " 6000 كم2 "، فيما بات يسمّى اصطلاحًا بـ " إدلب الكبرى ".
و ذهب شِبْهُ تحالف المعارضة، إلى النظر إليه على أنّه بداية مرحلة، تقود إلى الولوج في حل سياسيّ انتقالي، استنادًا إلى تفسير مضامين خطة مؤسسة راند، لحلحلة الأمور في سورية، المعتمدة لدى الإدارة الأمريكية، في عهد أوباما، أواخر سنة 2014.
و مضى متزعمو كلا هذين التحالفين في السير في خطته، من غير التفات إلى كثير من المعايير الإنسانية في تجسيد رؤاهم، فمضتْ روسيا بما ذخرت به ترسانتها العسكرية، و بما عُرفت به دبلوماسيتها من المراوغة، و استمراء الولوغ في الدم السوري، وفق ما اعتاد عليه الوزير لافروف، بحكم تخرجه من مدرسة الـ " كي جي بي ".
في مقابل حالة استرخاء شديد لمتزعمي تحالف المعارضة، فضلًا على ذهاب بعضهم في البحث عن مصالحه، على حساب عذابات السوريين إلى المدى الأقصى، من غير أن يعيروا كثير اهتمام للجانب الأخلاقي، لا بلْ حتى الاستراتيجي في تقدير مصالحهم، في بقعة يتنافس عليها حتى صانعو القرار في نيوزلندا، و جزر المالديف.
و مضت أشهرٌ وئيدة على السوريين منذ اتفاق سوتشي في: 17/09/2018، أملوا فيها الخير، و استجابوا إلى ما طُلب منهم من البنود العشرة، التي وقّع عليها الرئيسان: أردوغان، و بوتين في منتجع سوتشي الروسي، الذي منح اسمه لما أسفرت عنه تفاهماتهما، حول أخر محطة في الصراع السوري، المعروف أيضًا باتفاق إدلب.
و بقيتْ الآمالُ معقودةً على أن يسير العمل في بنوده، على كثرة العِلّات فيه، و كثرة الخروقات من تحالف روسيا، بما يحمل لهم شيئًا من الأمن و الطمأنينة و السلام، إلى جاء شهر أيار المنصرم، و حمل معه كثيرًا من المآسي و الآلام لأهالي إدلب الكبرى، و تحديدًا في ريف حماة الشمالي، و قرى جنوب و شرق إدلب، و منطقة الكبانة في منطقة جبل الأكراد الساحلية.
فقام تحالف روسيا بتصعيد غير مسبوق أو متوقّع، فأتى على تشريد نصف مليون إنسان تحت أشجار الزيتون، و هدم مئات المنازل، و تدمير البنى التحتية الخدمية، و هلاك مئات الدونمات الزراعية، في موسم يُعدّ من أفضل المواسم في سورية منذ عدة سنوات، فضلَا على مقتل ما يزيد على أربعمائة و خمسين مدنيًا، ناهيك عن أضعافهم من الجرحى، هذا إلى جانب أرقام مخيفة من قتلى الجانبين في العسكريين المنخرطين في هذا المحرقة، التي لا يُعرف أمدٌ لتوقّفها.
لقد غدت إدلب ـ بحقّ ـ جيبَ استنزاف للأطراف المحلية في هذا الصراع اللاإرادي، حسبما يرى عددٌ من المراقبين؛ إذْ لم يَعُد بمقدورهم أن يقولوا لرعاته: إنّنا استنزفنا و خارت قوانا، و لم نعد نرغب في السير في هذه المأساة، التي صارت ثقبًا أسود " Black hole "، ابتلع قضيتنا، قبل أن يبتلع بلدنا: جغرافيًا، و ديمغرافيًا، و مقدراتٍ، و نهضة.
صحيحٌ أنّ السوريين مازالوا يصرخون بمقولة بابيون، بطل رواية الفراشة، لهنري شاريير: " ما زلْنا أحياءَ أيُّها السفلة "؛ غير أنّهم غدَوْا ضحيةَ قرار سياسيّ، كان من الممكن تجاوزُه.
وسوم: العدد 830