مات شهيداً.. أول وآخر رئيس منتخب لجمهورية مصر العربية
دمه تفرق بين العواصم العربية والدولية، سيبقى لعنة تطارد كل ما تآمر عليه وكان سببا في موته المتوقع في زنزانة ضيقة رطبة كئيبة يحرسها جنود معبؤون بالكراهية تنبعث من سترهم وبزاتهم العسكرية رائحة الموت والفساد والعفونة.
حتى النفس الأخير، وهو أسير زنزانته، وحبيس قاعة المحكمة المسرحية التي كتب فصولها «حزب العسكر» الحاكم في مصر، كان يصر على أن يخاطب بوصفه رئيس جمهورية مصر العربية، سيادة الرئيس، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، دخل قاعة المحكمة بوصفه متهماً بالتحريض على القتل، والتخابر مع جهات أجنبية وإفشاء أسرار الأمن القومي أثناء فترة رئاسته، إضافة إلى مسميات أخرى أقرب إلى مسرح اللامعقول وروايات الخيال العلمي.
بقي حتى رحيله سجيناً لدى عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع الذي وقع على قرار تعيينه بنفسه رغم اعتراض الكثيرين على هذا التعيين.
انتمى محمد مرسي، المولود في عام 1951 لجماعة «الإخوان المسلمين» فكريا عام 1977 وتنظيميا أواخر عام 1979، وتولى رئاسة «حزب الحرية والعدالة» بعد تأسيسه بعد أن كان عضوا في مكتب إرشاد «جماعة الإخوان المسلمين»، ونائب سابق بمجلس الشعب المصري دورة 2000 - 2005.
انتقل إلى القاهرة للدراسة الجامعية بكلية الهندسة 1970-1975. وتخرج من الجامعة بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف وعين معيدا بها. وسافر إلى الولايات المتحدة عام 1978 للعمل وإكمال الدراسة وحصل على الماجستير في الطاقة الشمسية عام 1978 ثم حصل على الدكتوراة عام 1982 في حماية محركات مركبات الفضاء.
وخاض مرسي انتخابات الرئاسة ببرنامج «مشروع النهضة» الذي مثل برنامجه الانتخابي. وأكدت الجماعة في بيانها أن لديها «مشروعاً لنهضة الوطن في مختلف المجالات، وأن مرشحها يحمل هذا المشروع الذي يؤيده الشعب المصري، وتسعي الجماعة والحزب إلى تحقيقه لتعبر مصر إلى بر الأمان، وتتبوأ مكانتها اللائقة بين الأمم والشعوب».
انتخب بانتخابات نزيهة بنسبة أصوات تزيد قليلا على الأصوات التي حققها الرئيس الأميركي باراك أوباما وقتها الذي عجز هو ومستشاروه ومساعدوه، الذين يزيد عددهم على 500 موظف، عن توصيف ما حدث بمصر، لم يهن عليهم وصف ما حدث للرئيس محمد مرسي بالانقلاب العسكري وبأنه رئيس ديمقراطي منتخب أسير لدى الجيش والأجهزة الأمنية الحاكم الفعلي والوحيد في مصر.
منذ اليوم الأول لتسلمه الحكم وقف ضده الجيش والأجهزة الأمنية والأجهزة الخدمية كافة، وسفارات عربية وأجنبية ومنظمات دولية ومجتمع مدني، وفلول النظام السابق وتحالف رجال الأعمال الفاسدين، وضخت أموال عربية الدم واللسان إلى جيوب السياسيين والمعارضين له وأصحاب القنوات الفضائية.
ورث مرسي تركة ثقيلة تقصم الظهر، وهو حين وقف على تخوم الواقع المر لمصر، حاضنة العروبة وبوابة المستقبل العربي، وجد أمامه عشرات الملفات التي تحتاج إلى سنوات من الصبر والعمل والصد والرد.
لا يوجد ملف مصري لا يواجه معضلة أو مأزقا، سواء كان ملفا داخليا أم خارجيا، كل الملفات كانت عبارة عن قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة، وساحة مفتوحة أمام جميع الاحتمالات.
في دولة وصلت ديونها إلى أرقام فلكية، يحتاج المرء إلى أكثر من عصا سحرية أو كيس ممتلئ بالنوايا الطيبة.
وقف مرسي على حد السكين، واجه ماكينة إعلامية رصدت لها ملايين الدولارات من الداخل والخارج، حملة إعلامية حكمت عليه بالفشل منذ اليوم الأول في مواجهة مشاكل تراكمت منذ أن طبق الرئيس المصري الراحل أنور السادات سياسة الانفتاح، كما واجه ضغطا شعبيا متزايدا لتصحيح أخطاء عالقة منذ عشرات السنين بأقصى سرعة وبقفزة تفوق «قفزة فليكس» الأسطورية.
كان هدفا للمعارضة، داخليا خارجيا، المعارضة التي أوحت بأن رئاسة مرسي لمصر هي رئاسة «إخوانية» وبأن البلاد أصبحت «عزبة للإخوان». لم يمنع أحدا من انتقاده ومن الهجوم عليه، لم يعتقل صحفيا واحدا، تحمل الكثير من العبث وقلة الأدب والقصص المختلقة حوله.
مرسي كان حاسما، وربما تعجل الأمر قليلا في السياسة الخارجية مما أثار مخاوف الكثيرين، فلسطينيا فتح المعابر التي أغلقها مبارك، وتنفس أهالي غزة الصعداء في عهده، كما أنه سارع إلى قطع علاقات بلاده مع سوريا وطالب في أكثر من موقع بتنحي الرئيس بشار الأسد عن السلطة، وكان حذرا في التعاطي مع الملف الإيراني وسط هواجس ومخاوف حقيقية من دول الخليج العربي من طموحات إيرانية للعب دور شرطي المنطقة وهو نفس الدور الذي لعبه الشاه سابقا.
وكان الأمر أشبه بالانتصار عند البعض، بعد أن تحدث مرسي أمام قمة حركة عدم الانحياز التي استضافتها طهران حيث «ترضى» على الخلفاء الراشدين. وحين أقحمت الترجمة الفارسية لكلمته اسم البحرين في النص الذي لم يقله أصرت الخارجية المصرية على التصحيح.
مرسي لم يكن ممثلا لـ»الإخوان المسلمين»، رئيس الوزراء ومعظم أركان وزارته لم يكونوا من «الإخوان»، قادة الأجهزة الأمنية والجيش وكبار المسؤولين في الدولة لم يكونا «إخوانا» كانوا من بقايا النظام السابق، وسائل الإعلام كانت مستقلة وليست «إخوانية» لدرجة أنها تمادت في انتقاده بشكل شخصي مسيء و»قليل الأدب» من قبل بعض الإعلاميين الذين تحولوا إلى «الردح»، دون أن يغلق فضائية أو صحيفة واحدة.
حتى بات يقال إن الانقلاب العسكري لم يكن وليد 30 حزيران /يونيو 2013، وإنما بدأ الإعداد له منذ اليوم الأول لانتخاب مرسي وسقوط أحمد شفيق أمام صناديق الاقتراع، وأن الشارع لا دخل له في ما جرى.
لقد احتاج الغرب والعالم إلى سنوات طويلة من التطويع وأنفقت ملايين الدولارات من أجل جر تيار الإسلام السياسي إلى صناديق الاقتراع والاندماج بالقنوات الديمقراطية، الآن ثمة إحساس لدى الإسلاميين بأنهم سرقوا سياسيا وإعلاميا، وبأن رئيسهم قتل في زنزانته بسبب الإهمال وعدم السماح له بتلقي العلاج وتركه ينزف من الأمراض والمعاناة حد الموت.
ذات يوم قال مراسل «بي بي سي» فرانك جاردنر في مقال له: «إن الرسالة التي سيفهمها الإسلاميون من الإطاحة برئيس إسلامي منتخب وتعطيل الدستور هي أن صندوق الاقتراع ليس بالضرورة أفضل من البندقية».
في أول ظهور له بعد «الإقصاء» ترجل مرسي من طائرة الهوليكبتر بثقة، وكـ»جنتلمان» أغلق زر الجاكتة، وسار مع مرافقيه بهدوء كرئيس جمهورية منتخب يستعرض حرس الشرف، ولم يكن ثمة حرس شرف يؤدي التحية العسكرية «سلام قف»، وإنما عسكر ورجال مخابرات رافقوه نحو قاعة المحكمة بأكاديمية الشرطة بالتجمع الخامس.
ومنذ دخوله قاعة المحكمة وحتى مغادرته لها، أصر على أن يخاطب بوصفه رئيس الجمهورية المنتخب.
لن يجد رئيس جمهورية مصر العربية الشهيد مرسي نعيا أو تأبينا يليق به، فالإعلام المصري الذي فقد ريادته ورمزيته ودوره الطليعي في الوطن العربي، عاد سيرته الأولى في التطبيل والتزمير للعهد الجديد، وباتت صور السيسي وأخباره تتسيد نشرات الأخبار والصفحات الأولى للصحف والميادين.
حالة فوضى من الكراهية تترسخ يوما بعد يوم في مصر، الوقت في مصر يتدحرج في دوائر لا نهائية من الصدام والفوضى والإقصاء والكراهية، ووفقا لـ «الفيننشال تايمز» تجتاح مصر «حالة تملق للمؤسسة العسكرية هي أقرب للإضراب العقلي الجماعي».
هل يكون رحيل مرسي لحظة فارقة بين الحقيقة والوهم، هل يوقظ الضمائر في مصر والوطن العربي والعالم ويعيد الجميع توجيه بوصلة الحقيقة إلى الشرعية وكشف عورات العسكر وما فعلوه بمصر من خراب!
(جريدة السبيل)
وسوم: العدد 830