باب الطائفة وحجاب «العلمانية»: أقنعة أدونيس!
خلال زيارة لي إلى مدينة تطوان في المغرب في العقد الماضي، دخلت مصادفة إلى احتفالية مخصصة لأدونيس. كانت في صدر القاعة لوحة كبيرة للشاعر الشهير وكانت الأضواء والظلال تعطي انطباعا للداخل بأنه في معبد مخصّص لعبادة إله وليس الاحتفال بشاعر.
ستحضر هذه الأجواء التقديسيّة للشاعر، وتحوّله إلى ما يشبه ظاهرة دينية لها مريدون، في لقاءات مع كثير من المثقفين العرب وفي بلدان عديدة، وهي ظاهرة لا يفسّرها إنجاز أدونيس الفكري والأدبيّ وحده، فقد تشاركت فيها «صناعة» تأليه باذخة، اجتهد أدونيس نفسه على تأليفها، بدءا من حكاية نبوغه الشعريّ صبيا، ولقائه بالرئيس السوري شكري القوتلي، الذي كرمه بتعليم مجاني، ومرورا باختياره اسم إله قديم، قبل أن تنضاف لذلك عناصر دوره المهم في «الحداثة الشعرية» العربية ضمن مجلة «شعر» وما بعدها، ولم يوفّر خلال محطّاته الشعرية والأدبية فرصة من دون تلبسه ذلك الدور «المقدّس»، في «مفرد بصيغة الجمع»، ومهيار الدمشقي، والمتنبي (في كتابه ذي العنوان الديني الواضح «الكتاب»). ورغم المعارك الشرسة التي خاضها كثيرون ضد أدونيس، فإن أحدا لا يماري في وجود هذا الصرح الكبير، الذي أسسه الشاعر والكاتب ضمن الثقافة العربية المعاصرة، ولكنّ عملي، في هذا المقال القصير، سيقوم على إثبات أن جزءا من هذا الصرح الكبير قام على خديعة كبيرة.
شعراء العربية العظام شيعة!
أسرّ أدونيس، حسب مقابلة نشرتها «القدس العربي» قبل ما يقرب من ربع قرن، لعبد الله البردوني، الشاعر اليمني بالقول، إن شعراء العربية الكبار كانوا من الشيعة، فسرد له الشاعر الضرير ساخرا قائمة طويلة بأسماء شعراء عرب عظام ليسوا من الشيعة.
والحقيقة أن ما حكاه أدونيس للبردوني ليس سرا، رغم ما يكشفه من تناقض ظاهري بين الراية العلمانية التي رفع لواءها (عبر انتظامه في جماعة كالحزب السوري القومي الاجتماعي، أو عبر أشكال التنظير للحداثة)، وإظهاره البيّن لغرامه الشديد بتيارات التشيّع في الثقافة الإسلامية، وتنظيره التاريخيّ الذي حشده لتبرير هذا الهوى.
قدّم أدونيس في تاريخه الإبداعي الواسع مواقف نظرية وكتبا وآراء سياسية، تحضر فيها مصطلحات العلمانية والتنوير والتقدّم والتحوّل والإبداع، في مواجهة «النصّ» (الاسم الحركيّ للقرآن)، وتخلّف «الفكر العربي ـ الإسلامي»، وقد خاض، مع طائفته من المثقفين، مواجهات نظرية، مع «الرجعيين» من أصحاب «الفكر الاتباعي الثابت»، وأخرى عملية، مع «التقدميين» مثل صادق جلال العظم ونزار قباني، لكن لم ينج من «الإبادة النظرية» لأدونيس سوى صفوة مختارة تمثّل «الفكر المتحول» وهو، حسب تعريفه، «إما الفكر الذي ينهض على النص، لكن بتأويل يجعل النص قابلا للتكيف مع الواقع وتجدده، وإما أنه الفكر الذي لا يرى في النص أي مرجعية، ويعتمد أساسا على العقل لا على النقل»، وهو تعريف يقصد به أهل التصوّف والفلسفة، وفكر الأقليات الإسلامية. وبما أن الثقافة العربية ـ الإسلامية «الثابتة» في الأدونيسية، هي ثقافة السلطة والدين السائدين، ثقافة الأمويين والعباسيين، فإن الثقافة العربية ـ الإسلامية «المتحوّلة»، هي ثقافة الخروج عن تلك السلطة والدين، أي ثقافة الشيعة والقرامطة والمتصوّفة والأقليّات الإسلاميّة، أي الثقافة التي «لا ترى في النص أي مرجعية» أو تقوم «بتأويل يجعل النص قابلا للتكيف مع الواقع وتجدده».
في انخراطه في هذه المعركة «الفكريّة» التي يخوضها مع «أهل الإتباع والثبات» يعفي أدونيس فكر الطوائف المنشقة، التي جاء من إحداها، من النقد والتفكيك والمساءلة، ما يشكك في أن مشروعه «الثوري» لـ»خلخلة العقول» ما هو إلا مشروع لإحلال فكر طائفة بدعوى إنه فكر «مبدع»، مكان فكر طائفة أخرى بدعوى أنه فكر «إتباعي»، وهذه هي في الحقيقة دعوة «ثقافية» تناظر الأداء السياسيّ ـ العسكريّ ـ الأمني الجاري في سوريا منذ انقلاب عام 1963، وتقدّم التبرير «الثقافي» والنظري له.
لا يكف تاريخ أدونيس عن مناقضة نفسه، والنتيجة أن كتب أدونيس، مثل كاتبها، لها باب وحجاب، وظاهر وباطن، ويصعب أن تضع يدك على أي أثر من آثارها، بدون أن تلاحظ نوعا من المطابقة المزيفة بين دعاوى الحداثة، والتحوّل، والمعرفة، مع رؤية الأقلية الدينية للتاريخ والاجتماع والسياسة الإسلامية.
قبعة الساحر والأرانب السوداء
تناقض أطروحة أدونيس، مزاعم رفضه «خلط الدين بالسياسة»، و»فصل الدين عن الدولة» و»العلمانية» لأنها، عمليا تختار حيّزا من الدين يناسبها، وبذلك يتهافت ادعاؤها بالصراع مع الماضويين (كونها ماضوية انتقائية هي أيضا)، غير أن جذر تهافتها يتكشف بتحميل أولئك «الماضويين» المسؤولية عن الانهيار العربيّ الشامل وليس الأنظمة العربيّة، فتقدم بذلك سببا ثقافيا («الفكر الإتباعي») يتيما لتفسير وضع سياسي اجتماعي اقتصادي مركّب، فتكشف بذلك «حبل السرّة» الذي يربطها بتلك الأنظمة.
لا يقوم مذهب أدونيس، في الحقيقة، على مناقضة الفكر الديني و»الماضوي»، بل على انتقائية داخل «الفكر الإسلامي»، بحيث يحظى شق منه بالنبذ إلى جهنم الإتباع والثبات والتقليد والرجعية، فيما ينجو الشق الآخر من ذلك ويدخل بالتالي جنة التحوّل والإبداع، وبذلك ينحكم جزء من ذلك «الفكر الإسلامي»، حسب نظرية أدونيس، بالثبات أمد الدهر، ويبقى الثاني متحوّلا إلى الأبد.
تمثل أطروحة «الثابت والمتحول» تناقضا منهجيا كبيرا، فبافتراضها وجود بنية منفصلة للعالم، تنقسم بين حداثة وقدامة، وثابت ومتحول، وإبداع وإتباع، تجسد الفكرة التي يحاول نقضها وتفكيكها، لأن القسمة المانوية للعالم هي فكرة دينيّة وأيديولوجية (أي «ثابتة» إذا استخدمنا اصطلاحه) تعتبر نفسها فكرة حداثة وإبداع و»تحوّل».
وبسبب التناقض الجوهري في هذه الأطروحة، لا يكف تاريخ أدونيس عن مناقضة نفسه، والنتيجة أن كتب أدونيس، مثل كاتبها، لها باب وحجاب، وظاهر وباطن، ويصعب أن تضع يدك على أي أثر من آثارها، بدون أن تلاحظ نوعا من المطابقة المزيفة بين دعاوى الحداثة، والتحوّل، والمعرفة إلخ، مع رؤية الأقلية الدينية للتاريخ والاجتماع والسياسة الإسلامية، أو ملاحظة أن خصومات تلك الأقلّية التاريخية ماضيا وحاضرا، هي خصومات أدونيس الفكرية أيضا، وخياراتها السياسية، هي خياراته!
ولعل أنسب رد على «ثابت ومتحول» أدونيس هو في الفكرة شديدة الأهمية للكاتب البريطاني أ. ر. رودس، التي تقول «إن نمو الديانات هو من طبيعة جيولوجية، وإن مبدأه هو بالإجمال، ومع بعض الاستثناءات، هو التراكم لا الإبدال (الحلول محل): إذ «من النادر جدا أن تقوم بنية جديدة من المعتقدات بمحو البنية السابقة عليها محوا تاما، فالذي يحدث هو: إما أن يواصل القديم الحياة كعنصر في الجديد، عنصر قد يظل مخفيا وفي حالة من اللاوعي شبه تامة، وإما أن يعيش الاثنان، القديم والجديد، جنبا إلى جنب، غير قابلين للوفاق من الناحية المنطقية، ولكنهما يظلان مع ذلك مقبولين في العصر نفسه من طرف أشخاص مختلفين، وأحيانا من طرف الشخص الواحد».
ومقصودنا بذلك، أن المعتقدات، التي ينظر أدونيس أنها قامت «بتأويل النص»، أو أنها «لم تر في النص الإسلامي أي مرجعية»، هي جزء من «الفكر الإسلامي» لأنها تنتمي إليه حتى عندما تتناقض معه، وأن «التحوّلات» التي تجري في ذلك الفكر الإسلامي، «تواصل القديم في الجديد» أو «تعايشهما جنبا إلى جنب»، فالثبات كما التحوّل يطالان كل عناصر الفكر الإسلامي، بما فيها العناصر التي تقول بتأويل أو ترفض المرجعية، وأن التأويل والمرجعيّة نفسيهما يتبدّلان بتبدّل الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
٭ ٭ ٭
ليست حيرة الناس من تقلّبات أدونيس السياسية والفكرية، على غرابتها، مبررة، بدءا من قصيدته في مدح الثورة الإيرانية والخميني، ورسالته التي نشرها في عز بطش النظام السوري بالمتظاهرين، وخاطب فيها بشار الأسد بـ«السيد الرئيس»، وابتعاده الصريح عن نضال السوريين المتواصل ضد البطش والقمع والديكتاتورية، وظهوراته التلفزيونية المطوّلة على قناة «الميادين» (الناطقة باسم «حزب الله» اللبناني وإيران)، أو مصر (في ظل الرئيس عبد الفتاح السيسي)، وليس انتهاء بصورة أثارت ضجيجا لدى السوريين، مع «الدبلوماسي» سليط اللسان، علي عبد الكريم، سفير نظام بلاده في لبنان، التي اعتبرت إعلانا عن حبال ود العلاقة التي لم تنقطع بين أدونيس والنظام في سوريا.لقد امتحن الواقع أطروحة أدونيس مرات كثيرة في التاريخ، ولكن أجلى امتحان كان انتصار الثورة الإيرانية، التي قدّمت «تأويلا» و»انقطاعا» عن المرجعية الإسلامية «الثابتة» (أي السنّية)، ولكنّها بدل أن تفتتح تاريخا ديمقراطيا جديدا في العالم الإسلامي، أسست لامبراطورية استبداد جديدة وفتحت الباب لصراع طائفيّ بين فكرين استبداديين يدّعيان تمثيل الإسلام.
وسوم: العدد 837