آفة فشل الآباء والأمهات وأولياء الأمور في صناعة فلذات الأكباد
يعرف مجتمعنا المغربي مشكلة كبرى تتعلق بصناعة الناشئة التي تكاد تتحول إلى معضلة مستعصية على الحل إن لم تكن قد صارت كذلك أو فات أوان حلها.
ومعلوم أن صناعة الناشئة هي تنشئتها أو تربيتها ، وفعل صنع يفيد من ضمن ما تحيل عليه دلالاته المتعددة التنشئة أو التربية لأنه يقال : صنع الولد إذا ربّاه وتعهده وأحسن القيام عليه ، ويقال : صنعه على عينه إذا تولى توجيهه في جميع أطوار حياته ، وفي الذكر الحكيم في سياق الحديث عن نبي الله موسى عليه السلام : (( وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني))، وصنع موسى عليه السلام كان من أجل اصطناع الله عز وحل له ليحمل رسالته إلى قومه مصداقا لقوله تعالى وهو يخاطبه : (( واصطنعتك لنفسي )) وفعل اصطنع مبالغة في فعل صنع ، واصطنع الله عز وجل موسى لنفسه يعني اختاره واصطفاه .
وصنع الآباء أبناءهم واصطناعهم لأنفسهم، يعني تنشئتهم وتربيتهم ، والتربية مصدر من فعلي ربّى يربّي ، وربّ يربّ وبينهما صلة ،ذلك أن ربى الوالد الولد تعني نمّاه بمعنى زاد في قوته الجسدية والعقلية والخلقية بالتنشئة والتعليم والتهذيب ، ويقال ربا الولد في بني فلان إذا نشأ وترعرع فيهم . ونفس المعنى الذي يفيده فعل ربّى يربّي يفيده فعل ربّ يربّ حيث يقال ربّ الولد إذا ربّاه وتكفل بعيشه غذاء وكساء وأدبا .
وبناء على هذا تطلق التربية على صنع الإنسان وتنميته جسديا وعاطفيا وعقليا واجتماعيا كي يعي ذاته أولا ، فيعرف خالقه بعد ذلك ، ويعرف من حوله ، ثم يعرفه محيطه ليتواصل ، ولينسجم ، وليبدع .
وجعل للتربية علم وظيفته البحث في أسس صنع الإنسان وعوامله وأهدافه الكبرى .وتلحق بالتربية نعوت تسمى بها أحيانا برامج تعليمية عندنا وعند غيرنا كما هو الشأن بالنسبة للتربية الدينية أو الإسلامية ،والتربية البدنية ، والتربية التشكيلية أو الفنية ... وهلم جرا ، وفي كل نوع يستهدف نمو خاص يخص تنمية البدن أو الاعتقاد أو العاطفة أو الذوق ... إلى غير ذلك، وهي أنواع من النمو تنصهر كلها في بوتقة صناعة الإنسان أو تربيته .
وفعل الصنع أو التربية يقتضي أن يكون من يخضع لهما غير بالغ كماله جسدا وعاطفة وعقلا واجتماعا ، وقوام الصنع والتربية النمو، وهو الزيادة ، وقد ورد في الذكر الحكيم قوله تعالى : (( ومن آياته أنك ترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت)) وربت معناه زاد حجمها أو انتفخت ، ويقال ربا العجين إذا علا وانتفخ بعد اختمار ، والربا هو الزيادة والفضل .
وإذا كان خلق الإنسان من تراب الأرض التي تربو ، فإنه أيضا يربو جريا على عادة أصله الذي خلق منه ، وإذا كان تراب الأرض يربو بما ينزّله الله عز وجل من ماء من السماء ، فإن الإنسان يربو بما يربى به أو ما يصنع عليه . ويكون الصنع أو الصناعة أو التربية بأفعال تسلط عليه لينمو ويزداد على مستويات عدة جسدية وعاطفية وعقلية واجتماعية . وإذا كانت الفواكه تربّى أي تطبخ وتعقد بسكر لتصير رب ـ بضم الراء وتضعيف الباء ـ أو مربّى ، فالإنسان يربّى أو يصنع أيضا صناعة ليبلغ كماله .
ولقد تولى الله عز وجل تربية الإنسان منذ أول خلقه كما جاء في محكم التنزيل : (( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشاناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين )) ، هكذا صناعة الرب سبحانه وتعالى للإنسان جسديا ليخرج من رحم أمه خلقا سويا جسدا ثم يتولى الخالق سبحانه صنعه ليكتمل جسدا وعاطفة وعقلا واجتماعا، وذلك بتسخير وتكليف من يتولى ذلك وفق نواميس وقوانين وضوابط من وضعه سبحانه ، وأول من يكلف بذلك الوالدان ثم يشمل التكليف بعد ذلك غيرهم دون أن ينقطع تكليفهما حتى يستقل عنهما من كان تحت مسؤوليتهما ببلوغه سن التكليف، فتصير حينئذ مسؤوليتهما نصحا وتوجيها بعدما كانت قبل ذلك صناعة وتربية ليصنّع المصنّع نفسه بتحسينها وتزيينها لبلوغ ما بوسعه من كمال واتزان .
وإذا كان رقي الأمم يقاس من ضمن ما يقاس به بالصناعات المختلفة ، فإن أهم صناعة لرقيها هي صناعة الإنسان ، وهي عندنا صناعة متخلفة بشهادتنا قبل شهادة غيرنا مع أننا مع شديد الأسف والحسرة ننتمي إلى خير أمة أخرجت للناس لصناعتهم الصناعة التي يريدها لهم خالقهم . وإذا كنا قد أخطأنا هذه الصناعة وقصرنا دون بلوغها ،فأنى لنا أن نصنع غيرنا ، وقد صار هذا الغير يصنعنا كما يشاء وفق أهوائه الوضعية، فضعنا بين فقدان صناعة خالقنا وفساد صناعة غيرنا المفتقر إلى صناعته سبحانه .
واختيار عنوان : " آفة فساد صناعة الآباء والأمهات وأولياء الأمور فلذات الأكباد " كان عن قصد ،وهو يستهدف مسؤولية الآباء والأمهات وأولياء الأمور الذين تخلوا عن صناعة فلذات أكبادهم، فصارالمنتوج رديئا وفاسدا أو بعبارة اخرى صار المربّى نافقا ، وصرنا أمام آفة خطيرة هي فساد الصناعة أو فساد التربية ، وقد صارت لهذا الفساد مظاهر غير خافية تعدد ولا تعد ، وسيان فيها من فلذات الأكباد المترددون على المؤسسات التربوية والمنصرفون عنها الهاجرون لها حيث لم تعد توجد فوارق بينهم في سوء التربية وفساد الأخلاق .
وعند التأمل والبحث نجد أن صناعات صنّاع آخرين هي التي شوشت وعطلت صناعة الآباء والأمهات وأولياء الأمور، فهناك صناعة المجتمع التي يشار إليها بصناعة الشارع ،وهو المحيط الذي يحتضن فلذات الأكباد والذي تسيطر فيه صناعة غير سوية مردها عدوى سوء الخلق المنتشرة بينهم عن طريق التقليد ، وبذلك تحل صناعة الشارع محل صناعة أولياء الأمور . وتغزو صناعة الشارع المؤسسات التربوية أيضا والتي من المفروض أن تواصل وتواكب صناعتها صناعة أولياء الأمور إلا أن الطرفين معا قد استسلما لصناعة الشارع الطاغية والمسيطرة سيطرة كاملة والتي فعلت فعلها في الناشئة المتعلمة التي صارت مقلدة تقليدا أعمى للناشئة المنصرفة عن التعليم أو الجاهلة .
وإلى جانب آفة صناعة الشارع توجد آفة صناعة الإعلام خصوصا بعدما صار العالم قرية صغيرة بسبب تطور تكنولوجيا التواصل ، وهي صناعة صارت تؤثر تأثيرا كبيرا وخطيرا في صناعة الناشئة المتعلمة أو المنصرفة عن التعلم أو الجاهلة ، وهي صناعة منحرفة على مستوى القيم والأخلاق وقعت ضحيتها الناشئة البريئة ظنا منها أنها الصناعة المثلى خصوصا وأن هذه الصناعة تنقل إليها نماذج الناشئة المصنّعة في المجتمعات المتطورة ماديا وتكنولوجيا والفاشلة على مستوى القيم الأخلاقية . ولقد مهدت وسائل التواصل المتاحة بشكل غير مسبوق لهيمنة التقليد بين الناشئة ، ذلك أنه لا تقدم صناعة عبرها إلا وتلقفتها فلذات الأكباد بنهم ، وأثرت فيهم على جناح السرعة كأنها وباء معد .
وأمام طغيان صناعة الشارع وصناعة الإعلام يلاحظ فتور صناعة المساجد التي لم تعد صناعتها النظرية تفعل فعلها في الناشئة المنصرفة عنها ،كما أنها لم تعد تؤثر حتى في الجهات الصانعة للناشئة أسريا ومؤسسيا ومجتمعيا وإعلاميا .
ويتجلى فشل صناعة فلذات الأكباد فيما يصدر عنها من أنواع مختلفة من السلوكات المنحرفة نذكر منه ما يلي :
ـ بذاءة اللسان حيث لا يخلو حديثهم إلى بعضهم البعض والذي يميزه الصخب من كلام ساقط يندى له الجبين ، ويعرض بعضهم ببعض في هزلهم وجدهم على حد سواء مستهدفين أعراض أمهاتهم بالقذف ، فلا تسمع منهم وبعضهم ينادي على بعض إلا عبارة : " أيها الشاذ يا ابن الزانية " وما على شاكلة هذه العبارة بالعامية والدالة على التحرش والتهديد بالاغتصاب ...إلى غير ذلك من أنواع البذاءات.
ـ سب الرب ـ تعالى الله عما يتفوهون به ـ والتعريض به في هزلهم من خلال عبارة : " ياربك " وسب الدين والملة ،ولعن الوالدين المصحوب غالبا بالتعريض بأعراض الأمهات .
ـ السخرية والاستهزاء بكل الشرائح الاجتماعية ، وتعمد إظهار عدم احترامها بل استفزازها يشتى أنواع الاستفزاز .
ـ سيطرة العبث على كل أنواع الأحاديث بينهم والمصحوبة بالضحك الصاخب والهستيري وتعريض بعضهم ببعض .
ـ تخريب كل ما يقع تحت أيديهم من الممتلكات العامة والخاصة ، وهم يرون في ذلك بطولة، واستعراضا للعضلات ،وتحديا للمجتمع ،وشطارة .
ـ ويشغل التحرش الجنسي حيزا كبيرا في تصرفاتهم ، فلا تكاد الإناث تمر بالذكور حتى يهرعوا كأنهم ذئاب جائعة عنت لهم فرائس ، ولا يقف تحرشهم عند حد الكلام النابي والجارح بل تمتد أيديهم لتصل إلى ضحاياهم ، وفي حالة مقاومتهم يعتدون عليها بالضرب وأحيانا بجروح تخلف آثارا على الوجوه وآثارا نفسية قاسية ومستدامة .
ـ وتشتغل فئات أخرى منهم باعتراض السابلة والسطو عليها وسرقة ما معها خصوصا الهواتف الخلوية والمحافظ فضلا عن مد أيديهم إلى الجيوب في الزحام وفي غفلة من أصحابها ، وفي حال الانتباه إليهم يشهرون سيوفهم ومداهم وسكاكينهم ويعتدون على ضحاياهم ويخلفون على أجسادهم جروحا وإصابات قد تتطلب ملازمة أسرة المستشفيات لمدد طويلة، وربما أودى بعضها بحياة البعض.
ـ ويشيع بين فئات أخرى تعاطي أنواع المخدرات والمسكرات والمفترات والمهلوسات التي تحولهم إلى وحوش ضارية تروع المواطنين ، ويحدث بين الحين والآخر أن يهيج بعضهم هيجان الثيران ،فيصيبون العباد والممتلكات بأضرار وخسائر ، ويبثون الرعب حولهم . ويتولى بعضهم تسويق أنواع من المخدرات والمهلوسات داخل وفي محيط مؤسسات تعليمية ، وفي جهات وأحياء معينة تعشش فيها عصابات تسويق الممنوعات.
ـ الإدمان على مشاهدة مباريات كرة القدم في المقاهي وهي مباريات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد طيلة أيام الأسبوع . وقد تنشب بينهم صراعات وعراك بسبب انتصارهم وتعصبهم لهذا الفريق أو ذاك ، وصار كل منهم يعلن انتماءه لأندية كرة القدم الأوروبية على وجه الخصوص ، ويبدو من خلال أحاديثهم كأنهم ملاّك تلك الأندية ،بل يفوقون ملاّكها ولاعبيها في التعصب لها وحين يحضرون مباريات محلية في ملاعب كرة القدم تندلع بينهم صراعات عنيفة ينتج عنها ضحايا وخسائر في الملاعب وفي سيارات ومحلات المواطنين .
ـ الإدمان على استعمال وسائل التواصل الاجتماعي بحيث لا تفارقهم في كل أحوالهم ، وهم يشغلونها في أنواع العبث المختلفة أو الألعاب ذات الطابع العنيف أو مشاهدة ما تبثه المواقع الإباحية ، أو التواصل فيما بينهم سواء في العبث أو في تبادل الشتائم والسباب أو في التحرش الجنسي ، وتتحول تلك الوسائل إلى أدوات غش خلال الامتحانات بالنسبة للفئات المتعلمة .
ـ الإدمان على السهر ليلا في الشوارع أو الأزقة أو المقاهي للعربدة وإقلاق رتحة المواطنين أو في استعمال وسائل التواصل فيما لا يجديهم نفعا بل يكرس سوء تربيتهم ويعمق جهلهم بالمفيد والنافع في حين يزين لهم التافه والضار .
ـ استعمال الدرجات النارية ذات المحركات الصاخبة وركوبها بسرعة جنونية مع ألعاب استعراضية بهلونية على جانب كبير من الخطورة ، وقد يستخدم بعضهم السيارات لنفس الغرض ، وكثيرا ما تخلف ضحايا من المارة في الشوارع والطرقات.
ـ اعتماد أنواع من الحلاقة القزعية تقليدا لمشاهير لاعبي كرة القدم وغيرهم من المشاهير ، وقد صارت لمعظمهم هامات كأنها روؤس الشياطين مع ارتداء سراويل "الجينز" وقد فتقت على الركب والأفخاذ، وبدا ما تحتها عاريا ، وقد سرى بينهم هذا التقليد الأعمى سريان النار في الهشيم . ومعلوم أن الحلاقة القزعية والسراويل المفتوقة تعكس نوع السلوك الذي صار يحكم الناشئة المستلبة ، وهو ينم عن تمرد وخروج عن كل ضابط أخلاقي من خلال التشبه ببعض المشاهير ليس في طريقة قزعهم ولباسهم فقط بل في سلوكهم الذي تروى عنه أخبار مخزية فيها تحرش واغتصاب وتعاطي للمخدرات ...وغير ذلك من الآفات.
ـ نفور الغالبية منهم من ارتياد المساجد وأداء الواجبات الدينية اليومية والأسبوعية، الشيء الذي يعني القطيعة التامة معها، ومع ما يمكن أن تمدهم به من توجيهات ونصائح تساهم في تصحيح تربيتهم المنحرفة عن قيم دينهم .
ـ إشاعة الفوضى في المؤسسات التعليمية ، وتحويل الحصص الدراسية إلى حصص عابثة لا تحصيل فيها بالنسبة لفئات عريضة من المتعلمين ، ويمكن اعتماد استطلاعات آراء الإدارات التربوية والمربين للوقوف على ما صارت عليه تلك المؤسسات من تسيب صارخ .
ـ تمرد فلذات الأكباد على الآباء والأمهات وأولياء الأمور وخضوع واستسلام هؤلاء لهم ،الشيء الذي عطل صناعتهم وتربيتهم وفق القيم الإسلامية ، وكذا التمرد على المربين الذين استسلموا بدورهم، ولم يعد لهم أدنى تأثير عليهم مقابل ما يحدثه فيهم الأقران المنحرفون عن طريق التقليد الأعمى ، وقد صارت الشوارع بديلة في صناعتهم عن مؤسسات الأسرة والتعليم والتدين والإعلام الباني .
وأخيرا لا بد أن نؤكد أن الأمر ليس تهويلا كما قد يظن البعض بل هو الواقع المعيش الذي لا ينكره إلا جاحد أو مكابر . ولا يسعنا أيضا إلا قرع أجراس الخطر المنبه إلى تفاقم آفة فشل صناعة فلذات الأكباد عسى أن تتكاثف جهود الجميع آباء، وأمهات، وأولياء أمور، ومربون ،ودعاة ،وعلماء، ومسؤولون، ومختلف جمعيات المجتمع المدني ... لتداركهم قبل أن تقع طامة كبرى هي في طريقها إلى الوقوع لا قدر الله ، والتي ستتسبب في انهيار مجتمعنا ودخوله في فوضى عارمة، نسأل الله عز وجل أن يجنب وطننا الغالي أخطارها وسائر بلاد المسلمين.
وسوم: العدد 842