ظاهرة الانتحار بين الشباب: لماذا تتزايد؟
مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات
ما حجم حالات الانتحار في العالم؟ ما هي أسباب الانتحار؟ لماذا ينهي هذا العدد الكبير من الناس حياتهم كل عام؟ هل هو بسبب الفقر؟ البطالة؟ انهيار العلاقات؟ أم هو بسبب الاكتئاب أو الاضطرابات النفسية الخطيرة الأخرى؟ هل الانتحار نتيجة لفعل متهور، أم أنه نتيجة التأثريات الخافضة للتثبيط كالكحول أو العقاقير؟ وما هو الموقف الإنساني؛ والديني؛ والقانوني من فعل الانتحار؟ وما هي الاستراتيجيات اللازمة للحد منه؟
الانتحار (لغة) هو قتل النفس، فيقال: انتحر الرجل؛ أي قتـل نفـسه. والانتحار مصدر للفعل انتحـر، وهو إصابةُ الإنسان نفْسه لقصدِ إفنائهـا. ويقال: إن الانتحار من النحر الذي هو أعلى الصدر، وعبر بـه للغالب؛ إذ غالباً ما يكون قتل النفس من النحر والصدر، بقصد الإسراع لهلاكها.
والانتحار (اصطلاحا) هو كل حالات الموت التي تنتج بشكل مباشر أو غير مباشر من فعل سلبي أو إيجابي ينفده الضحية نفسه، وهو يعرف أن هذا الفعل يصل به إلى هذه النتيجة، أي الموت. وعٌرف أنه عدون ضد النفس، شعوري أو إرادي يؤدي إلى الموت. وعٌرف أيضا أنه ظاهر اجتماعية، ومشكلة طبية، تجعل شخص يزهق روحه بسبب عجز عن مواجهة الواقع، أو لفشل شخصي في المشكلات الطارئة، أو يأس لعدم القدرة على التكيف مع الظروف الطارئة المستجدة والمفاجئة.
يخلف الانتحار أرقاما مرتفعة من الضحايا؛ إذ يلقى ما يزيد على (800) ألف شخص حتفه كل عام، جراء الانتحار الذي يحتل المرتبة الثانية بين أهم أسباب الوفاة بين الشباب، في الفئة العمرية بين (15-29) سنة، على مستوى العالم. وهناك مؤشرات على أنه مقابل كل شخص بالغ مات منتحراً كان هناك ما يزيد على (20) شخصاً آخرين حاولوا الانتحار.
وأشارت تقارير منظمة الصحة العالمية الصادرة في عام 2013 إلى أن هناك أكثر من (1200000) شخصا يقدمون على الانتحار، على مستوى العالم سنويا، أي (3000) آلاف شخص ينتحرون يوميا، وأن كل حالة انتحار تامة تقابلها (20) محاولة فاشلة، أي أن هناك ما يقارب من (20) إلى (60) مليون محاولة انتحار على مستوى العالم سنويا،
وتتباين الأرقام بين البلدان، إلا أن البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل هي التي تتحمل معظم العبء الناجم عن عمليات الانتحار على الصعيد العالمي، ويقع ما يقدر بـ (75%) من جميع حالات الانتحار في هذه البلدان، وينتشر الانتحار - بشكل كبير - بين الفئات التي تعاني من التهميش والتمييز في المجتمع. ويكون الأثر الواقع على الأسر والأصدقاء والمجتمعات أثراً مدمراً، وبعيد المدى، حتى وإن مر وقت طويل على انتحار أشخاص أعزاء عليهم.
يقول علماء الاجتماع والطب النفسي إن الكثيرين من الناس تراودهم فكرة حلم الموت والخلاص من حياتهم؛ عندما لا يستطيعون مواصلة الحياة في ظل المعوقات والملمات التي تصاحبهم، وخاصة عندما تنتابهم حالات الاكتئاب النفسي الذي يفقد فيه الإنسان أي رابطة بالحياة من خلال الظلمة التي يعيش بها في تلك اللحظة، فلا يرى حلا ومخرجا لمعاناته وعذاباته سوى إنهاء حياته طوعا بيده. ولكن القلة من هؤلاء من يجرؤ ويمتلك القوة والإصرار على تنفيذ هذه الفكرة وتصفية نفسه جسديا.
هناك بعض الناس من يقدم على الانتحار الجزئي، أي لا يكون في تفكيره وتصميمه على وضع حد لحياته حتى الموت، وإنما يسعى من وراء ذلك إلى تفريغ ما في نفسه وروحه من شحنات الألم، حتى يستعطف من حوله، ليشعروا به، وبمعاناته والإحساس به، وبالتالي ليحوز على اهتمامهم ومشاركته أحزانه، والتخفيف عنه، ومساعدته بالخروج من هذه الأزمة التي ألمت به، ولم يستطع التغلب عليها لوحده.
أسباب الاقدام على الانتحار
ولا يوجد تفسير واحد للسبب وراء وفاة الناس عن طريق الانتحار، لأن السلوك الانتحاري هو ظاهرة معقدة، تتأثر بعدة عوامل، تتفاعل مع بعضها البعض، وهي عوامل شخصية؛ واجتماعية؛ ونفسية؛ وثقافية؛ وبيولوجية؛ وبيئية.
وقد كشفت منظّمات رسمية عن معظم الأسباب التي دفعت بالأشخاص إلى التّفكير بالانتحار سعياً للخلاص من الحياة التي يعيشونها، ومن هذه الأسباب: الاضطرابات النّفسيّة: حيث يعاني بعض الناس من أمراض نفسيّة تؤدّي به إلى الانتحار؛ كالهوس، والانفصام، والاكتئاب الحادّ، كما أنّ الصّدمات قد تؤدّي بالأشخاص إلى مثل هذا العمل المشين. ومن الأسباب هي إدمان المخدّرات وتعاطيها: حيث تعد المخدّرات من مذهبات العقل التي تؤدّي بالإنسان إلى فعل كلّ ما لا يتقبّله العقل البشريّ السّليم، فمن الممكن لمدمن المخدّرات أن يمارس سلوكيات، ويقدم على أفعال، وهو غير مدرك لها تحت تأثير المخدّر، كالقتل والاغتصاب والانتحار.
ومن الأسباب أيضا المشكلات الصحية التي تمنع الإنسان من ممارسة حياته طبيعيا، حيث أكّد أطبّاء على وجود ارتباط وثيق بين المشاكل الصحيّة والانتحار، ومن بينها إصابات الدّماغ المرضيّة، والسّرطان، والفشل الكلويّ، والإيدز، وغيرها من الأمراض، كما أنّ الانتحار قد يكون نتيجةً للآثار الجانبيّة لبعض الأدوية، ومن أبرز الأسباب التي تشكّل حالةً نفسيّةً للشّخص الاعتداء الجنسيّ، والتّحرّش الجنسيّ، والتّفكّك الأسريّ، والبطالة.
ومن بين الأسباب المشجعة على الانتحار هو ما تقوم به بعض وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي تظهر حالة الانتحار على أنه عمل مبرر، وصاحبه بطل يستحق الاحترام والتقدير، مما يشجع الشباب ممن يتأثرون بمثل هذه الدعايات على الانتحار بهدف لفت انتباه المجتمع لحالته. الأمر الذي يزيد من خطر (تقليد) عمليات الانتحار. كما تعد سهولة الحصول على وسائل الانتحار أحد الأسباب على تزايد الانتحار.
ولا خلاف حول تجريم فعل القتل والشروع والمساهمة فيه في القوانين الجنائية كافة دون استثناء، أما الانتحار فعلى الرغم من أنه يمثل اعتداء على حق الإنسان في الحياة، إلا أن القوانين قد اختلفت حول مدى اعتباره جريمة في حد ذاته من عدمه، كما طال هذا الخلاف الشروع في الانتحار والمساهمة فيه، فبعضها تبيح كل هذه الأفعال، وبالتالي فلا عقاب، وبعضها تجرم هذه الأفعال وتفرض لها عقوبة جنائية. فقد ذهب الفقهاء المؤيدون لتجريم أفعال الشروع إلى إمكانية معاقبة الشارع على الانتحار إما بالحبس، أو بالغرامة، أو بحرمانه من بعض حقوقه المدنية والعائلية، أو حرمانه من حقوقه السياسية، وذلك بهدف تحقيق الردع العام.
أما من وجهة نظر الإسلام فانه ليس للإنسان حق التصرف في حياته أو إنهائها بإرادته متى شاء؛ لأنه لا يملك الحياة أساسا حتى يملك الموت، فهذا الحق هو هبة من الله، وهو من بيده التصرف فيه. والشرائع السماوية مجتمعة اعتبرت أن الحياة ليست ملكا للإنسان، وإنما هي ملكا خالصا للخالق وحده. وعليه فان الانتحار فعل محرم، وهو من الكبائر في الإسلام؛ لأنه قتل للنفس المحترمة، حيث قال الله تعالى (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بالحق) وقال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً، وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرا).
وفي الأحوال كلها، فلا شك أن الانتحار ظاهرة اجتماعية سلبية تهدد أمن الأفراد والجماعات والدول، وهي تستفحل في كثير من البلدان لاسيما البلدان الإسلامية، وهي مرض خطير لابد من السيطرة عليه، حيث إن الانتحار هو أمر يمكن التصدي له، والحد منه، وأول وسائل التصدي له هو الاعتراف بوجوده، ووضع بيانات ومعلومات عن أسباب انتشاره، بين عموم السكان، لا سيما الشباب على وجه التحديد، وأسباب الانتحار ليست واحدة في كل دولة، وليست واحدة في حدود الدولة الواحدة، بل هي مختلفة ومتعددة، ومعرفة ما هي أسباب أكثر حالات الانتحار يمكن أن يكون الخطوة الأولى لتشخيص هذا المرض الخطير.
ولكي تفلح الاستجابات الوطنية للتصدي له، هناك حاجة إلى وضع إستراتيجية شاملة متعددة القطاعات، بشأن الوقاية من الانتحار. ويمكن أن تنقسم استراتيجيات التصدي لعوامل خطر الانتحار إلى نوعين من الاستراتيجيات، هي:
1- استراتيجيات الوقاية العامة: وهي إستراتيجية مصممة للوصول إلى جميع الفئات السكانية. وهي تهدف إلى زيادة فرص الحصول على الرعاية الصحية، وتعزيز الصحة النفسية، والحد من تعاطي الكحول على نحو ضار، والإدمان على المخدرات، والحد من فرص الحصول على وسائل الانتحار وغيرها.
2- إستراتيجية الوقاية الانتقائية: وهي إستراتيجية تستهدف تحديدا الفئات الأكثر قابلية للتأثر، مثل الأشخاص الذين سبق لهم أن عانوا من الصدمات النفسية أو الانتهاكات، وأولئك المتضررين من الصراعات أو الكوارث، واللاجئين والمهاجرين، والأشخاص المفجوعين بسبب الانتحار، من خلال تدريب(الحراس) الذين يساعدون أشخاصاً قابلين للتأثر، ويقدمون خدمات المساندة لهم.
ومن خلال ما تقدم يمكن أن نذكر بعض الوسائل التي تحد من الانتحار أهمها:
- ينبغي التنسيق والتعاون بين قطاعات متعددة في المجتمع، القطاعين العام والخاص على حد سواء، بما في ذلك القطاعات الصحية وغير الصحية مثل التعليم، والعمل، والزراعة، والأعمال التجارية، والعدل، والقانون، والدفاع، والسياسة والإعلام. ويجب أن تكون هذه الجهود شاملة ومتكاملة ومتآزرة، نظراً لأنه لا يوجد نهج واحد يمكن أن يؤثر وحده على مشكلة معقدة مثل الانتحار
- ينبغي إدماج الوقاية من الانتحار في خدمات الرعاية الصحية، بوصفها مكوناً أساسياً. فالاضطرابات النفسية، وتعاطي الكحول على نحو ضار يسهم في كثير من حالات الانتحار حول العالم. فالتحديد المبكر للأعراض الانتحارية وإدارتها على نحو فعال عنصران مهمان في ضامن حصول الأفراد على الرعاية التي يحتاجونها.
- يقع على الأسرة مهمة مراقبة تصرفات الأبناء والبنات، ومدى نفورهم واستجابتهم للمتغيرات في حياة الأسرة، وما يوجههم خارج المنزل، فمراقبة الأبناء ومشاركتهم حياتهم من شأنه أن يدفع عنهم خطر الانتحار أو التفكير به.
- تلعب المجتمعات دوراً حيوياً في الوقاية من الانتحار، إذ أن باستطاعتها تقديم الدعم الاجتماعي للأفراد المعرضين لمخاطر الانتحار، والمشاركة في رعاية المتابعة، ودعم المفجوعين من انتحار المقربين إليهم.
- وضع قيود على إتاحة الوسائل المستخدمة في الانتحار. مثل الحد من إمكانية الحصول على المبيدات الحشرية، والأسلحة النارية، أو وضع الحواجز على الجسور.
- إعداد التقارير الإعلامية المسؤولة، بشأن عمليات الانتحار في وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال تجنب الوصف التفصيلي للأعمال الانتحارية، وتجنب إثارة التمجيد، واستخدام لغة مسؤولة، وتوعية الجمهور العام بموضوع الانتحار، والعلاجات المتاحة له، وتوفير المعلومات عن مكان طلب المساعدة.
- أن تقوم الأجهزة المختصة في محاولة احتواء حالات الانتحار، خاصة عندما يستعرض المنتحر نفسه، ويبدأ بالتهديد، ويخاطب الجمهور بكلمات مقتضبة غير مفهومة تدل على الخوف، وعدم السيطرة على نفسه في هذه اللحظة، وهنا يأتي دور المختصين في إجراء الحوارات اللازمة من أجل التأثير على المنتحر لثنية عن إلقاء نفسه مثلا عن سطح بناية، بالإضافة إلى ضرورة إيجاد كادر مدرب وله خبرته وأخذ الاحتياطات اللازمة من أجل توفير سقوط آمن ومحاولة إنقاذ حياة المنتحر.
- يقع على الدولة القدر الأكبر من المسؤولية بالقيام بواجباتها تجاه مجتمعها وأبناءها، وإيجاد الحلول المناسبة لتخفيف معاناتهم، وتوفير الاحتياجات الضرورية التي تكفل للفرد والأسرة حياة كريمة تغنيه عن العوز ومد اليد لاستجداء حاجته، وذلك بتوفير فرص العمل للجميع، ومد يد العون للمحتاجين، ودعم المواد الأساسية في حياة الفرد من مأكل وملبس ومرافق حيوية ورعاية صحية حتى يسهم الجميع على المحافظة على هذا الفرد الذي يشكل جزءا من المجموع الذي يشكل بالتالي المجتمع كاملا شعبا وحكومة ودولة.
وسوم: العدد 843