تعقيدات النكاح عندنا تفتح الباب على مصراعيه لشيوع السفاح
بعيدا عن الخوض في قضية الصحافية هاجر الريسوني المتهمة بالإجهاض وعن تداعياتها، وهي قضية أسالت مدادا غزيرا، أرى أنها قضية من شأنها أن تكون سببا في إثارة موضوع هو في غاية الأهمية والحساسية ،وهو موضوع ثنائية النكاح والسفاح في مجتمعنا المغربي .
ومن المعلوم أن الرسالة الخاتمة الموجهة إلى البشرية قاطبة ، قد تضمنت من التشريعات ما يغطي حياة الناس إلى نهاية العالم وزوال الدنيا . ولقد حظيت العلاقات بين البشر في هذه الرسالة الخاتمة بحيز واسع من تشريعها . وعلى رأس هذه العلاقات ،علاقة النكاح ،والتي حرصت الشريعة الإسلامية على صيانتها من الانحراف إلى سفاح ،لأن علاقة النكاح من الفطرة التي فطر الله عز وجل الناس عليها ، وهي صمام أمان المجتمع المسلم الذي تعتبر الأسرة نواته الأولى ، وهي علاقة امتنها الله عز وجل على الخلق في قوله تعالى : (( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ))، وهما مودة ورحمة تنعكس على المجتمع المسلم الذي يرتبط أفراده برباط الأخوة مصداقا لقوله عز من قائل : (( إنما المؤمنون إخوة )) .
ومن أجل تحقيق الغاية من وجود النوع البشري، وهي غاية بيّنها الذكر الحكيم في قوله تعالى : (( وما خلفت الجن والإنس إلا ليعبدون ))، أودع الله عز وجل في البشر ذكورا وإناثا غريزة من أقوى الغرائز هي السر وراء انجذاب الجنسين إلى بعضهما البعض ، وهي وسيلة المحافظة على النوع البشري ليضطلع بمهمة الاستخلاف في الأرض .
ولقد اقتضت إرادة الله عز وجل أن تكون المحافظة على النوع البشري ضرورة لتحقيق الغاية من وجوده في هذه الدنيا التي جعلها الله سبحانه للناس مرحلة ابتلاء وامتحانا تعقبها مرحلة محاسبة وجزاء في حياة أخرى .
ولما كان وراء ميل الجنسين إلى بعضهما غريزة من أقوى الغرائز ، فإن الله عز وجل وجهها لتصرّف التّصريف الصحيح في علاقة سماها نكاحا ، وحذر من علاقة تصرّفها التّصريف المنحرف سمّاها سفاحا ، ونظرا لخطورة هذا الأخير على وجود وتماسك الأسرة نواة المجتمع المسلم، فإنه سبحانه وتعالى توعد من يمارسونه بعقوبة قاسية تتراوح بين أذى وموت حسب وضعية من يقربونه عزوبة و إحصانا .
ومن أجل التخفيف على الجنسين معا من قوة إلحاح الغريزة الجنسية عليهما، رجح كفة النكاح حتى لا ترجح بها كفة السفاح ، وذلك بتسهيل إجراءات النكاح، وتيسيره حيث يتم بأركان في غاية البساطة وهي وجود ولي أمر الأنثى المرغوب في نكاحها ،وشاهدي عادل ، وطلب وقبول، وصداق مدفوع كله أو بعضه .
وأغتنم هذه الفرصة لتكرار ما سبق لي أن تداركته على مدير دار الحديث الحسنية الذي زعم أن توثيق النكاح ركن لا ينعقد دونه ، وليس الأمر كما زعم ، لأنه إنما ينعقد بولي وشاهدي عدل وصداق وطلب وقبول فقط ، وإن كان لتوثيقه مزية لا تنكر ولا يهون من شأنه لما فيه من صيانة وحفظ لحقوق الأزواج ذكورا وإناثا .
ولا بد من التنبيه إلى أن الذين يعتبرون النكاح في الشريعة الإسلامية بالأركان الأربعة المذكورة دون توثيق باطلا ويسمونه زواجا عرفيا أو زواجا بفاتحة ، وقد أصبح اليوم مذموما عند البعض ، بل أكثر من ذلك أصبح جرما يعاقب عليه . والذين يذهبون هذا المذهب يستخفون من جهة بفاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني حين يستعملون تعبيرا درج بعض السفهاء من الناس على استعماله للتعبير عن حالة الحصول على شيء دون بذل جهد أو عن طريق غصبه فيقولون : " فلان لم يحصل على كذا شي ء إلا بالفاتحة " أي دون جهد أـو دون استحقاق ، وأصبحت هذه العبارة المسيئة إلى فاتحة الكتاب تطلق أيضا على النكاح الشرعي بنفس القصد الساخر والمستهزىء بكلام الله عز وجل من جهة و من جهة أخرى بشرعه .
ونظرا لانسياق عامة الناس مع فكرة اعتبار توثيق النكاح ركنا لا يصح إلا به ، يقع كثير منهم في خطإ جسيم حين يقع فسخ النكاح بطلاق بين المتزوجين والذي يقع شفويا تماما كما ينعقد النكاح شفويا دون أن يكون التوثيق ركنا فيهما ركنا حيث تعتبر الزوجة طالقا بمجرد تفوه زوجها بكلمة أو عبارة الطلاق أو بإشارة دالة عليه .
وكثير من الأزواج يقع منهم الطلاق ثلاثا دون توثيق ، وتترتب عن ذلك بينونة كبرى تقتضي أن تنكح الزيجات بعد الطلقة الثالثة أزواجا آخرين ، ولا تحل للأزواج الأوائل إلا إذا تم تطليقهن طلاقا آخر أو هلك من كن في عصمتهن ممن بنى بهن بعد طلاقهن طلاق الثلاث. وبسبب الاستخفاف بنكاح ما يسميه البعض زواج فاتحة أو زواجا عرفيا والذي لا يوثق بعقد مرسوم أو مخطوط ،يقع استخفاف مثله بالطلاق الشفهي وهو طلاق واقع لا شك في ذلك وإن لم يوثق بعقد مرسوم أو مخطوط .
ومن الأخطاء التي تقع فيها اليوم محاكم الأسرة عندنا أنها لا تتحرى في أمر الطلاق ، فتظل الزيجات المطلقات ثلاثا في عصمة الأزواج دون إجراء البينونة الكبرى التي شرعها الله عز وجل في قوله : (( فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره )). وبسبب هذا الاستخفاف بأمر الطلاق ثلاثا تكاد البينونة الكبرى تزول من التشريع الإسلامي، ولا تبقى فيه سوى البينونة الصغرى.
وإذا كان الطلاق يقع شفهيا دون توثيق مخطوط أو مرسوم، فالنكاح أيضا ينعقد شفهيا دون توثيق مخطوط أو مرسوم، وهو ما كانت عليه الأمة الإسلامية طيلة قرون ، ولا زال هذا النكاح ساري المفعول في كثير من بلاد الإسلام ومنها بلدنا دون أن يقال عنه أنه باطل، وأنه عرفي أو نكاح فاتحة على حد قول المستخفين به والمنكرون لمشروعيته.
ونعود إلى موضوع هاجر الريسوني لا لنخوض كما سبق القول فيما خاض فيه الخائضون ولكن لنعرضه على شرع الله عز وجل ، فإن كانت هذه الصحفية قد اقترنت بالطالب السوداني بحضور ولي أمرها وشاهدي عدل ، والعدالة هنا لا تعني عدالة من ينتصبون لتوثيق النكاح فقط بل هي أعم من ذلك ،وتشمل كل من لا يطعن في عدالته ، وحصل الطلب والقبول بينهما ، ودفع الصداق أو بعضه، فنكاحها صحيح شرعا ، وإجهاضها بعد دخول زوجها بها إن كان له مبرر شرعي لا يضيرها في شيء ، ومتابعتها قضائيا بسببه لا مبرر لها، وقضيتها منتهية شرعا ، ولا تستوجب متابعة قضائية إلا إذا كان سبب المتابعة أمرا غير الإجهاض كما ذهب إلى ذلك البعض .
وما يعنينا من هذه قضية هذه الصحفية هو أنها كما يقال القشة التي قصمت ظهر البعير،لأنها قضية أثارت موضوعا في غاية الأهمية والخطورة حيث يلاحظ عندنا تفاقم ظاهرة الإعراض عن النكاح، مقابل الإقبال الكبير على السفاح .
والذي أفضى بنا إلى هذا الوضع المنذر بما لا تحمد عقباه، هو طبيعة التعقيدات التي أصبحت تقيد النكاح وتنفر منه الراغبين فيه في الوقت الذي يشرع الباب على مصراعيه للسفاح الذي أصبح الإقبال عليه يزداد بشكل متزايد ومثير للقلق ، ويدعو إلى ضرورة أخذ الأمر بما يلزم من جدية .
ومما يزيد الطين بلة ،هو أن بعض الجهات المشجعة للسفاح تحت شعارات الدفاع عن الحقوق والحريات، دخلت على الخط كما يقال لترجيح كفة السفاح على كفة النكاح . ولقد استغلت قضية الريسوني لرفع شعار بعضهن : " رحمي ملكي " للدفاع عما سمي حرية إجهاض الحمل الحاصل من سفاح أصبح يسمى علاقة جنسية رضائية ، وأصبحت المطالبة بها كحق من الحقوق وحرية من الحريات .
وأمام تعقيدات الإجراءات التي أصبحت تحاصر النكاح الشرعي ووصفه بالنكاح العرفي أو نكاح الفاتحة ، وتجريمه ، ومتابعة ومحاسبة من يمارسه ، والتضييق على التعديد، فضلا عن غلاء المهور والمعيشة وارتفاع أثمنة اقتناء أو كراء العقار ،وبعبارة أخرى استحالة الباءة بالتعبير الشرعي ، إلى جانب آفة البطالة المستفحلة في صفوف الشباب على وجه الخصوص ،أصبح هؤلاء الشباب عرضة للسفاح بكل أشكاله بما في ذلك فاحشة قوم لوط والسحاق التي أصبحت تسمى مثلية ، وأصبح لها دعاة وأنصار حتى بلغ الأمر حد الإعلان عنها كحق دافع عنه الرئيس الأمريكي مؤخرا في مقر الجمعية العمومية لمنظمة الأمم المتحدة .
ولا بد للخروج من هذه المشكلة التي ستصبح لا محالة معضلة إن لم نتداركها في أسرع وقت ممكن بحل من تبسيط إجراءات النكاح إداريا واجتماعيا ،فمحاكم الأسرة عليها ألا تجرم النكاح الشرعي المستوفي لأركانه الأربعة ، واعتباره عرفيا أو نكاح فاتحة مع تجريمه ، وأن يكون إجراء توثيقه فيما بعد ميسرا، خصوصا وأن مثل هذا الإجراء موجود وهوما يسمى بثبوت الزوجية ، ومعمول به في حال إنجاب ذرية بين الأزواج قبل توثيق النكاح . ولا بد أيضا من رفع الحصار عن التعديد خصوصا وأن نسبة العنوسة في ارتفاع مستمر وهو ارتفاع مثير للقلق ، وكذلك الأمر بالنسبة لآفة الطلاق المستفحلة أيضا.
وأما المجتمع المدني فلا بد له من أن يغير من إجراء التعسير على الراغبين في النكاح من خلال الإقلاع عن عادات سلبية مثل غلاء المهور، والمبالغة صرف مبالغ ضخمة على حفلات الزفاف ... الشيء الذي يجعل الشباب يعرض عن الإقبال على النكاح الشرعي مع الانصراف الكامل إلى السفاح لتصريف غريزة الجنس الملحة ، وقد صار هذا السفاح متيسرا و قد صارله أنصار من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وهم يدافعون عنه ، ويرمون إشاعته في مجتمع يدين بدين الإسلام .
وأخيرا نأمل أن يخرج علماء الأمة عن صمتهم ويقوموا بواجبهم لصيانة الأحوال الشخصية من عبث العابثين بردها إلى شرع الله عز وجل كتابا وسنة، وحماية عموم الناس من جهّل أصبحوا أمام صمت أهل العلم يفتون فيضلون ويضلون .
وسوم: العدد 844