دفع شبه المعترضين على حقيقة الإسراء والمعراج
جناية الاستعمار:
عبد الجليل راضي مؤلف: العالم سنة 2000 الإذاعة اللاسلكية، ألغاز الحياة والموت والعالم غير المنظور.
يقول في كتابه الأخير: (أما أعظم قصص الطرح فهي القصة طرح النبي محمد صلى الله عليه وسلم لروحه من الحجاز لفلسطين وهي المعروفة بالإسراء، ثم طرحها مرة أخرى لترتفع من الصخرة المقدسة ببيت المقدس إلى السماوات العلى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد إلى الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)(1) تقول أم هانئ زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم(2) في وصفها ليلة الإسراء: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام عندي تلك الليلة في بيتي فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا، فلما كان الفجر أهبنا رسول الله فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم قد صليت صلاة الغداة معكم كما ترين، فقلت له يا نبي الله: لا تحدث بها الناس فيكذبوك ويؤذوك، قال والله لأحدثهموه. فإذا كان النبي قد نام معهم حقيقة فإن الإسراء يكون تم بالروح فقط (1) وكذلك يكون المعراج).
لقد ابتلي العالم الإسلامي بالاستعمار الكافر منذ قرن ونيف، جاء الاستعمار إليه بقوته وعلمه معتزاً بهما، قد عرف الكثير من النعم المودعة للإنسان في الطبيعة فاستخرجها، شغل عقله ووقته فاستفاد من أسباب التقدم والعمران الشيء الكثير، جاء بذلك إلى بلادنا باهراً بنفسه معجباً بحاله، يزعم أن ذلك المجد الظاهري والرقي البراق إنما حازهما حين ترك الدين وآمن بالعقل، هجر الإيمان بالغيب وآمن بالتجربة.
لقد أُخذ العرب بمدنية الغرب وعلمه وخضع له بعضهم مشدوهاً مبهوراً، وحين أعلن فيهم الغرب إنكار الروح وما يتعلق به، رفض حقائق الدين وحاربها سخر بأحكام الإسلام وسفهها، تنكر للغيوب والمعجزات فيه وألحقها بخرافات النصرانية في أوربا.
تحير العرب المسلمون! تحير بعض كبارهم الذي تصدوا لعرض الإسلام وقيادة الجماهير إليه وترددوا..
إن الإسلام عزيز عليهم لا يقبلون سواه ولا يرضون عنه بديلاً، ومدنية الغرب وعلومه عظيمة لا يمكن التنكر لها ولا يستقيم العيش دون الأخذ بها فكان.. كان أنهم أخذوا يؤولون حقائق الدين وأحكام الإسلام، ينكرون من قواعده ما ينكرون ويضعفون ما يضعفون، يُنطقون نصوص الدين ما لا تنطق به، ويحملونها ما لا تحتمل، يهزؤون بالمغيبات والمعجزات مع الاحتفاظ بأصل الإيمان والاحترام لهيكل الإسلام! زاعمين أنهم يُصلحون ولا يُفسدون، كأن إسلامهم يقتضيهم أن يشذبوا من الإسلام ويزينوا من حواشيه ببريق الدعاوي، وينقصوا من أحكامه ويشرعوا فيه بعقولهم ويبدلوا تبعاً لأحوالهم وظروفهم، كي يصبح مقبولاً عند بعض الناس.
فخسروا، أي والله خسروا، إذ لم يضموا إلى صف الإسلام أولئك الغربيين ومن يسايرهم، وخسروا العامة الذين شككوهم في حقائق الدين وأخرجوا بعضهم بها منه، إن وظيفة حملة الإسلام كانت وتكون دوماً عرض الإسلام على حقائقه، بحكمة تناسب كل - زمان ومكان – كما هو دون زيادة أو نقصان، ثم كما قال الله تعالى في سورة الكهف: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..)، وعلى الداعي إلى الله تعالى أن يسعى وليس عليه إدراك النجاح.
انحراف عن الإسلام:
لقد انحرف بعض أولئك الذين تصدوا لعرض الإسلام – ولا نتهم كل واحد منهم بقصد ذلك – انحرفوا فأولوا أحكام الإسلام تأويلات لا يقبلها الإسلام، وحملوا نصوصه ما لا تحتمله، وأنكروا وردوا من أحاديثه ما شاء لهم قصدهم وهو تقريب الإسلام إلى الغرب المادي الملحد ومن بهرته أضواؤه من المسلمين، وكان أن: وجد فيهم من فسر القرآن الكريم على أساس طبيعي يناقض تماماً القول بالمعجزات وخوارق العادات وجعل النبوة غاية تحصل وتكتسب عن طريق الترويض النفسي؟!
ووجد منهم من ألغى فريضة الجهاد على المسلمين، لأن الجهاد قسوة وسفك للدماء لا يتفق مع عصور النور؟!
ووجد منهم من أشار إلى وجوب تحرير المرأة وإسفارها وإخراجها من البيت، ودفعها إلى مشاركة الرجل أعمال الحياة؟!
ووجد منهم من أباح الربا القليل ومنع تعدد الزوجات بالظن؟!
ووجد منهم من طلب أن يكون الطلاق بيد القاضي؟! كما هو في بعض دول الغرب اليوم
ووجد منهم من أول الملائكة بأنهم قوى الخير في العالم، والجن بأنهم قوى الشر فيه؟! ومن استدل على خلود الروح بخرافة استحضار الأرواح – الشيء هي عبارة عن حضور الجن القرناء وليست أرواح الموتى بحال من الأحوال -؟!
ووجد منهم من أنكر حشر الأجساد في الآخرة، وزعم أن النعيم والعذاب ثمت روحي؟!
ووجد منهم من فسر فلق البحر لموسى عليه الصلاة والسلام حتى جازه بأنه عبارة عن جزر البحر ومده فهو حادث عادي! ووجد منهم شاعر القصائد الإسلامية القائل: أما الجنة والنار فهما حالتان لا مكانان ووصفوهما بالقرآن تصوير حسي لأمر نفساني أي لصفة أو حال، فالنار في تعبير القرآن: (نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة) هي إدراك أليم لإخفاق الإنسان بوصفه إنساناً، أما الجنة فهي سعادة الفوز على قوى الانحلال؟!
ووجد منهم من زعم أن الجهاد في الإسلام إنما هو للدفاع فقط، فالمسلمون الذين دخلوا أرض العدو في مؤتة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الذين قاتلوا الفرس والروم ابتداءً بعد عودتهم إلى الإسلام، وفتحوا العراق والشام ومصر والمغرب هم منحرفون عن فهم الإسلام في زعم أولئك، إذ أن المسلمين هجموا في تلك الوقائع جميعاً ولم يكونوا أبداً في موقف الدفاع.
ووجد منهم من أباح الربا للضرورة التي يقدرها المقترض – لا التي يقدرها الشرع بأن لا يجد قوت يوم وليلة – وأباح المعاملات الربوية مع المصارف وعقود التأمين؟! ووجد منهم من يسّر من رجل يضع كتاباً في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم على غرار ما يفعل الغربيون تقريباً، ويخليه من المعجزات، فيكتب في تقديمه لذلك الكتاب يقول: ولم تكن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم إلا في القرآن، وما أبدع قول البصيري:
ويكتب غيره يقول:
وإن الخوارق الكونية شبهة عند علمائه لا حجة؟! ووجد منهم من دعا إلى فتح باب الاجتهاد على مصرعيه ليفلتوا من قيود الإسلام باسم رعاية المصالح واختلاف الأزمان، وهم بشاهدة أقرانهم لا زاد لهم من علم ولا تقوى يؤهلهم للاجتهاد حتى في المسائل؟! ووجد منهم من زعم أن الإسراء والمعراج كانا رؤيا منام، كانا حلماً كسائر الأحلام، وهو الذي تبناه عبد الجليل راضي وأعلنه زاعماً أنه مما أثبته العلم الحديث؟!(1)
وأنا – كما قلت – لا أتهم جملتهم بقصد الانحراف عن الإسلام، لكن انحرافهم قد وقع، وردت بعضهم عن الإسلام قد حقت، وقديماً ضل الخوارج، على حسن النية، لانحرافهم عن الجادة وتركهم التزام بعض أحكام الإسلام، حتى قال فيهم الحبيب صلى الله عليه وسلم ما ورد في الصحيحين في حديث لمزه في قسم الذهبية التي أرسل بها علي من اليمن وقال يا رسول الله: اتقي الله، قال: (إنه يخرج من ضئضئي هذا) نسله أو أصله – أقوام يتلون كتاب الله تعالى رطباً لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان لإن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد، وما ورد في الصحيح أيضاً أن عمر رضي الله عنه لما سمع لمز ذي الخويصرة في يوم حين قال ائذن لي فأضرب عنقه، فقال صلى الله عليه وسلم: (دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية). فكيف بأولئك وليس فيهم من يحقر الصحابة صلاتهم مع صلاتهم ولا صيامهم مع صيامهم.
والحمد لله إن في الإسلام نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال، وإن من خرج منهم على الدليل – كجميع ما ذكرت – رد قوله ولا كرامة كائناً من كان مفتياً كان أم قاضياً، شاعراً أو شيخ إسلام، وتلك لعمري مزية لا نجدها إلا في الإسلام، إن لينظر إلى من قل، وإنما ينظر إلى ما قال، وإن رأي الشرع وحكمه هو وحده الرأي والحكم ولا عبرة بمن خالفه بحال.
لماذا ينكرون المعجزات الحسية:
1- أنكر جل المعجزات الحسية بعض أولئك الذين تصدوا لعرض الإسلام والدفاع عنه وقيادة الجماهير إليه، بقصد تقريب الإسلام إلى أذهان الملاحدة ومن بهر بهم من قومهم، وأولوا ما ثبت منها بالقرآن الكريم وصحيح السنة بما يشبه الإنكار، لأنهم سمعوا بعض الجاهلين يقولون: إن المعجزات الحسية غير معقولة ولا ممكنة، ومع أن أولئك العلماء يعلمون أن المعجزات الحسية معقولة ممكنة، وغاية ما فيها أنها مخالفة للعادة بدون أسباب العادة، إلا أنهم سايروهم ليكسبوهم.
إن المعجزة هي الأمر الخارق للعادة يظهره الله تعالى على يد مدعي النبوة تصديقاً له في دعواه، يظهره على يده دون أسباب ومقدمات عادية مع ادعاء النبوة.. وإنسان اليوم قد استطاع أن يأتي بكثير من خوارق العادات السابقة باتخاذ الأسباب، لقد استطاع أن يكلم أخاه باللاسلكي وأحدهما في أعالي الجو والآخر في بقاع البحر وبينهما مئات الأميال، واستطاع أن يرتفع إلى الفضاء عن جاذبية الأرض ويبقى ثمة أياماً واستطاع أن يدخل النار بثياب البلاستيك ولا يحترق، واستطاع بإذن الله تعالى أن يشفي بعض الأمراض المستعصية قديماً، واستطاع أن يجعل من الذرة الصغيرة سلاحاً يدمر به الشيء الكبير.
وجميع ما فعله الإنسان باتخاذ الأسباب العادية لا يسمى معجزة ولا كرامة، لكن يسمى تقدماً علمياً واختراعاً جديداً..
أما المعجزة فهي خاصة بالرسل عليهم الصلاة والسلام وإطلاقها على غيرهم معصية وكذب.. ومن نظر إلى المعجزات الحسية الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة لمس أنها معقولة ممكنة لكنها خلاف العادة التي اعتادها الناس في اتخاذ الأسباب.
2- أنكر بعض أولئك المتصدين لعرض الإسلام المعجزات الحسية أو تأولوها بما يقارب إنكارها، لأنهم سمعوا بعض الجاهلين يقولون: إن الله تعالى قد نفى في القرآن الكريم أن تكون له صلى الله عليه وسلم معجزات، ومع أنهم يعلمون أن القرآن الكريم ما نفى ذلك، لكن نفى أن تكون المعجزة من صنع الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، إلا أنهم سايروا الجهال ليكسبوهم.
إن أعظم شبه الجهال في هذا المجال قول تعالى في سورة الإسراء: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً.. أو تكون لك جنة من نخيل وعنبٍ فُتفجر الأنهار خلالها تفجيراً.. أو تُسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً.. أو يكون لك بيت من زخرفٍ أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه، قبل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً). مع أن الآية التالية تفسر الآية السابقة كما تفسرها المعجزات الواقعة لكن في عقول البعض عماء.. قال الله تعالى في سورة الفرقان: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا * تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا * بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا)..
(وقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا ۗ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُوراً).
3- أنكر بعض أولئك المتصدين لعرض الإسلام المعجزات الحسية أو تأولوها بما يشبه إنكارها، لأنهم سمعوا بعض الجاهلين يقولون: إن المعجزات خروج على سنن الله تعالى في الكون وذلك محال لأن الله تعالى هو الذي يقول: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا).
ومع أنهم يعلمون أن المقصود بسنن الله تعالى التي لا تتغير إنما هي سنته سبحانه في تأييد المرسلين وأتباعهم وخذلان المشتركين والظالمين وأعوانهم، لكنهم سايروهم ليكسبوهم في سائر حقائق الإسلام.
وإليك ما قاله بعض المفسرين في قوليه تعالى: (سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا)..
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا). من سورتي الإسراء وفاطر.
قال الآلوسي: "سنة من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا".. وهي أن لا ندع أمة تستفز رسولها لتخرجه من بين ظهرانيها تلبث بعده إلا قليلا، فالسنة لله عز وجل وأضيفت للرسل عليهم السلام (جــ15 ص131).
وقال ابن كثير: "سنة من قد أرسلنا.." قيل نزلت في كفار قريش هموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم فتوعدهم الله تعالى بهذه الآية وأنهم لو أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيراً، وكذلك وقع فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهرهم بعد اشتداد أذاهم له إلا سنة ونصف حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد فأمكنه منهم وسلطه عليهم وأظفره بهم فقتل أشرافهم وسبى ذراريهم ولهذا قال تعالى: (سنة من قد أرسلنا..).. هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب، ولولا أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم رسول الرحمة لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به، ولهذا قال تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) (جـــ 3ص 53) ومثله الفخر الرازي (جـــ5 ص226).
قال الآلوسي: "فهل ينظرون إلا سنة الأولين.." أي ما ينتظرون وهو مجاز يجعل ما يستقبل بمنزلة ما ينتظر ويتوقع "سنة الأولين" أي سنة الله فيهم بتعذيب مكذبيهم (فلن تجد لسنة الله تبديلاً) بأن يضع الله سبحانه غيرهم موضع العذاب (ولن تجد لسنة الله تحويلا) بأن ينقل العذاب من المكذبين إلى غيرهم (جــ 22 ص206).
وقال ابن كثير: (فهل ينظرون إلا سنة الأولين) يعني عقوبة الله لهم على تكذبيهم رسله ومخالفتهم أمره.. (ولن تجد لسنة الله تبديلاً) أي لا تغير ولا تبدل بل هي جارية.. كذلك في كل مكذب (ولن تجد لسنة الله تحويلاً) أي (وإذا أراد الله بقومٍ سوءاً فلا مرد له) ولا يكشف ذلك عنهم ويحوله عنهم أحد. (جــ 3 ص562) ومثله في الفخر ( جـــ7 ص53). 4- لو أن إنساناً صعد إلى القمر واتخذ فيه منزلاً وانتقل إلى المريخ زائراً، ثم نزل إلى الأرض بجناحين أثبتهما في يديه لما أنكر وقوع ذلك أشد الناس إنكاراً لمعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم الحسية، وإذا قيل له في ذلك أجاب: أن الإنسان قد وصل إلى ما وصل بأسباب وآلات، لكنكم تقولون أن الرسول صلى الله عليه وسلم عُرج به إلى السماوات فما فوقها دون اتخاذ أسباب وآلات معتادة! كأنه لا يكفيه أن المعجزة هي فعل الله تعالى ذلك لرسوله، أو يعجز الله تعالى أن يصنع دون الأسباب المعتادة لرسله الكرام ولرسوله صلى الله عليهم وسلم عجائب وخوارق وهو القادر على فعل ما يريد ولا يعجزه شيء؟ بلى إنه لقادر وقد فعل ذلك مرات ومرات.
إن قدرة الله تعالى مسلم بها عند المؤمنين، فإذا صح الخبر الوارد بما يدخل في دائرة قدرته تعالى فلا يسع المؤمن إلا التصديق والقبول مع تمام الرضا وانشراح الصدر به.
الإسراء والمعراج كانا بالروح والجسد:
إن الإسراء والمعراج كانا حقيقة للرسول صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، وواقعاً لا خيالاً، جسداً وروحاً، لا روحاً فقط. ذلك..
1- لأن الأصل في كلام العقلاء أن يؤخذ كما هو دون تأويل أو تحريف فكيف كلام الله تعالى؟
2- ولأن قدرة الله تعالى تتعلق بالممكنات جميعها – كما قال علماء التوحيد – والإسراء والمعراج بالجسد ممكن مقدور.
3- ولأن الله تعالى قد أعلن كون ذلك بالجسد والروح لمن ألقى السمع وهو شهيد، في قوليه: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)(1).. (والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى علمه شديد القوى، ذو مُرةٌ فاستوى.. وهو بالأفق الأعلى.. ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى.. فأوحى إلى عبده ما أوحى.. ما كذب الفؤاد ما رأى) (1).
4- ولأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما خاطب قريشاً بما كان من الإسراء لم يقل لهم أن ذلك كان رؤيا وما ظنوا أن ذلك كان رؤيا، لذلك بادروا يسألونه عما يدل على صحة ما رأى. قال ابن كثير في تاريخه: ... وذلك أن أبا جهل – لعنه الله – رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام وهو جالسٌ واجم، فقال له: هل من خبر؟ قال: نعم، فقال: ما هو؟ فقال: إني أُسريّ بي الليلة إلى بيت المقدس.. قال: إلى بيت المقدس؟ قال: نعم. قال: أرأيت إن دعوت قومك لك لتخبرهم أتخبرهم بما أخبرتني به؟ قال: نعم.. فأراد أبو جهل جمع قريش ليسمعوا منه ذلك وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم ليخبرهم بذلك ويبلغهم، فقال أبو جهل: هيا معشر قريش، وقد اجتمعوا من أنديتهم فقال: أخبر قومك بما أخبرتني به. فقص عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى وأنه جاء بيت المقدس هذه الليلة وصلى فيه، فمن بين مصفق وبين مصفر تكذيباً له، واستبعاداً لخبره، وطار الخبر بمكة.. وفي الصحيح أن المشركين هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك – أي وصف بيت المقدس – قال: فجعلت أخبرهم عن آياته فالتبس علي بعض الشيء – إذ جاءه ليلاً – فجلّ الله لي بيت المقدس حتى جعلت أنظر إليه دون دار عقيل وأنعته لهم.. قال ابن إسحاق: فأقام الله عليهم الحجة واستنارت لهم المحجة، فآمن من آمن على يقين من ربه، وكفر من كفر بعد قيام الحجة عليه، كما قال الله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس)(1) أي اختباراً لهم وامتحاناً.
قال ابن عباس: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم. (جـــ3 ص113).
حديث البخاري في المعراج:
فقد روى البخاري عن قتادة عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أخبرنا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ مُضْطَجِعاً إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَدَّ قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي مَا يَعْنِي بِهِ قَالَ مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَاناً فَغُسِلَ قَلْبِي ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ قَالَ أَنَسٌ نَعَمْ يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ... فَقِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَباً بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ فَقَالَ هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ مَرْحَباً بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَباً بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ قَالَ هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا ثُمَّ قَالَا مَرْحَباً بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَباً بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ قَالَ هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَباً بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَباً بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِلَى إِدْرِيسَ قَالَ هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَباً بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَباً بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ قَالَ هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ مَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَرْحَباً بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى قَالَ هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى قِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ قَالَ أَبْكِي لِأَنَّ غُلَاماً بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي(1) ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَرْحَباً بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ قَالَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ قَالَ مَرْحَباً بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ فَقُلْتُ مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ(2) ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يدخلهُ كل يوم سبعون ألف ملك، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ بِمَا أُمِرْتَ قَالَ أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْراً فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْراً فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْراً فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ بِمَ أُمِرْتَ قُلْتُ أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ قَالَ سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ قَالَ فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي).
دفع شبه علمية:
قال قائلون: أن الإسراء وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مناماً لا يقظة بدليل:
1- حديث شريك الذي رواه عنه البخاري وفيه واستيقظ وهو في المسجد الحرام..
2- وبقول ابن إسحاق: حدثني بعض آل أبي بكر عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسرى بروحه..
3- وقوله أيضاً: حدثني يعقوب بن عتبة أن معاوية كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت رؤيا من الله صادقة..
الجواب:
1- الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أنس وفيه: (بين أنا في الحطيم وربما قال قتادة في الحجر.. فناداني مناد قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) ولم يرد فيه غير رواية شريك (ثم استيقظ) لذا تكلم العلماء برواية شريك.. فمن قائل أن رواية شريك فيها تقديم وتأخير، قال الإمام مسلم بعد سياق السند: ".. إنه جاء ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام وساق الحديث بقصته نحو حديث ثابت البناني "الذي رواه مسلم أيضاً كالبخاري وأوله أتيت بالبراق..". وليس فيه ثم استيقظ وقدمه فيه شيئاً وأخر وزاد ونقص.. يعني شريكاً"(1).
ومن قائلين أن رواية شريك شاذة إذ خالف فيه الرواة الثقاة والمعروف في علم الحديث أن الزيادة الشاذة مردودة. قال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين بعد ذكر الرواية ثم استيقظ (هذا الحديث بهذا اللفظ رواية شريك بن أبي نمر عن أنس وقد زاد فيها زيادة مجهولة وأتى بألفاظ غير معروفة، وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين والأئمة المشهورين.. كان شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ عن أهل الحديث)(1).
وقال أبو بكر البيهقي رحمه الله تعالى: في حديث شريك زيادة تفرد بها على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى الله عز وجل يعني قوله ثم دنا الجبار – وهي في رواية شريك – فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى. قال: وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤية جبريل أصح، قال ابن كثير وهذا الذي قاله البيهقي رحمه الله تعالى في هذه المسألة هو الحق فإن أبا ذر قال يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: نورٌ أنى أراه..
وفي رواية (رأيت نوراً) أخرجه مسلم.. وقوله ثم دنا فتدلى: إنما هو جبريل عليه السلام كما ثبت ذلك في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين وعن ابن مسعود وكذلك هو في صحيح مسلم عن أبي هريرة ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذه الآية بهذا(2).
وعقد القاضي عياض في الشفاء فصلاً لرد دعوى كون الإسراء وقع مناماً، فقال رحمه الله تعالى: فصل في إبطال قول من قال إنها نوم بقوله تعالى (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك) فسماها رؤيا.. قلنا قوله (سبحان الذي أسرى بعبده) يرده لأنه لا يقال في النوم "أسرى" وقوله: (فتنة للناس) يؤيد أنها رؤيا عين وإسراء شخص إذ ليس في النوم فتنة ولا يكذب به أحد لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في ساعة واحدة في أقطار متباينة.. ثم قال: وما روي بينا أنا نائم في الحطيم.. وذكر شق البطن ودنو الرب الواقعة في هذا الحديث إنما هي من رواية شريك عن أنس رضي الله تعالى عنه فهي منكرة من روايته إذ شق البطن في الأحاديث الصحيحة إنما كان في صغره عليه الصلاة والسلام وقبل النبوة، ولأنه قال في الحديث قبل أن يبعث والإسراء بإجماع كان بعد المبعث، فهذا يوهم ما وقع في رواية أنس عنه.
قلت نقلت القارئ في شرح الشفاه وقع ثلاث مرات له صلى الله عليه وسلم، حين كان صغيراً في بني سعد، وعند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم في الدلائل، وعند إرادة العروج إلى السماء كما في الصحيح.
2- هذا غير ثابت أصلاً.. لأنه من رواية ابن إسحاق بلفظ حدثني بعض آل أبي بكر، فمن هو هذا البعض؟ وأين ابن إسحاق المتوفى في منتصف القرن الثاني من إدراك زمن عائشة ففي السند انقطاع لا يصح به شيء..
3- وهذا أيضاً غير ثابت عن معاوية للانقطاع بين شيخ ابن إسحاق يعقوب بن عتبة وبين معاوية لأنه توفي سنة 128 وأين هذا التاريخ من وفاة معاوية في سنة 60؟ فلا يصح التعويل على مثل تلك الأخبار المنقطعة في ادعاء أن الإسراء روحاني فقط أو في حالة النوم فقط(1).
قال ابن كثير في تاريخه بعد نقله قولي ابن إسحاق: وقد توقف ابن إسحاق في ذلك وجوز كلاً من الأمرين من حيث الجملة، ولكن الذي لا يشك فيه ولا يتمارى أنه كان يقظاناً لا محالة(2).
ملاحظات:
1- لعل الحكمة في الإسراء والمعراج بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد موت نصيريه من البشر، خديجة رضي الله تعالى عنه وأبي طالب، ليكون ذلك ترويحاً له صلى الله عليه وسلم وتسلية، وليظهر فضله صلى الله عليه وسلم بهذه المعجزة الذي انفرد بها بين المرسلين، وليكون جواباً على الكفار الطالبين منه صلى الله عليه وسلم أن يرقى في السماء على قصد التندر، ولتفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمسة في السماء، وبذلك يعظم شأن الصلاة عند المؤمنين، إذ فرضت وحدها بالسماء من بين سائر الفرائض والتكاليف، وفي الحق ليريه ربه سبحانه من آياته الكبرى في أرضه وملوكته الأعلى، ولم يكن ذلك معاذ الله ليقرب من ربه قرباً مكانياً فهو سبحانه يتعالى عن أن يحتاج إلى مكان أو يحيط به زمان.
قال الكوثري رحمه الله تعالى: وهذا هو العروج ليس للتقرب منه تعالى لأن القرب منه لا يكون بالمسافة، قال تعالى: (واسجد واقترب) وقال صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء" رواه مسلم وأبو داود.
واحتجاج إمام الحرمين على تنزه الله سبحانه عن الجهة بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على يونس بن متى" وحمله على معنى أنه صلى الله عليه وسلم عند وصوله إلى سدرة المنتهى ما كان أقرب إلى الله من يونس وهو في بطن الحوت، مما ذكره القرطبي في تذكرته رواية عن أبي بكر بن العربي، وروى ناصر الدين بن المنير عالم الثغر الاسكندري العلامة المشهور مثل ذلك عن الإمام مالك إمام دار الهجرة رضي الله تعالى عنه في كتابه المقتضى في شرف المصطفى) وتنزيه الله سبحانه عن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات هو عقيدة أهل الحق(1).
قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: من قال لا أعرف ربي بالسماء أو في الأرض فقد كفر، قال السمرقندي في تعليقه: لأنه بهذا القول يوهم أن يكون له تعالى مكان فكان مشركاً(2).
2- الجمهور على أن الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة، وأنهما وقعا بالروح والجسد مع اليقظة، ولا محيد عن ذلك بعد صحة الخبر وتمام الاعتقاد بقدرة القادر الحكيمة الشاملة لكل ممكن.
قال ابن إسحاق: (.. ولكنه صلى الله عليه وسلم أصبح واجماً يخشى إن بدأ فأخبر قومه بما رأى أن يبادروا إلى تكذيبه فتلطف بإخبارهم أولاً بأنه جاء بيت المقدس في تلك الليلة.. إلخ)..
3- قيل أن الإسراء والمعراج كانا في السنة الحادية عشرة من المبعث، وعن ابن حزم دعوى الإجماع على ذلك – وما أكثر دعاويه تلك – وجزم النووي في الروضة أن ذلك كان في ربيع الأول، والمشهور بين العامة أن ذلك كان في الليلة السابعة والعشرين من شهر رجب.
4- السماوات السبعة أجرام لها أبواب تفتح وتغلق حسب الحاجة، فليست هي الكواكب السيارة السبعة وليست طبقات هوائية وليست طبقات نجوم كما زعم مؤلف (التوفيق العلمي بين الحضارة والإسلام) وقدرة الله تعالى وخلقه أعظم من أن يدرك كنههما أو يحيط بهما مخلوق، وشأن المؤمن التسليم بكل ما جاء من عند الله تعالى عن طريق صحيح.
5- لم يرد في السنة تحديد عناصر السماوات السبعة وأن أولاها من دخان والثانية من حديد والثالثة من نحاس والرابعة من فضة بيضاء والخامسة من الذهب الأحمر والسادسة من ياقوتة خضراء والسابعة من درة بيضاء، كما ورد في رسالة المعراج المنسوبة إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وتلك الرسالة لن تصح نسبتها إليه رضي الله تعالى عنه وممن أشار إلى ذلك السيوطي في تدريب الراوي.
فيا حبذا لو استصدر المفتي العام قراراً بمنع تداول تلك الرسالة المحشوة بالأكاذيب والخرافات العجيبة التي تسيء إلى الإسلام وتلحقه بالأساطير الباطلة وتدفع بعض العوام في الثقافة الإسلامية إلى إنكار الأمر بالكلية، ويا حبذا لو تكلف كلية الشريعة طالباً من طلابها الذين يعدون الرسالة الجامعية أن يجعل موضوعها تبيان كذب تلك الرسالة شكلاً وموضوعاً، وبذلك يخدم الإسلام خدمة جليلة والله سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملا...
6- حقيقة الإيمان التصديق بكل ما جاء من عند الله تعالى وصح به الحديث سواء كان مما يدرك بالعقل والحس أولاً، قال سبحانه (آلم.. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين.. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) فيجب دراسة علم التوحيد ضماناً لسلامة العقيدة وصيانةً لها عن الزيغ والضلال التي لا تنفع معها طاعة بحال من الأحوال معاذ الله..
وصلى الله تعالى على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين...
(1) الإسراء: 1
(2) قلت بل هي بنت عمه أبي طالب وليست زوجه.
(2) كأن النائم يستحيل عليه الاستيقاظ ليلاً.
(1) انظر موقف العقل والعلم والعالم جــ 1، 2، 3، صواعق من نار، الفكر الإسلامي الحديث، حياة محمد (صلى الله تعالى عليه وسلم)، نظام السلم والحرب في الإسلام، تجد جل تلك الأقوال معزوة إلى أصحابها.
(1) الإسراء.
(1) النجم: 1 – 11
(1) الإسراء: 60
(1) لم يكن هذا من موسى عليه السلام حسداً معاذ الله بل أسفاً على ما فاته من الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجة بسبب ما وقع من قومه من المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المقتضية لتنقيص أجره لأن لكل نبي مثل أجر من اتبعه. هـــ العيني على البخاري جـــ 17 ص28 وما بعدها.
(2) قال الطيبي النيل والفرات من أصلها "أي أصل سدرة المنتهى" ثم يسيران حيث أراد الله تعالى ثم يخرجان من الأرض ويسيران فيها وهذا لا يمنعه شرع ولا عقل وهو ظاهر الحديث فوجب المصير إليه، أ هــ نفس المصدر.
(1) مسلم على هامش القسطلاني ج2 ص62.
(1) نفس المصدر.
(2) تفسير ابن كثير ج3 ص3.
(1) مقالات الكوثري: ص419.
(2) تاريخ ابن كثير ج3 ص114.
(1) مقالات الكوثري ص420.
(2) الفقه الأبسط لأبي حنيفة شرح السمرقندي ص49.
(1) ابن كثير ص113 ج3.
وسوم: العدد 845