دعوات تجديد الفكر الديني ذريعة مكشوفة للتمويه على الرغبة في تغيير هوية المجتمعات الإسلامية
من المعلوم أن الانقلاب العسكري على الديمقراطية والشرعية في مصر اعتمد أصحابه بدرجة كبيرة على التكثيف من الدعاية الإعلامية المنتصرة له من أجل تمرير خطاب شيطنة جماعة وحزب الإخوان المسلمين الذين قبلوا المشاركة في اللعبة السياسية ،وخاضوا انتخابات قيل عنها أنها أول تجربة ديمقراطية في مصر عبر تاريخها الممتد من العصر الفرعوني إلى عصر حكم العسكر مرورا بحقب تاريخية عرفت أنواعا من الحكم المستبد.
وتوجد اليوم في مصر عشرات القنوات الإعلامية التي انتدبها الانقلابيون من أجل إضفاء المشروعية على انقلاب فاقد للشرعية، لأنه اعتمد غير سبيلها باستعمال القوة والعنف للوصول إلى السلطة عوض الاحتكام إلى الصناديق الزجاجية كما فعل حزب الحرية والعدالة الإخواني .
ومن ضمن تلك القنوات قناة الغد التي قدمت حلقات تحت عنوان : " يتفكرون " وهي تستضيف فيها محسوبين على الفكر والثقافة ، و يهدف ما يقدم فيها من أفكار وآراء في نهاية المطاف إلى الرغبة في تلميع صورة الانقلاب العسكري من خلال التشكيك في خصومه الإخوان الذين سلبت منهم بطريقة غير مشروعة أو بالقوة سلطة نالوها بطريقة مشروعة عبر انتخابات .
ولما كانت مرجعية حزب الإخوان إسلامية ، تعرض الإسلام لحملات نقد وتشكيك ،وأفرز ذلك ما بات يعرف بالدعوة إلى تجديد الخطاب الديني أو معرفة دينية جديدة تسمح بالانفتاح أو التحرر الفكري من التراث الإسلامي الذي هو منطلق حركة الإخوان التي ينعت أصحابها بالظلاميين والتكفيريين والمتزمتين والسلفيين ... وما إلى ذلك من نعوت تشفي غلة الانقلابيين على الشرعية والديمقراطية قبل أن يكون انقلابهم انقلابا على مجرد جماعة أو حزب سياسي مرجعيتهما إسلامية .
ومما تناولته حلقة من حلقات "يتفكرون " إثارة قضية : هل النص الديني ويقصد به القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان ؟ واستدعي لمناقشة هذه القضية باحثان متخصصان في ما يعرف بعلم الأديان المقارن أحدهم لبناني هو الدكتور وجيه قلصو، والآخر أردني هو الدكتور عامر الحافي . وبدأت الحصة بتوجيه من مقدمها حيث انطلق من أن الإجابة عن سؤال هذه القضية يكون الجواب عنه محسوما بنعم عند معظم الناس ، ويكون الجواب عنه بلا اتهاما بالكفر بالنسبة لمن سماهم الغلاة والمتشددين . وبهذا التوجيه وغيره من العبارات التي كان مقدم الحصة يستعملها بين الحين والآخر والتي كان الهدف منها محسوما أيضا وهو ترجيح كفة الجواب بلا على كفة الجواب بنعم مع الإشادة والانتصار لأصحاب الجواب بلا ، والتعريض بأصحاب الجواب بنعم .
وقبل الخوض فيما أثير حول ما سماه ضيفا هذه القناة في هذا البرنامج تاريخية النص الديني ،والتي أريد بها أنه نص محكوم بالتاريخ لتناوله قضايا مرت في فترات زمنية معينة وانتهت ، ومن ثم لا يمكنه أن يكون نصا فوق التاريخ .
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الظرف السياسي الحالي في مصر على وجه الخصوص فرض على أصحاب القرار فيها فتح موضوع : " تجديد الخطاب الديني " إعلاميا في إطار صراعهم الإيديولوجي مع خصومهم الإخوان وقد انتصروا عليهم بقوة السلاح ، وهم يرغبون أيضا في الانتصارعليهم بقوة الفكر والحجة ،لأنهم يشعرون بهزيمة في هذه الواجهة .
وخلاصة ما جاء على لسان ضيفي هذا الحلقة من هذا البرنامج المكشوف الخلفية والهدف والغاية أن القرآن الكريم نص يحكمه التاريخ ،الشيء الذي يعني أنه لا يمكن أن يكون صالحا لكل زمان وكل مكان ، وهو ما يعتبر نقضا لفكرة كونه رسالة خاتمة أنزلت إلى العالمين لتغطي تشريعات أحوالهم إلى نهاية العالم وقيام الساعة ، ومن ثم التمهيد لفكرة حرية فهم هذا النص ، وحرية التعامل معه ، واعتبار أساب نزوله منتهية تاريخيا ، وأن لكل زمن ظروفه الخاصة به، والتي لا يمكن أن تسقط عليها تشريعتا ظروف خلت وانتهت ، وهو ما يعني تعطيل الشرع الذي تمخض عن تلك الظروف والأسباب ، وعدم تعميم أحكامه على ما يجد من ظروف وأسباب في حياة الناس .
وفي مقارنة تنضوي على مغالطة واضحة شبه أحد ضيوف البرنامج من يتابع المفسرين والفقهاء القدمى في فهمهم وآرائهم كمن يتابع أطباء قدماء في طبهم الذي تجاوزه الزمن ، وهو يريد أنه كما حصل تطور في الطب يحصل تطور مثله في الشرع ليعطي لنفسه حرية التصرف في فهم نصوص القرآن الكريم ، والتنصل من شرعه بذريعة تطور الظرف الذي يعيش فيها ، وهذا من شأنه أن يجعل النص القرآني منتهيا تاريخيا عوض أن يكون رسالة خاتمة بما للخاتمية من دلالة الاستعلاء على الزمان والمكان .
ومعلوم أن تشبيه ما يطرأ عليه التغيير في حياة الناس بما هو ثابت فيها ،تشبيه غير موفق وغير مقنع ، لهذا لا يصلح تشبيه علم الطب أو غيره من علوم المادة على اختلاف أنواعها التي يميزها التغيير بعلوم الدين عقيدة وشريعة التي يميزها الثبات . وإذا كان الطب يطور علاجه للأمراض العضوية والنفسية باستمرار ، فإن الشرع قد حسم في أمر المحرم تحريما أبديا لا يعرف التغيير، ذلك أن فاحشة الزنا على سبيل المثال لا يمكن أن تتغير مواجهة الشرع الإسلامي لها، فتصير هي الأخرى متطورة ومتغيرة ، وتسمى أو تنعت بنعوت أخرى من قبيل حرية الجنس أو الرضائية أو المثلية كما يريد البعض تسميتها اليوم ممن يطالبون بتعطيل شرع الله عز وجل ليفسح المجال لتحكيم شرائع وضعية أساسها الأهواء تحت ذريعة تطور الحياة البشرية واستعلاءها على شرع الله الذي يخض حقبة زمنية معينة ولّت حسب زعمهم .
وذهب ضيف البرنامج الآخر مذهب صاحبه في اعتبار النص القرآني محكوما ومقيدا بالتاريخ مستشهدا بقول الله تعالى : (( وما أرسنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم)) ليزعم أن القرآن الكريم هو لسان العرب ،وقد أنزل عليهم ، وأنهم فهموه حسب ظروفهم وثقافتهم ولا يلزم غيرهم فهمه على طريقتهم ، وباعتماد ما تواضعوا عليه من قواعد لغتهم أو من علوم آلاتها ، وبهذا يكون صاحب هذا القول قد أسقط من حسابه قول الله عز وجل : (( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) .
ومعلوم أن التعامل مع النص القرآني بطريقة اعتماد بعضه، وتعطيل البعض الآخر ليس من العلم والمعرفة في شيء ، ولقد وصف الله تعالى من يعتمدون هذا الأسلوب في التعامل مع وحيه ممن كانوا قبلنا من بني إسرائيل بالحمير التي تحمل أسفارا ولا تفيد منها شيئا ، وما أكثر الحمر الحاملة للأسفار في زماننا وهي تنصب نفسها في طليعة أصحاب الفهم والعلم والمعرفة والباع الطويل فيهما فضلا عن دقة الاختصاص وهلم جرا من الألقاب التي تقدم وتعرض بها لإضفاء مصداقية علمية ومعرفية عليها وهي في الحقيقة مفتقرة إليها افتقارا يثبته ما تعتمده من منهجية وأسلوب واهيين في التعامل مع النص القرآني بالخوض فيه نفيا وتعطيلا لبعضه، وإثباتا لبعضه الآخر ، وقولا فيه بالأهواء الصادرة عن قناعة غير مقنعة منطقا أو عقلا والتي مفادها أن الزمن والإنسان قد تغيرا، وأن ذلك النص القرآني عفى عنه الزمن كما عفى عمن أنزل عليهم ،وتناول أحوالهم.
ولقد أنكر هذا الضيف أيضا على مستعملي عبارة : " جاهلية القرن العشرين " ،واعتبر استعمالهم لها أكبر خطأ أو أكبر جرم ،لأنهم بذلك يعطلون الاستفادة من التراث الإنساني التاريخي الذي لا يخلو من فائدة ونفع ، واستشهد على ذلك بالتاريخ الفرعوني الذي لم يكن بالنسبة إليه كله سيئا ، وذكر تحديدا زمن فرعون موسى عليه السلام حيث وجد من كان يكتم إسلامه ، ويجادل فرعون في قرار منع موسى عليه السلام من الإيمان بالله تعالى كما جاء ذلك في القرآن الكريم ،واعتبر ذلك دعوة مبكرة إلى حرية المعتقد المطالب بها اليوم .
ويبدو أن صاحب هذا القول قد غلب عليه الجو المهيمن على الوضع السياسي الراهن في مصر ، فاغتنم الفرصة لسرد مأخذا من المآخذ التي تؤخذ على جماعة الإخوان المسلمين، وهي استعمالها عبارة " جاهلية القرن العشرين " أو عبارة " الحاكمية لله " وما شابه ذلك من المآخذ ، ونحسب أنه وقع في تناقض صارخ حين سمح لنفسه بالاستشهاد من القرآن الكريم على حرية المعتقد من خلال قول من كان يكتم إيمانه زمن موسى عليه السلام ، و لكنه ندّ عنه أن الذين قالوا بجاهلية القرن العشرين لم يكن قصدهم إسقاط عصرعلى عصر أو حقبة تاريخية على أخرى، وإنما كان قصدهم أن سلوكات بشرية سلبية في زمن ما قد تتكرر عبر التاريخ . فإذا سلمنا أن الذي كان يكتم إيمانه زمن موسى عليه السلام كان يدعو إلى حرية المعتقد كما هو معمول به في القرن الواحد والعشرين ، فما المانع أن تسمى سلوكات في هذا القرن من قبيل المثلية والرضائية سلوكات جاهلية لشبهها بما كان في الماضي، وقد سميت كذلك قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أو أبعد من ذلك كما هو الشأن بالنسبة لفاحشة قوم لوط عليه السلام ، وهي من الجاهلية الأولى أو كما هو الشأن بالنسبة للبغاء في جاهلية العرب؟ والقرآن نفسه يحذر من سلوك التبرج أو العري، ويضيفه إلى كلمة جاهلية في قوله تعالى مخاطبا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : (( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ))، وقد قيل أنها أوغل في التاريخ من جاهلية ما قبل البعثة حتى ذهب بعضهم إلى إنها جاهلية كان زمن نبي الله نوح عليه السلام . وإذا ساد التبرج والعري في القرن العشرين أو الواحد والعشرين، فما المانع من وصفه بتبرج الجاهلية ، وقد وصفه الله تعالى بذلك ؟ ولم يكن وصفا من اختراع الإخوان.
وخلاصة القول أن تداعيات ثورات وحراكات الربيع العربي أفرزت توجسا من رهان الشعوب العربية على الإسلام من خلال إقبالها على التصويت في البلدان التي عرفت انتخابات على أحزاب تتبنى المرجعية الإسلامية والتي فازت لتجد نفسها إما مقصية بانقلاب عسكري دموي كما حدث في مصر أو مضايقة بشكل أو بآخر كما حدث في بلدان أخرى لصرف الشعوب العربية عن رهانها على الإسلام ،والتوجه في المقابل نحو بدائل عنه بذريعة أن زمن شرعه قد ولّى ، وأن هذا العصر لا بد له من شرائع تناسبه، وقد بدأت الدعوات إلى بعضها في بعض الأمور منها الأحوال الشخصية من ميراث ونكاح وغيرهما ، ولن يقف الأمر عند هذا الحد بل ستطال تلك الدعوات تعطيل شرع الله عز وجل في أمور أخرى ليصير في خبر كان، ويخلو بذلك الجو لشرائع الأهواء الوضعية، والذريعة بطبيعة الحال هي محاربة ما بات يسمى بالإسلام السياسي والذي يقصد به تحديدا وصول الأحزاب ذات التوجه الإسلامي إلى مراكز القرار ،ومنعها من ذلك إما بالاستئصال كما حدث في مصر أو بأساليب أخرى تفضي إلى نفس النتيجة في نهاية المطاف .
وسوم: العدد 846