الدول العربية التي زرعت أشواك النعرات العرقية والطائفية وجنت بذلك زلازل الفتن المدمرة عبرة لغيرها
الدول العربية التي زرعت أشواك النعرات العرقية والطائفية وجنت بذلك زلازل الفتن المدمرة عبرة لغيرها ممن لا زال يراهن على تلك النعرات
من الأقوال التي تجري مجرى المثل : " من زرع الشوك لا يجني الورد " . وهذا المثل يسري على العديد من الدول العربية ذات الأعراق المتعددة أو العقائد المختلفة ، والتي لم تدخل بعد طور الدول التي تنصهر فيها مختلف الأعراق أو الإثنيات ومختلف المعتقدات والقناعات في بوتقة واحدة تجمع الجميع على قدم المساواة ، ولكن يهيمن فيها على جميع المكونات الشعور بالانتماء للوطن الواحد والولاء له دون غيره مما يوالى من نعرات عرقية أو طائفية.
فها هو لبنان وهو أكثر البلدان العربية إثنية عرقا وعقيدة ينفجر مرة أخرى بعد تجربة الحرب الطائفية المريرة التي مزقته كل ممزق بسبب الصراع الإثني . وكان من المفروض بعد تلك التجربة المريرة أن يودع هذا البلد وإلى الأبد العصبيات العرقية والطائفية ليعيش شعبه في أمن وأمان وسلام ورخاء ورفاهية ، ولكن مع شديد الأسف أبى دهاقنة العرقية والطائفية إلا النفخ في نيران النعرات لإضرامها لتأتي على الأخضر واليابس، كل ذلك من أجل تربعهم فوق هامات من يسوقونهم سوق الأنعام مستغلين عواطفهم العرقية أو الطائفية الطائشة التي لا يحكمها أويلجمها عقل أو منطق ، وهي من موروث العصور المتخلفة الغابرة .
والملاحظ أن الذي حرّك الشارع البناني هو موضوع القوت بالرغم من تعدد الإثنيات ،لأن المعاش قدر كل إنسان بغض الطرف عن عرقه ومعتقده . والذي قدح زناد الحراك في لبنان هو فساد دهاقنة العرقية والطائفية والذي ترتب عنه مشكل المعاش. ومن المفروض في الشعب البناني المعروف بنسبة متميزة في الوطن العربي من حيث مستوى العلمي ـ إن صح التقديرـ أن يعي مشكله الحالي بشكل جيد ، ولا يمكن أن يحصل ذلك إلا بمراجعة منظومته الإثنية التي تحول دون انصهاره في بوتقة الوطن الواحد الذي يتساوى فيه المواطنون في الحقوق والواجبات دون تمييز ، ولا يزايد بعضهم على بعض عرقيا أو طائفيا . والوعي بأن الأزمة التي يتخبط فيها لبنان سببها الحقيقي سيطرة النظام الطائفي على حكم البلاد هو أول خطوة نحو تجاوز تلك الأزمة .
والمتتبع لتصريحات دهاقنة العرقية والطائفية في لبنان يلاحظ أنهم يصرحون جميعا بأنهم يتفهمون غضب الشعب وخروجه في مظاهرات واعتصاما، ويلاحظ اشتراكهم جميعا في نهج أسلوب مداهنة الشعب الثائر، وذلك من أجل الحفاظ على مكاسبهم التي هي سبب المشكلة الاقتصادية .
ولقد بدأت الحرب الكلامية بين هؤلاء الدهاقنة استعداد لنزال قد لا يقف عند الحرب الكلامية ، وقد يصل بهم الأمرـ لا قدر الله ـ إلى حلقة جديدة من حرب طائفية ساخنة خصوصا وأن لبنان بلد تستهدفه بشكل صارخ قوى خارجية لها مصالح ، وتتخذ منه ساحة نزال حرب باردة فيما بينها ممتطية العرقية والطائفية ، ففي لبنان نجد الحضور الصهيوني ، والإيراني والخليجي والفرنسي والأمريكي ... وكل هؤلاء يعولون على العرقية والطائفية المسيطرة عليه لتحقيق المصالح ، ولتصفية الحسابات فيما بينهم .
وليس حال العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر والسودان ودول الخليج بأفضل من حال لبنان، ذلك أنه إن خفت حدة العرقية في قطر من هذه الأقطار، استفحلت حدة الطائفية في آخر أو اجتمعت معا في الواحد أو نابت عنها العشائرية أو الحزبية . وكل ما تعانيه هذه الدول من مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية سببه تحكم الذهنية العرقية والطائفية أوالحزبية فيها . والأنظمة المسيطرة على مقاليد السلطة في هذه الأقطار تخلع على نفسها الشرعية والمصداقية ، وتنزعهما من غيرها بل تذهب أبعد من ذلك في تجريم هذا الغير ، واعتباره مصدر تهديد لها ، وتحمله مسؤولية فشلها في تدبير الأمور .
والدول المغاربية ليست بمنجاة من الوقوع فيما وقع فيه لبنان الطائفي ، ذلك أن بعض دعاة العرقية الأمازيغية يذهبون بعيدا في قدح شرارة الصراع العرقي ، وهؤلاء عليهم أن يتعظوا وأن يحجموا عن النفخ في النعرة العرقية وهم يرون ما أفضت إليه في لبنان وغيره من البلدان العربية التي تسودها النعرات سواء العرقية أو الطائفية التي تحركها العصبية للجنس أو العرق أو المعتقد أو المذهب ، فضلا عما تضيفه الحزبية من نفخ فيها لتفكيك البلاد العربية التي كان من المفروض أن تكون عبارة عن وطن فيدريالي واحد يحكمه منطق المواطنة المتعالية عن العرقية والمذهبية والحزبية .
وعلى دعاة العصبية العرقية في الدول المغاربية أن يلجموا أهواءهم ، وينصرفوا عنها إلى فكرة الانصهار في بوتقة واحدة مع من يختلف معهم عرقا أو جنسا أو لغة أو عقيدة أو حزبا أو رأيا .
ولو أن الناس في الوطن العربي غلبوا الأخوة الإنسانية كما ينص على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) على النعرات العرقية والطائفية لعاشوا بسلام وأمن وأمان وفي رفاهية وبحبوحة عيش ، ذلك أن عبارة : ((خلقناكم من ذكر وأنثى )) في الآية الكريمة ، وقد كانت بينهما علاقة زواج وإنجاب تفيد غلبة الأخوة الإنسانية على الشعوبية والقبلية ، وهي علاقة تفضي إلى تبادل المعروف بين الناس حسب بعض المفسرين، فضلا عن كونها تدل على التعارف الذي به يحصل التآلف والتعاون والسلم والسلام والأمن والأمان . ولقد جعل الله تعالى الأفضلية في المتّقين من خلقه، الشيء الذي يعني أن التفاضل بين البشر يكون بالمواقف وليس بالمشاعر الشعوبية والقبلية . والتقوى هي صيانة البشر نفوسهم من التمرد على سلطان الخالق سبحانه وتعالى ، ومن أشكال التمرد عليه استبدال الشعوربالأخوة الإنسانية بالشعور بالشعوبية والقبلية وما يتفرع عنهما من نعرات .
ولا بد من التذكير بأن الإسلام بريىء من الذين يرومون تحجيمه في نعرات طائفية ، ويختزلونه في شيع يريد بعضها التميز عن البعض الآخر ليحظى بامتيازات أشاعها الله عز وجل بين البشرية لا تنال باعتبارات الأعراق أو الأجناس أو الألوان أو اللغات أو غير ذلك مما لا اعتبار له أمام إنسانية الإنسان التي كرمها خالقه سبحانه وتعالى ، وفي المقابل ذم العصبيات العرقية والجنسية والطائفية .
ولقد آن الأوان في البلاد التي تدين بدين الإسلام أن تتجاوز الطائفية والمذهبية ،فيكون الانتماء الإسلامي فوق الانتماء للمذهب سنة أو شيعة أوالطائفة سلفية أو طرقية أو حركية ، وما إلى ذلك من التصنيفات المبتكرة التي صارت تفرق حتى الفصيل الواحد .
ولا يعقل أن يتوجه المسلمون إلى قبلة واحدة ، ويرفعون أذانا واحدا ، ويقيمون صلوات خمسا واحدة ، وجمعا واحدة ، ويصمون شهرا واحدا ، ويحجون إلى بيت واحد حوله يطوفون طوافا واحدا، ويسعون سعيا واحدا، ويقفون بعرفات وقوفا واحد ، ويوحدون ربا واحدا ، ويقرون برسالة رسول واحد ، ولكنهم يعيشون أشتاتا متناحرين ، ينتقلون من التوحيد إلى أشكال مختلفة من الشرك الصريح والخفي ، فيجعلون لله شركاء من بشر يضفون عليهم نعوتا وصفات التقديس من قبيل آيات الله ، وسماحات ، و شيوخ أولياء الله العارفين به والوسطاء بينه وبين خلقه ، ودعاة مربون يأمرون وينهون، ويفعلون ما يريدون ... كل ذلك والقرآن الكريم قد حسم في أمر التوحيد والشرك بكل أشكاله ، وجعل العبودية لله تعالى لا يعلو عليه أحد ، وأخبر بيوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها بما في ذلك الآيات، والسماحات، والشيوخ الكمّل أوالأولياء ،والقيادات والزعامات ... وما إلى ذلك من نعوت وألقاب يخلعها الناس على بشر مثلهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق . وإذا كان أصفياء الله عز وجل من أنبياء ورسل صلواته وسلامه عليهم أجمعين كلهم يقول يوم القيامة: نفسي نفسي حين يفزع إليهم الناس من هول يوم القيامة إلا الذي وعده الله تعالى بالشفاعة صلى الله عليه وسلم ، فماذا يكون غيرهم ممن اتخذهم الناس أربابا أو شبه أرباب على ما هم عليه من تزكية أنفس لا يزكيها إلا خالقها سبحانه وتعالى ؟
وأخيرا وليس آخر نذكر بأن الإسلام قد تبرأ من كل عصبية بسبب نتنها ، وما نتنها سوى ما ينتج عنها من هرج وفتن قد عرف المسلمون بمن فيهم الذين يعيشون بين المحيط والخليج ألوانا وأصنافا لكنهم لم يتعظوا ، ولا زال فيهم من يستزيد منها لتمديد عمر التخلف أطول مدة ممكنة ، وقد كان ما مر من عمره كافيا لتدمير ما بين المحيط والخليج دمارا شاملا دمر الإنسان والعمران على حد سواء .
وسوم: العدد 847