الحلول الممكنة لواقع سريالي
أصيبت الجماهير الدّاعمة للثورة بخيبة أمل بعيد ما حدث في مجلس نواب الشعب على إثر الاختراق الذي حقّقه قلب تونس بحصوله على خطّة نائب رئيس البرلمان. ولئن حمّل العديد ما حدث إلى حركة النهضة التي تحالفت مع حزب قلب تونس للحصول على رئاسة المجلس، فإنّ المسؤولية الكبرى تقع بالأساس على حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب اللذان حشرا حركة النهضة في الزّاوية وتعاونا على ابتزازها لسرقة الانتصار الذي حققته في الانتخابات التشريعية الأخيرة. فما معنى أن تؤكّد حركة الشعب وتصرّ على حكومة الرّئيس ؟ وما معنى أن يشترط حزب التيّار الديمقراطي الحصول على حقيبة الداخلية والعدل والإصلاح الإداري وأن يكون رئيس الحكومة مستقلاّ لكي ينخرط في الحكومة المقبلة ؟ فليس لهذه الشروط إلاّ معني وحيد وهو أنّ الحزبين المذكورين والمحسوبين على التيّار الثوري قد تنكّرا لماضيهما وانحازا بشكل واضح وجلي ودون لبس إلى الثورة المضادّة وارتميا بكلّ جوارحهما في أحضان الدولة العميقة.
فحزب التيّار الدّيمقراطي الذي يدّعي الطهورية والصلاح والإصلاح ومحاربة الفساد لم يكن ليطالب بتلك المطالب التعجيزية لو لم يرتم في أحضان الثورة المضادّة. لأنّ المطالب المذكورة هي نفسها مطالب الثورة المضادّة بالأساس. ولقد سبق وأن تمّ إسقاط حكومة الترويكا في 2013 وتعويضها بحكومة مهدي جمعة لذات السبب. هذا وإنّ هذه المطالب ما كانت لتطرح في بلدان الديمقراطيات العريقة من طرف أحزاب تحصّلت على نتائج ضعيفة لا تتجاوز في أحسن الأحوال 7%. من أصوات النّاخبين. فهذان الحزبان لا ينطقان بلسانهما ووزنهما الحقيقي. بل إنّهما ينطقان ويفاوضان باسم الثورة المضادّة ككل. واللاّفت في هذا السياق أنّ الثورة المضادة تتمظهر في كلّ مرّة في شكل مغاير بحسب الظرف والحال. ففي اعتصام الرحيل كان إسقاط الحكومة بتعلّة غياب الأمن. أمّا اليوم فهم يريدون إحلال الفوضى باسم الديمقراطية وبطرح مطالب يخالها المواطن وجيهة ولكنّها في حقيقة الأمر إنّما هي مخالفة للدستور وهي ابتزازية بشكل فض لغاية حشر حركة النّهضة في الزّاوية وإجبارها على التعامل مع حزب قلب تونس ومن ثمّ اتهامها بخيانة الشعب والتطبيع مع الفساد والفاسدين.
بالنّتيجة فإنّ الحكومة سوف تتشكّل وفق ثلاث صيغ : إمّا بحركة النهضة زائد التيار الديمقراطي والشعب وائتلاف الكرامة... أو بحركة النهضة زائد قلب تونس ... أو بعديد الكفاءات من التكنوقراط. وفي كل الحالات فلن تكون هناك،في اعتقادي، إصلاحات جوهرية وعميقة تخرج البلاد من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة. ذلك أنّ الدولة العميقة سوف تكون ممثلة في كلّ هذه الحكومات وبالتّالي فلن تصادق بالضرورة على أيّ إصلاحات جوهرية تحارب الفساد والفاسدين. ربّما يسأل سائل لماذا لا تدفع حركة النهضة في اتجاه إعادة الانتخابات ؟ لكن ليعلم السّائل أنّ إعادة الانتخابات لن تغيّر من الوضع شيئا إضافة لهدر المال والوقت. فالشعب بعضه ثوري يميني وبعضه ثوري يساري وبعضه الآخر يتبع المنظومة القديمة. فإذا ما اختفى التّيار الديمقراطي والشعب مثلما اختفى الجمهوري والجبهة ونحوهما فسوف يطفو على الساحة من يعوّضهما ويقوم مقامهما. ولو فرضنا جدلا أن حركة النهضة وائتلاف الكرامة تحصّلا في هذه الانتخابات على أغلبية المقاعد فإنّ ذلك لن يحل المشكل لأنّ الاتحاد العام التونسي للشغل سوف يكون على الخط بالتدخّل المباشر دون المرور عبر من عيّنهم بالوكالة. فالجميع يعلم علم اليقين أنّ الاتحاد العام التونسي للشغل هو الذي ورث نظام المخلوع بن علي. وهو الذي انقلب على الثورة مثلما انقلب السّيسي على ثورة مصر. فأغلب الذين كانوا ينتمون للتجمع الدستوري الديمقراطي أضحوا ينتمون إلى الاتحاد العام التونسي للشغل. ولم يقوموا بشيء آخر سوى استبدال بطاقات الانخراط في التجمّع الدستوري الديمقراطي ببطاقات الانخراط في الاتحاد العام التونسي للشغل. فبعد أن كان المرشّح لنيل خطّة وظيفية أو لنيل ترقية في الرتبة يمرّ عبر مؤسسات الراجعة بالنظر لوزارة الداخلية وخلايا التجمع الدستوري الديمقراطي أصبح اليوم يخضع لتقييم عديد ممثّلي الاتحاد في مختلف مؤسسات الدولة. ولا تكاد تمرّ حكومة حتّى يؤشر عليها الاتحاد بنفسه وإلاّ فإنّها سوف لن تمر.
ولهلّ الحل يكمن في اعتقادي في أربع نقاط : أوّلا بالعمل على تغيير النظام الانتخابي لكي يعبّر بكل أمانة على الحساسيات السياسية المتواجدة في البلاد. وثانيا بالعمل على توعية الشعب التوعية السياسية المطلوبة حتّى يساهم بحق في فرز الغث من السمين. وثالثا بالعمل على محاربة الفساد بشكل متدرّج لتجنّب إثارة وتكتّل لوبيات الفساد دفعة واحدة. ورابعا بالترقّب لحين انتخاب قيادة للاتحاد تعكس بكل أمانة توجهات الشغالين. فالانتخابات التشريعية الأخيرة أبرزت تراجع كبير للخط اليساري في حين أنّ أغلب قيادات الاتحاد الحالية مكونة من اليسار لا بل ومن اليسار الاستئصالي.
وفي انتظار ذلك فإنّ التيّار الثوري سوف يواصل المسيرة محاولا تجنّب كلّ الفخاخ المبثوثة في كل الطرق والمسالك والمنعرجات. فإذا تراجع فريق ثوري بمفعول الاهتراء فسيبرز على السّاحة بالتّأكيد فريق ثان وثالث ورابع ...
وسوم: العدد 852