الأمّة معقود في مجلسها الشوروي الخير
كم من قرار اتخذه الواحد منا وألقى على جسد القدر ثوب الندامة يستر ما أبدته الأيام من سواد تبعات القرار ونتائجه يجر أذيال الخيبة لما أقدم عليه، وربما استطاع أن يتدارك الأمر ويجعل عالي القرار سافلها حتى تستوي سفينة القرار على جودي الإستقرار، وفي معظم الأحيان تجره حبائل القرار إلى مهاوي بحر الندامة ولات حين مناص.
وفي لحظة وعي واستذكار، يعود النادم القهقريا مراجعا حيثيات اتخاذ القرار، ليجد نفسه أمام حقيقة قلّما يدركها المرء إلا بعد أن يقع المحذور ويشجّ الفأس هامة الرأس، وهي حقيقة يتجاهلها الواثق من نفسه حد الغرور ويتفاعل معها الواثق من نفسه حد السرور، وتلك هي حقيقة الشورى في حياة البشرية كأفراد وتكتلات ومجتمعات ودول.
وربما يجد البعض مندوحة للتهرب من فاعلية الشورى من خلال معاينة مؤشر النجاح والفشل، والتذرع بأن النجاح ليس شرطا في الشورى، فبعض القرارات التي اعتمدت الشورى جاءت نتائجها مخيبة، وهي الأخرى حقيقة قائمة بذاتها، فليس بالضرورة أن تأتي الشورى بنتائج طيبة، ولكن لما كان الضغط النفسي هو عامل أساس لانهيار المرء بعد انهيار سور القرار الفردي المتخذ بمعزل عن أساسيات الشورى، فإن الضغط النفسي هو أهون بكثير عند فشل القرار الشوروي، فالنفس اللوامة تكون في القرار الفردي فاعلة ومنفعلة إلى أقصى الحالات قد تطيح بصاحب القرار، ولكن النفس المطمئنة في القرار الشوروي هي الغالبة لها أن تهدئ من روع صاحب القرار، وإذا انتهى قراره إلى الفشل هانت عليه العواقب من باب "المصيبة إذا عمّت هانت".
وفي الأدبيات العربية والإسلامية الكثير من النصوص التي تدفع بالمرء إلى أن يستقلّ براق الشورى حتى يصل به الى سدرة منتهى الرأي السديد، من ذلك، قوله تعالى في صفات المؤمنين: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) سورة الشورى: 38، ودعوة الرب لنبيِّه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) سورة آل عمران: 159، وعن نبي الإسلام: (مَن أراد أمراً فشاوَرَ فيهِ وقضى، هُدي لأرشدِ الأمورِ)، وعلى مستوى الحكم يضيف عليه الصلاة والسلام: (إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاؤكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاؤكم، ولم يكن أمركم شورى بينكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها)، وعن أمير الحكمة علي بن أبي طالب(ع): (من شاور ذوي الألباب دلّ على الرشاد)، في المقابل يضيف عليه السلام: (من أعجب برأيه ضل ، ومـن استغنى بعقله زل).
وفي هذا المقام يقول الشاعر بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ العُقيلي المتوفى سنة 168هـ:
إذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ ... بِرَأْيِ نَصِيحٍ أَوْ نَصِيحَةِ حَازِمِ
وَلَا تَجْعَلْ الشُّورَى عَلَيْك غَضَاضَةً ... فَإِنَّ الْخَوَافِيَ قُوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ
حيث شبّه الشورى بالطير الذي تتوازن حركة طيرانه ويحلق عاليا بتناسق حركة الخوافي والقوادم.
وللوقوف على حقيقة الشورى وأحكامها صدر حديثا (2019م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 44 صفحة كتيب "شريعة الشورى" للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، ضمّ 75 مسألة فقهية مع 28 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري مع مقدمة للناشر وأخرى للمعلّق تبعهما تمهيد بقلم الفقيه الكرباسي أزال اللثام عن حقيقة الشورى ودورها بين الأنام.
تمحيص الرأي
تمثل الشورى علامة فارقة على تواضع المرء وانسجامه مع الواقع، وهي علامة فارقة على رقي الحاكم والمحكوم، وما تقدم المرء إلا بالشورى وما تقدمت الأمم إلا بها، لأن الشورى كما يعرفها الفقيه الكرباسي هي: (عملية التشاور، هذا في اللغة، وأما في المصطلح الفقهي والحديث السياسي المتداول فهو طرح المسائل على المجلس لأخذ الآراء والنظريات ودراستها في قبال التفرد بالرأي، للوصول إلى رأي أو قرار متفق بشأنه أو مرضي من قبل أكثرية الأعضاء)، ولما كان المركوب مأمون العواقب فإن الراكب يصل مبتغاه، وقدر النجاح قائم على ثلاث أثافي ذلك أن: (تطبيق الفكر الشوروي بحاجة إلى قناعة الأطراف أولًا، وبناء أرضية مناسبة لها ثانيا، والتوصل إلى السبل الكفيلة لدى التوافق على تلك السبل ثالثا)، ولهذا فإن المرء أو المجتمع: (بالشورى يحسم الخلاف وتتبلور الأفكار ويقترب إلى الحقيقة والواقع في قبال الإستبداد بالرأي والتفرد به).
وعلى فرض أنَّ الشورى لم تأت بثمار طيبة، ولم يتحقق المرجو من القرار الشوروي، فإنَّ عدم تحقق النتيجة المطلوبة هو بحد ذاته نجاح في قبال النتائج السيئة الناشئة عن قرار منشؤه الإستبداد، وبتقدير الفقيه الكرباسي: (وأضعف نتائج الشورى مع فرض الفشل عدم الندم وعدم التلاوم فيما بين الشريحة الواحدة حيث إنَّ الجميع شاركوا في الرأي ولا تصيبهم التفرقة والتشتت لأن جميعهم قرروا المضي أو التوقف، وهذا بحد ذاته مهم في جميع مرافق الحياة)، وهذا ما يميز الحكومات المستبدة عن الحكومات القائمة على المجالس النيابية، فالأولى تضطر الى قمع الرأي الآخر والثانية يقبل فيها الرأي الآخر بما آلت إليه الأمور لأنه شريك فيها، فالرأي الآخر في الأولى عند حصول القمع يسعى إلى اجتثاث السلطة بشتى الطرق متدرعًا بالعنف، والرأي الآخر في الثاني يسعى إلى تقويم السلطة سالكا الطرق السليمة والسلمية، وفي الأولى تغيب سلطة القانون الرادعة لطغيان السلطة التنفيذية وفي الثانية تحضر سلطة القانون لردع من يشذ عن قاعدة الشورى.
وربما ادعى المرء مقدرته الكافية على اتخاذ القرار دون الرجوع إلى أصحاب الرأي السديد أو اكتفى الحاكم بعقله دون عقول مستشاريه أو المجالس الإستشارية، فإن هذه المقدرة تعبر عن غرور من جانب وتكبر من جانب آخر، وكلاهما تقودان صاحبها الى حافة الفشل ولو بعد حين، من هنا يؤكد الفقيه الكرباسي: (إن أصل المشورة مطلوبة حتى وإن كان القائد أعرف أهل زمانه بالأمر أو كان أعلم من غيره)، ويتساءل مستنكرًا: (ومَن أعلم من الرسول وآله عليهم أفضل الصلاة والسلام، ولكن توطين النفس على المشورة وتعليمها على ذلك هو مطلوب الشرع الشريف، وهذه الأخلاقية الحضارية توجه بوصلة الإنسان المؤمن نحو الخير والسعادة، وهي الضمانة الوحيدة لعدم الإنزلاق في الإستبداد والتفرد بالرأي وقبول الرأي الآخر الذي لا شك بأنه مهم في مسار الحياة سهلها وصعبها).
ويبقى أن العبرة ليس في إقامة المجلس الاستشاري قطريا كان أو محليا أو على مستوى الوزارات والدوائر العامة والوظيفية الأصغر فالأصغر، فالمجلس في حد ذاته قيمة حقيقية واعتبارية، ولكن العبرة في الأعضاء وأهليَّتهم كما يؤكد المعلق الشيخ حسن رضا الغديري: (فالشورى الحقيقية هي التي تتشكل من الأفراد الصالحين الواجدين للشرائط وكذلك المؤمنين العدول دون الفسّاق والجهلة والعملاء للأجانب والأغيار).
في كل مفصل مجلس
لا يعدو الذهن، إذا ما ذُكرت الشورى في محفل، عن المقصد الظاهر للعيان وهو مجلس الشورى او المجلس الوطني أو المجلس النيابي، أو مجلس النواب أو الجمعية الوطنية، فهذه المسميات وأمثالها تدار فيها عملية الشورى وتتخذ من على مقاعدها التشريعات لتكون خارطة طريق للسلطة التنفيذية، وفي العادة فإن البلد الذي يتبنى الشورى والديمقراطية تقوم فيها سلطتان تشريعيتان واحدة عامة على مستوى البلد وثانية محلية على مستوى المدينة أو القضاء أو الناحية، فالمجلس الوطني يرسم الخارطة العامة والمحلي يرسم الخارطة البلدية، ويفترض في المجلسين أنهما يسيران معًا لتحقيق البناء والإعمار والرفاه للأمة والبلد.
ولما كانت الشورى كما يرى الفقيه الكرباسي: (التشاور فيما بين طرفين أو أطراف متعددة بغرض التوصل إلى رأي أو قرار متفق عليه أو أكثر نصيبًا وحظًّا)، فإن المصلحة العامة وسلامة المجتمع تقتضي توسيع دوائر الشورى لتشمل كل مفصل من مفاصل الحياة وبخاصة ذات الشأن العام، وعليه يذهب الفقيه الكرباسي بعيدا في ضرورة تحقق مبدأ الشورى، من ذلك: (للمرجع –مرجع التقليد- أن يحدث مجلس الشورى الفقهي وآخر مجلس الشورى الإجتماعي لدراسة شؤون الناس والوصول بقرارات من شأنها تسهيل المهمة للفقيه للتوصل إلى الأحكام الإشتراعية)، ومن ذلك: (يجوز إحداث مجلس شورى الفقهاء والذي من صلاحيته إصدار الحكم في القضايا العامة بالتوافق على رأي موحد)، بل والرجحان قائم في المسألة كما يضيف: فـ (المجلس الفقهي هو الإستشارة في طريق الحكم أو أسلوب التطبيق وهو أمر لاشك في رجحانه حتى في غير الأمور العامة)، وقد يتجاوز الأمر الرجحان إلى الوجوب إذا كان في المجلس الشوروي تقوية شوكة الإسلام أو المسلمين.
ومن التواضع في تطبيق الشورى عند رجحان الصواب أنه: (إذا توصل النائب في مجلس الشورى أو الفقيه في مجلس الفقهاء إلى قناعة بالرأي الآخر، فلا يحق له شرعًا أن يتمسك برأيه)، بل ومن الحكمة والأخذ بنظر الإعتبار المصلحة العامة: (إذا لم يتوصل النائب والفقيه إلى قناعة بالرأي الآخر بل وجد رأيه مقدَّما على الآخر يحق له التنازل عن رأيه لأنه تنازل عما يعتقد بأفضليته ولكن لابد وأن يكون ضمن معايير)، ومن الحكمة والسلامة المجتمعية أنَّ: (مجلس الفقهاء إذا قرر بالتشاور على أمر أو حكم لا يجوز مخالفته من قبل مقلِّدي الفقهاء المشتركين في المجلس)، وبإزاء ذلك فإن: (تمسك الفقيه برأيه الفقهي لا يُعدُّ استبدادًا ولكن تمسّكه بقرار غير فقهي في الحكم دون السماح لرأي آخر هو استبداد)، وهذا الأمر يمتد بساطه إلى الحاكم والوزير والوالي والمدير العام والموظف حيث يفترض في كل واحد منهم في حدود مسؤؤلياته اتباع الضوابط، والعمل وفق السياقات القانونية والشرعية، حيث: (لا يُعدُّ استبدادًا شرط مراعاة المصلحة العامة).
ومن المصلحة في بناء البلد عبر الشورى انه: (لا يشترط في الشورى الجنس فيجوز أخذ آراء الذكور والإناث، كما لا تُشترط فيها العقيدة فيجوز أخذ آراء جميع مكونات الأمّة)، ومن المصلحة وهو ما يذهب إليه الفقيه الكرباسي ورغم اشتراطه البلوغ في الشورى والمشورة، أنه: (لا يجوز حرمان الطفل عن إبداء رأيه من خلال وليّه الناظر في مصالحه)، كما: (لا يحرم القُصَّر وأمثالهم من أخذ آرائهم عبر أوليائهم) وذلك بلحاظ إدراك: (مصالح العباد في سن القوانين، فالطفل سيكبر والمجنون بحاجة إلى الرعاية، والأولياء هم الذين يجب عليهم السَّهر على مصالحهم، فلا يمكن غضّ الطرف عن مصالحهم الآنية والمستقبلية)، وهذه الرؤية الفقهية إلى دور الطفل عبر وليه، هي محل نقاش وجدال فقهي، ولهذا فإن الفقيه الغديري في تعليقه على هذه المسائل لا يذهب إلى ما ذهب اليه الفقيه الكرباسي، وفي اعتقادي أن الصواب مع ما يراه الفقيه الكرباسي.
وفي طي "شريعة الشورى" مسائل فقهية كثيرة هي بمثابة مرآة لكل ناخب أو منتخب ولكل حاكم ومحكوم، ولكل مُستشار ومُستشير، حيث يأتي هذا الكتيب ضمن سلسلة من ألف عنوان يتناولها المحقق والفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي برؤية فقهية مستنيرة، صدر منها حتى اليوم تسعون كتيبًا.
وسوم: العدد 852