مقاومة الثورة المضادة
وصلت الأمور إلى ذروتها الكوميدية في كفر رمّان، في الجنوب اللبناني. ففي ليلة الهجوم على المعتصمين والمتظاهرين الذين هتفوا: «نبيه بري حرامي»، ردّ شبّيحة الثنائي الشيعي على الهتاف بهتاف ضد تشي غيفارا. احتار الشبيحة في أمر هذه الانتفاضة فاعتبروا أن تشي غيفارا قائدها، نتيجة وجود صوره في خيمة المعتصمين، فاتهموا الثائر الأرجنتيني-الكوبي بأنه حرامي!
الثورة المضادة التي لم تجد سوى هتاف «شيعة شيعة»، وهي تحرق الخيام وتضرب المعتصمين وصلت إلى حضيضها السياسي عبر هتاف مضحك يشير إلى الخواء السياسي الذي تعيشه الطبقة الحاكمة اللبنانية.
طبقة أعلنت إفلاسها، فلجأت إلى حيلتها الأخيرة عبر مسرحية تكليف «البروفيسور» حسّان دياب تشكيل الحكومة.
الخطة تدرّجت من اتهام الانتفاضة بالعمالة للسفارات، إلى رفع الشعار الطائفي، وصولاً إلى لعبة الميثاقية التي لم تكن سوى ذريعة سمحت للطبقة الحاكمة باستعادة أنفاسها، وانتهاء بالبروفيسور حسّان دياب.
هكذا وصلت لعبة الذئاب إلى ذروتها حين أخرجت المافيا سلاحها الحقيقي، فالسلاح الطائفي المذهبي هو الجدار الأخير الذي يستند إليه نظام يتهافت.
والسلاح الطائفي مخيف، أو هكذا يعتقدون. الناس لا يريدون الحرب الأهلية، ومشاهد التشبيح الطائفي تذكّرهم بالحرب، وبالتالي فإن هذا السلاح هو الوسيلة الوحيدة لوأد الانتفاضة.
بعد شهرين من الاستفزازات والاعتداءت المنظمة والمبرمجة، سمحت مسرحية بروفيسور الجامعة الأمريكية المكلّف بتشكيل حكومة التحالف الثلاثي: حزب الله- أمل- التيار العوني، بأن يرتفع هتاف «سنّة سنّة» في الطريق الجديدة. وأوحت مفرقعات المعتصمين، التي تصادت مع مفرقعات الخندق الغميق والضاحية، بأن الصراع عاد إلى نصابه الطائفي التقليدي، الذي سيقود إلى تسوية تقليدية في نهاية المطاف.
اللعبة الطائفية المذهبية تستند إلى بنى اجتماعية وفكرية لبنانية شكّلت أساس النظام اللبناني منذ تأسيس المتصرفية ودولة لبنان الكبير، كما أنها تستند إلى واقع مأساوي تعيشه المنطقة العربية في ظل الصراع الوحشي السني- الشيعي الذي أضاع الاتجاهات، وجعل المنطقة حطاماً.
لا يكفي القول بأن انتفاضة 17 تشرين-أكتوبر تجاوزت الانتماءات الطائفية على مستوى الشارع الثائر، فإذا لم يجر إسقاط بنية النظام الطائفي، فإن آلة السلطة قادرة على استعادة أنفاسها، وإعادتنا إلى نظام الحرب الأهلية الدائمة.
غير أن ما فات الطبقة الحاكمة هو أن مشكلتها ليست مع الانتفاضة فقط، مشكلة الطبقة الحاكمة بكل أجنحتها هي مع نفسها، أي مع فشلها وإعلان عجزها عن إيجاد حل للكارثة الاقتصادية- الاجتماعية التي أوقعت لبنان فيها.
ففي الوقت الذي سمعنا فيه الهتاف الطائفي وضُربنا بالعصي التشبيحية، كانت المصارف تعلن نهاية النظام.
المسألة ليست نحن، الانتفاضة بدأت كردة فعل على الانهيار.
لا وجود لآباء لهذه الانتفاضة، كلنا أبناؤها، ووعينا السياسي الجديد يولد فيها.
المسألة أنتم، فالطغمة الحاكمة أفلست سياسياً بعدما قامت بإفلاس لبنان اقتصادياً.
السؤال هو ماذا ستفعلون؟
كيف ستنقذ العصابة ضحاياها منها ولو بشكل جزئي، كي تستطيع الاستمرار في نهبهم؟
المافيا الحاكمة لا تملك على هذا السؤال الجديد سوى أجوبتها القديمة التي فقدت صلاحيتها. سلاحها الوحيد الذي تعرف استخدامه هو التهديد بالحرب الأهلية. وهو سلاح شاخ وتعفّن. حتى سلاح مواجهة العدو الإسرائيلي أو الحرب على الإرهاب الداعشي لم يعد نافعاً.
المسألة واضحة: الناس تُطرد من العمل، الليرة تفقد قيمتها الشرائية، المصارف نهبت أموال المودعين، والمجاعة على الأبواب.
هل نرد على الجوع بالهتاف الطائفي؟
هل نستعيد كرامتنا الإنسانية بإقفال المناطق بالمفرقعات.
هل نأكل هواء التلوّث المذهبي بدل الخبز؟
الطائفية اليوم صارت مفرقعات تحاول أن تحجب بأصواتها المرتفعة الواقع الكارثي الذي لن يستطيع الناس تحمله.
والسؤال هو كيف سيتبلور الاحتجاج على الكارثة المقبلة؟
هل ستنجح الطبقة الحاكمة في تحويل الألم والفقر إلى تفكك اجتماعي مخيف، بحيث تصير الطائفية قناعاً لعصابات النهب والسلب ويجري إدخال لبنان في دوّامة القمع العاري؟
أم ستبلور الانتفاضة رداً جماعياً طبقياً يصنع من المقاومة والنضال لحمة اجتماعية جديدة، ويجبر النظام على التراجع، ويقفل دكانة عصابة أصحاب المصارف ومنتفعات المافيا السياسية الحاكمة؟
حتى الآن عشنا الانتفاضة كأبناء، وكانت الاعتصامات والمسيرات علاجاً للشفاء من الخوف ووسيلتنا لتحطيم مقدسات البنى الطائفية وأحزابها.
لكننا اليوم أمام التحدي الكبير.
فخلال شهرين طويلين تعلّمنا الكثير، واكتشف الأبناء أن عليهم أن يكبروا بسرعة، فهم يواجهون حملاً ثقيلاً.
المسألة اليوم هي كيف نؤسس وطناً؟ أي كيف نستبدل ميثاقية الطوائف بعقد اجتماعي جديد، والاقتصاد الريعي غير المنتج باقتصاد منتج، والاستغلال والسلب بعدالة اجتماعية، ولبنان الساحة التي هي أسيرة الطوائف والصراعات بين محاور الاستبداد الإقليمية بلبنان الوطن.
هذا التحدي يحتاج إلى بلورة رؤية شعبية سياسية فكرية تأخذ على عاتقها مسؤولية قيادة هذه المرحلة الطويلة من النضال.
وهذا يعني مسألتين:
استمرار الانتفاضة في الشارع ورفض مسرحية تكليف دياب وحكومة تكنوقراط باسيل وحزب الله وبرّي وبقايا المخابرات السورية، واستمرار التحركات الشعبية أمام مراكز السلطة.
وتقديم رؤية سياسية اقتصادية للخروج من الأزمة، تشكل أساس بناء ائتلاف ثوري يقدّم برنامجاً متكاملاً لإسقاط سلطة الطغمة الأوليغارشية وأمراء المافيا.
الخيار هو بين التفكك الاجتماعي الذي تقوده الثورة المضادة وبين الثورة.
وسنختار الثورة.
وسوم: العدد 856