الشيخ العيسى والستون مصليا في أوشفيتس
زار «مسؤولون مسلمون» يوم الخميس (23/1/2020) بقيادة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي وزير العدل السعودي الأسبق محمد بن عبد الكريم العيسى، معسكر أوشفيتس في بولندا، تضامنا مع ضحايا الهولوكوست، بمناسبة الذكرى الـ75 لتحرير هذا المعسكر النازي، على أيدي الجيش السوفييتي الأحمر. وأمّ الشيخ جمعاً من المصلين قرب النصب التذكاري لضحايا المحرقة. وقال إن الزيارة التي شارك فيها قرابة 60 مسؤولا دينيا ونقابيا من جميع أنحاء العالم هي «واجب مقدس وشرف عظيم».
وعلق ديفيد هاريس المسؤول في «اللجنة اليهودية الأمريكية» (إيه جي سي)، التي نظمت الزيارة، ومقرها نيويورك، بالقول إن هذا أول وفد إسلامي «يضم هذا العدد من المسؤولين رفيعي المستوى، يزور أوشفيتس، أو أي معسكر موت نازي آخر» على الإطلاق.
كان هذا الخبر يمكن أن يمرّ مرور الكرام في أزمان مختلفة، وكان يمكن أن يمرّ لو كانت أهدافه إنسانية بحتة، فمن منا لا يتعاطف مع ضحايا الظلم والاضطهاد؟
فالقضية ليست الصلاة على ضحايا الهولوكوست، فهذه قضية إنسانية بحتة ولا يعترض عليها أي انسان إن كانت كذلك. وكان يمكن أن تمرّ مرور الكرام، لو اقتصرت أغراضها على الجانب الإنساني. لكن المؤكد أن هذه الزيارة ليست ذات أبعاد إنسانية وتعاطفية مع ضحايا المحرقة على الإطلاق، فقد مرّ عليها أكثر من 75 عاما، بل هي سياسية بامتياز، ولعب على المكشوف تقوم بها شخصية دينية وسياسية سعودية سابقة، ومن لف لفها على رأس مجموعة من المطبعين. ولو كانت هذه الخطوة شخصية لقلنا إن من حق الشيخ العيسى أن يفعل ما يشاء، ويصلي على من يشاء، لكن الشيخ عيسى لا يمثل شخصه ولا بلده فحسب، بل رابطة العالم الإسلامي، باعتباره أمينها العام. وبالتأكيد فإن الدول الأعضاء في هذه الرابطة، أو لنقل من باب الدقة فقط، البعض منها ما كانت لتقبل بمثل هذه الخطوة لو سُئلت، ليس من الناحية الإنسانية، بل من الناحية السياسية التطبيعية.
ثم إننا لم نر الشيخ العيسى ووزير العدل السعودي الأسبق، يلم جمعا من المصلين ليؤدي الصلاة على أرواح شهداء هذه الأمة، ولم يتبرع للصلاة على أرواح شهداء العرب الذين يسقطون يوميا، ضحايا الظلم في بلدانهم بمن فيهم السعوديون، وأرواح الفلسطينيين الذين يسقطون أيضا يوميا برصاص قوات دولة الاحتلال، وكما يقول المثل فالأقربون أولى بالمعروف. ولم نر الشيخ العيسى يقود جمعا من الشخصيات «الاعتبارية» ليؤم صلاة الجمعة مع جموع المشاركين في مسيرات العودة على حدود غزة الشرقية المخضبة بدماء الشهداء والجرحى.
وقد نلتمس عذرا للشيخ العيسى في موضوع غزة، فالصلاة هناك محفوفة بالمخاطر، وربما يختلف مع حركتي حماس والجهاد سياسيا، لعلاقتيهما مع إيران «العدو اللدود للنظام السعودي» من وجهة نظره، لكن لا عذر له لعدم إبداء التعاطف مع القدس، التي تتعرض يوميا لمخاطر التهويد، وكذلك المخاطر التي يتعرض لها المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، بقيادة المصلين فيه في أيام جمع الغضب، إلا إذا توصل إلى قناعة كغيره من رجال الدين والأكاديميين السعوديين و»الروائي» المصري يوسف زيدان، الذين لا يرون في الأقصى مسرى الرسول، كما يقول القرآن، بل مسجدا عاديا كغيره من المساجد.
الشيء المؤكد أن أهداف زيارة العيسى والحشد الذي رافقه، ليست إنسانية، بأي شكل من الأشكال، بل سياسية تطبيعية بامتياز. والشيء المؤكد الآخر أن بوصلة الشيخ العيسى والستين مصليا، انحرفت فضلوا الطريق. نحن مع التسامح وإبعاد الدين عن السياسة ولكنهم يفعلون عكس ذلك، فليس هكذا يتم التسامح والتعايش بل بالعدل وإحقاق الحق. ولكن إذا انحرفت بوصلة الشيخ العيسى و»الستين مصليا» إرضاء لأسياده في الرياض والبيت الأبيض، فهناك من لم تنحرف بوصلاتهم بعد، ولا تزال فلسطين وجهتهم. وإذا كان العيسى قاد المصلين نحو الشمال، فهناك من قاد مجموعة من الحقوقيين نحو الجنوب، إلى قطاع غزة تضامنا وتعاطفا مع أهله لرفع الحصار والظلم عنهم، ووقف القتل المتعمد والمجازر التي ترتكب ضدهم. يفعلون ذلك وهم على علم بالمخاطر التي يعرضون أنفسهم لها ومنها، الاعتقال، وربما يعرضون أنفسهم لفقدان مناصبهم، والأخطر تعريض أنفسهم للاتهام بمعاداة السامية، وفقا للتعريفات الجديدة لمعاداة السامية. هذه التهمة التي ساعدت إلى جانب أسباب عديدة أخرى على الإطاحة بزعيم حزب العمال البريطاني جيريمي كوربين، بعد الخسارة الكبيرة التي مني فيها في الانتخابات البريطانية العامة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، عقب حملة مركزة شارك فيها العديد من الأطراف، بقيادة السفارة الإسرائيلية في لندن، وكل الأطراف الصهيونية في بريطانيا، حتى كبير الحاخامات الذي خرج عن المألوف ونشر مقالا في إحدى الصحف، يتهم فيها حزب العمال تحت قيادة كوربين بتفشي معاداة السامية فيه، من دون أن تكون هناك سياسة داخلية فعالة وحاسمة لمواجهتها والقضاء عليها. وشارك في الحملة، اليمين بشكل عام، وفي حزب العمال بشكل خاص، وطبعا وسائل الإعلام البريطانية تقودها «بي بي سي» التي عملت على شيطنة كوربين ومؤيديه، هذا لا يعني أننا مع معاداة السامية، بل ندينها بأشد العبارات، كما ندين كل أشكال التمييز العنصري في بريطانيا وغيرها، بما فيها الإسلامفوبيا والاستقواء على الضعفاء وسلب حقوق الآخرين، كما تفعل إسرائيل بالفلسطينيين.
ورغم كل هذه المخاطر اختارت النائبة الفنلندية أنا كونتولا، ترافقها مجموعة من أربعة مؤيدين لحقوق الإنسان، التوجه إلى حدود غزة الشرقية غير مبالين، لتسليط الأضواء على المآسي والظلم والحصار المفروض منذ نحو 13 عاما، هم لا يبالون لا لشيء وليس كرها بإسرائيل، بل لقناعات ومعتقدات ترفض رؤية الظلم والسكوت عليه. ويرون في ما تعرض ويتعرض له الشعب الفلسطيني، من اقتلاع من أراضيهم وتشريدهم وحرمانهم من العيش بسلام، وحرمانهم من حقوقهم الإنسانية والسياسية، وتقرير المصير فوق أرضهم، أم الظلمات، ظلمات لا يمكن السكوت عليها أو القبول بها، ظلمات تقوم بها دولة تتصرف كدولة فوق القانون، وتمارس آخر الاحتلالات في العالم تحت سمع وبصر دول العالم «الحر»، من دون أن تحرك ساكنا عدا بعض التصريحات الجوفاء. وبعض هذه الدول لا يكتفي بالصمت، بل يجاهر ويتفاخر بدعمه الاحتلال والشد على أيادي القائمين عليه، وفي مقدمة هذه الدول قائدة «العالم الحر» الولايات المتحدة، وبدافع المال والتعصب الديني، تؤيد الاحتلال وتدعم الاستيطان وتعتبره شرعيا لا يتناقض مع القانون الدولي.
وهؤلاء وفي محاولات لتسليط الأضواء على هذه المآسي التي يعيشها الشعب الفلسطيني، والظلم القائم عليه، والحصار المفروض على القطاع منذ نحو 13 عاما، والأزمات الإنسانية التي يعيشها أهالي القطاع، والمجازر التي ترتكب بحقهم، يعرضون أنفسهم للمخاطر وربما الموت، وهذا ليس كلاما مبالغا فيه، فقبل أيام أقدم جنود الاحتلال على إعدام ثلاثة صبية، زعموا أنهم كانو يحاولون اجتياز الأسلاك الشائكة بين حدود قطاع غزة الشرقية ودولة الاحتلال.
صحيح أن النائبة أنا كونتولا وفرقتها خرجوا من هذه المحاولة معافين، لكنهم عرضوا أنفسهم للاعتقال، بينما كانوا يحاولون قص الأسلاك الشائكة التي تفصل حدود غزة الشرقية عن إسرائيل. وأُخضعت النائبة مع رفاقها، وهم مجموعة تطلق على نفسها «مجموعة غزة 2020 لكسر الحصار»، لتحقيقات أمنية استمرت نحو عشر ساعات، حاولت سلطات الاحتلال خلالها، إرغامهم على توقيع وثيقة يعترفون فيها باتهامات ضدهم، بما فيها تشكيل خطر على الأمن العام. ورفضوا جميعهم التوقيع.
ولم يكن اختراق الحدود هدفها الأساس، فهي تدرك جيدا أن عيون جنود وفوهات بنادقهم موجهة نحوهم، فهناك غرض آخر لمهمة كونتولا، وهو محاولة لفت الانتباه إلى تجارة السلاح بين فنلندا وإسرائيل. وتدعو إلى وقف شراء السلاح من شركات إسرائيلية، ووقف دعم انتهاكات حقوق الإنسان في غزة، والحواجز في الضفة الغربية.
وأختتم بالقول إن دولة الاحتلال، وبالتنسيق مع إدارة ترامب الصهيونية، وفي سياق جهودها التي لا تنضب في البحث عن سبل لتحقيق الاختراق المطلوب مع بعض الدول الخليجية، وتحقيق التطبيع الكامل معها تحت عناوين مختلفة، تفاجئنا بالحديث عن قرب توقيع اتفاق (عدم اقتتال) مع دول خليجية! أليس شر البلية ما يضحك؟ وفهمكم كفاية.
وسوم: العدد 861