لن يحصد السودان من التطبيع مع إسرائيل إلا الخسران بقلم
ظاهرة لا شبيه لها في التاريخ هذه التي تعيشها أكثرية الدول العربية الاثنتين والعشرين : إذا أرادت دولة الاستقرار والازدهار فعليها أن تنال ود أميركا ورضاها بالتقرب من إسرائيل وتطبيع علاقاتها معها . لم يعرف التاريخ مثل هذه الظاهرة . أحدث دولة عربية بدأت السير على الدرب إلى ود أميركا ورضاها عبر إسرائيل هي السودان بلد اللاءات العربية الثلاث الحازمة في أغسطس 1967 عقب العدوان الإسرائيلي في يونيو من نفس العام على مصر وسوريا والضفة وغزة ، وهي : " لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات " . الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي اجتمع الأحد الماضي في عنتيبي العاصمة الأوغندية مع نتنياهو رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال الإسرائيلية . وبرر البرهان الاجتماع بأنه ل " صيانة الأمن الوطني ، وتحقيق المصالح العليا للشعب السوداني " . وانقسم السودانيون بين أكثرية ساخطة معارضة للاجتماع وأقلية مرحبة مؤيدة ، وأهمها الجيش الذي لا حق دستوريا له في التأييد ، فهو لا يصنع السياسة ، لكننا في دولة عربية . وأصلا البرهان لا يملك صلاحية القيام بهذه الخطوة الكبيرة في السياسة الخارجية لكون إدارته انتقالية ، لكننا ، مرة ثانية ، في دولة عربية .
وحفز البرهانَ على هذه الخطوة في أسوأ توقيت بعد الإعلان عن صفقة القرن الوهمُ الذي زرعته إسرائيل في عقول وقلوب أكثرية الدول العربية ، وحكامها تحديدا ، بأن من أراد البقاء في سلطته ، والاستقرار والازدهار في دولته فليكسب ود أميركا ورضاها ، وطريقه إلى هذا الكسب هو التقرب منها والتطبيع معها ، أي إسرائيل . وقرأنا أن النظام السعودي والنظام الإماراتي أخفقا في إقناع أميركا برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب التي حشر فيها اسمه ظلما ، وأن هذه الجائزة النفيسة أبقيت لإسرائيل لتبتز السودان بها ، فكان لقاء البرهان ونتنياهو . وفي سياق التبشير بالفرج الوشيك للسودان بعد التقرب من إسرائيل قال مكتب نتنياهو : " إن البرهان يحاول المساعدة على تحديث بلاده بإخراجها من عزلتها وإعادتها إلى الخريطة الدولية " تضليلا بأن هذه المكاسب ستأتي بها العلاقة مع إسرائيل . وسار في المسار ذاته ، وبوضوح أقوى وثقة أمتن ، مبارك الفاضل المهدي رئيس " حزب الأمة " حين قال مسرورا إن خطوة البرهان التي نعتها بالشجاعة تخدم المصالح السودانية في رفع العقوبات الأميركية ، وفي إعفاء ديون السودان من باريس ، وفي الإفادة من تقنية الزراعة في إسرائيل . دائرة واسعة مشرقة من الأوهام والأحلام تغرسها إسرائيل وأميركا في عقول وقلوب المطبعين العرب . ونحب أن نلتفت قليلا إلى إجرام إسرائيل في حق السودان . كانت أكبر من عمل على فصل جنوبه عن شماله ، وطوال الحرب بين الجنوب والشمال ، كانت المسلح والمدرب والمزود بالمعلومات الاستخبارية للجنوب حتى وقع الانفصال في 2011 ، وما فتئت تثبت هذا الانفصال ، وتدبر ما هو أسوأ منه للشمال العربي المسلم . وعقدت في ثمانينات القرن الماضي صفقة سرية مع الرئيس جعفر النميري الذي نشرت له بعد اجتماع البرهان ونتنياهو صورة مع شارون التقطت في مايو 1985 ؛ لنقل يهود الفلاشا من أثيوبيا عبر السودان ، ووعدته في الصفقة ب 50 مليون دولار ، وحين أراد صرف شيك المبلغ لم يجد له رصيدا ، وابتلع الخديعة المرة . وهي الآن مع أميركا في الطريق إلى خديعة جديدة كبرى أين منها خديعة ال50 مليونا . ويصنع السودان لنفسه خيرا جما بالتراجع عن السير في طريق التقرب من إسرائيل والتطبيع معها ، ولينظر إلى حال من سبقوه على هذا الطريق المشئوم من مصريين وفلسطينيين وأردنيين ! وأول مصائب التقرب والتطبيع داخلية . أكثرية الشعب السوداني ، وهو من أكثر الشعوب العربية وعيا سياسيا ، ترفض هذا التقرب والتطبيع ، وستتلاحق المصائب زُمَراً باتساعه وتطوره . نقول هذا وفي وعينا أن السودان ما كان ليسير في هذا الطريق لولا الانهيار العربي الشامل ، وغياب جبهة أمن عربي موحدة متماسكة تقبل ما فيه مصلحة كل العرب ، وترفض ما فيه مضرة كل العرب ، وتتحمل تبعات القبول والرفض بأمانة ومسئولية جماعية . الانهيار وغياب الجبهة جعل كل دولة تقول : " نفسي !نفسي ! " ، والأسوأ أنه جعلها تتآمر على غيرها من الأنفس الشقيقة ظنا بأن في التآمر حماية لتلك النفس الأنانية الفزعة .
وسوم: العدد 863