رسالة مفتوحة إلى السادة خطباء الجمعة
يا معشر الخطباء لستم كأحد من الخطباء إن اتقيتم ، فلا ترضوا بالدنية، فيطمع فيكم من هوايته المفضلة عزلكم لأتفه الأسباب . ألا وإن تقواكم وفاء بعهد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تقولوا إلا الحق .وإن الواحد منكم ليخطب بما يرضي الوزارة الوصية دهرا طويلا حتى إذا لم يبق بينه وبين النجاة من غضبها ونقمتها وعزله إلا قدر أنملة ، فيخطب بما يثير حفيظتها فتعزله عزلا غير جميل . وإن أحدكم ليفتح له حساب كما تفتح الحسابات البنكية إلا أنه حساب إحصاء العثرات في نظر الوزارة وهو في غفلة عن ذلك حتى إذا بلغ حسابه النصاب من تلك العثرات وإن لم تكن كذلك حقيقة كانت زكاتها العزل.
وإنكم على علم بحكاية الثيران الثلاثة أبيضهم وأدهمهم وأسودهم، وقد كان قسورة يتربص بهم ليفتك بهم الواحد تلو الآخر فلم يفلح في ذلك حتى جعل أبيضهم معيبا عندهم، فتخلى أدهمهم وأسودهم عنه فوقع فريسة سهلة فتك بها ، ثم ما لبث أن فعل بأسودهم ما فعل بأدهمهم، فأكل هو الآخر ثم صار الأدهم فريسة أيضا وقال قول النادم المتحسر : "ألا إني أكلت يوم أكل أبيضنا ".
ومع علمكم بهذه الحكاية وأنتم أهل علم وفهم وبعد نظر إلا أنكم لم تستوعبوا درسها ومغزاها وعبرتها ،فكان موقفكم كلما تم عزل أحدكم تحسر بعضكم وشماتة البعض الآخر ، وكان حالكم كحال قطيع البقر الوحشي حين تنفرد السباع ببعضه وباقي القطيع يتابع افتراسه قضما للعشب أو اجترارا لا يبالي ، ولا يدري أن الدائرة تدور والسباع لا شبع لها ، ومخمصتها لا حد لها . وإن من تلك القطعان كما نقلت لنا ذلك عدسات الإعلام من يجسر بعض ثيرانها ، فيبعث ذلك الحمية في القطيع، فتتصدى للسباع التي تروم شق صفها للنيل من بعضها . وإن مشهدها ذلك لممّا قال فيه الله عز وجل : (( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم )) إلا أنكم لم تروا ما أراد الله عز وجل أن يريكم في هذه الآية ، فغفلتم عن إخوانكم في الخطابة وهم يعزلون كأنهم مذنبون .
ولا شك أن من عزل منكم وأنا واحد منهم ـ وأرجو أن أكون آخركم ـ كما قال ابن جبير رحمة الله عليه حين هم الحجاج بقتله :" اللهم لا تجعله يقتل أحدا بعدي " إنما كان عزله يوم عزل أوّلنا ، وكان أسوأ عزل لحقنا هو عزل العلماء منا ممن رسخت أقدامهم في العلم ، ولم يشق لهم غبار فيه ، وهو عزاء لمن هو مثلي لأن حظي من العلم ضئيل ، ولو كانت المنابر لا يعلوها إلا العلماء لما سمحت لنفسي باعتلائها .
وإني لأرى قول الشاعر :
ينطبق على من عزل منا لحد الساعة ، ذلك أن آخرهم و هو أنا ـ وأرجو مرة أخرى أن أكون الأخير ـ قد أعد لنا عزل جائر فسقي آخرنا بكأس أولنا .
يا معشر الخطباء إذا كان لمن لا مير لهم إلا ما يتقاضونه على الخطابة عذرهم في السكوت عن عزل من يعزل من الخطباء خوفا من نقمة الوزارة وضياع الرزق ، فإنه لا عذر لمن أغناهم الله عز وجل من فضله عن ثمن بخس دراهم معدودات ،لأنه من المفروض أن يغضبوا لعزل من عزل وقد استغضبوا .
وأرجو ألا يحمل كلامي هذا على أنه تحريض إنما هو استنهاض لهمم أهل الهمم.
هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين آمين ، والحمد لله الذي لا يحمد على العزل من منبر الجمعة سواه ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 865