داء المسلمين ودواؤهم
الإسلام الحنيف ليس عقيدة فحسب، ولا هو مجموعة من العبادات والطقوس الدينية فقط ولكنه نظام شامل للحياة ينظم العقائد والعبادات ومبادئ الأخلاق وقوانين المعاملات وسلوك الفرد والجماعة. وكل هذه الفروع متلاحمة يتصل بعضها ببعض اتصالاً وثيقة حتى تكون كلاً متماسكاً لا يتجزأ.
والإسلام من هذه الناحية يشبه الجسم البشري إلى حد كبير. فالجسم يتكون من أعضاء تؤدي وظائفها في تعاون وانسجام، وأنت إذا بترت أطراف الإنسان وقطعت لسانه وسملت عينيه وصلمت أذنيه ثم بقرت بطنه وأخرجت كبده ورئتيه وطحاله وحطمت جمجمته وقطعت مخه إلى أجزاء وأبقيت بعد هذا على القلب دون أن تمسه بسوء فهل يمكنك الزعم حينئذٍ بأن هذا المخلوق المشوه إنسان حي؟ فإذا افترضنا بعد كل هذا التمثيل البشع أنه ينبض بالحياة فهل يمكنك الجزم بأنه صالح للبقاء؟
هكذا الحال مع الإسلام الحنيف فالعقائد قلبه النابض والصورة التي يرسمها للحياة البشرية والقيم التي يقررها للأشياء تقوم منه مقام «العقل» من الجسم، والقوانين التي وضعها تنظيم المجتمع والاقتصاد والسياسة هي بمكانة الكبد والطحال والمعدة وسائر الأعضاء الحيوية من جسم الإنسان ثم هو يحتاج إلى أن تكون حاسة السمع والبصر لديه سليمة حادة بحيث يمكنها أن تنقل بأمانة صورة صحيحة لما تراه وتسمعه كما يصدر النقل عليها حكماً صحيحاً صائباً، وإلى لسان صادق أمين يترجم عن الأفكار التي يزدحم بها العقل وجو نظيف يتنفس فيه وغذاء صحي كامل يمده بأسباب الحياة والبقاء.
ومما لا مشاحة فيه أن أهمية (العقيدة) ومقامها في الإسلام مقام (القلب) كما سبق أن بينّا جاءت من حيث أنها تمد الأعضاء والأطراف بنسبة الحياة فإذا بترت هذه الأعضاء أو عطلت عن أداء وظيفتها فكيف يمكن أن يتاح للقلب أن يظل حياً وعلى فرض أنه يقاوم الموت إلى حين فما تكون قيمة الحياة بالنسبة إليه وما قيمته بالنسبة لها؟
ولنبدأ الآن بتحليل حالة الإسلام في القارة الهندية على ضوء الحقائق. إن الشريعة الإسلامية والقوانين المنبثقة عنها معطلة، والقواعد التي أرساها الإسلام للأخلاق والسلوك وتنظيم المجتمعات البشرية لا يقوم منها إلا جزء ضئيل فإنه ليس له في حياة الناس أثر، ومناهج الثقافة والتربية تصوغ أجيالنا في قوالب لا إسلامية بحيث تنشأ هذه الأجيال مبتورة الصلة بدينها بصورة جزئية أو كلية إن العيون ما زالت تبصر ولكن من زاوية لا يرضى عنها الإسلام، والآذان ما زالت تسمع لكنها تعكس الصوت بصورة تتنافى مع الإسلام، والرئتان لم تعودا تستنشقان هواءً نقياً لأن الجو المحيط بها قد تسمم، والجسم لم يعد يتناول غذاءً نقياً طاهراً بعد أن تطرق إلى طعامه سوس الفساد وجراثيم التعفن، والصلوات التي هي في مقام الأطراف مصابة بالشلل بعد أن فقدت صلتها بأركان الإسلام الأخرى، فهل يمكن الزعم بعد هذا بأن الصورة التي نراها اليوم هي صورة للإسلام الصحيح؟ لقد بتر من أوصاله الكثير، وما بقي منها أصيب بالشلل والعجز، وحتى التي ما زالت تدب فيها الحياة بطيئة فاترة قد عطلت عن وظيفتها بسبب ما لحق أخواتها من سكون وهمود.
حتى القلب الذي كان يدفع الحياة دافقة في شرايين هذا الكيان العملاق لتعود إليه بالتالي قوة وعافية أصابته هو الآخر عدوى الداء، ولا ريب في ذلك فعندما يضطرب العقل وتبتر الأطراف ويستقر الكبد والطحال والمعدة والرئتان في غير مواضعها الطبيعية، فكيف ينتظر من القلب أن يظل صحيحاً معافى - إن قوة القلب وصلابته العجيبة هي التي جعلته يقاوم حتى الآن عوامل الموت والاضمحلال ليس ذلك فحسب بل أتاحت له أن يسير قدماً وراءه هذه الأشلاء الممزقة والأعضاء المبتورة عبر القرون: هل يمكن مثل هذا الإسلام المشوه أن يجتذب أحداً إليه وهل لديه من القوة ما يجعله قادراً على فرض نفسه على الحياة في الهند هل يستطيع هذا الإسلام وحاله كما بينت أن ينقذ بقية أعضائه من غواشي الموت أو أن ينقذ نفسه من الزوال وطوفان الكوارث ينتابه من كل جانب؟
وهكذا فإن النتيجة المتوقعة سوف لا تحقق أمر الله تعالى (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً) ذلك بأن آفة التمرد وشق عصا الطاعة على الإسلام والتنكر له آخذة في التعاظم والازدياد وهي على وشك أن تجتاح المسلمين أنفسهم، ولا يوجد مكان في الهند أو الأقطار المجاورة لها يعمل فيه النظام الإسلامي بحيث يتاح للناس أن يشهدوا آثاره العظيمة ونتائجه الباهرة وأن يعترفوا بقيمته وبالفوائد التي تنجم عن تطبيقه إن الذي يرونه إن هو إلا صورة مشوهة للإسلام العظيم أخذت مكان الصورة الحقيقية الرائعة.
وبينما يذهب قوم في الطعن في الإسلام صراحة وعلانية يمنع الجبن آخرين في إعلان عصيانهم باللسان ولكنهم يطعنونه بأفعالهم أشد وأقسى وهناك فريق ثالث قد انحرفت قلوبهم عن الإسلام ولكن لما كانت الثورة عليه لم تتفش إلى الحد الذي يشجعهم على إعلان هذا الانحراف على الناس دونما خوف من النتيجة فقد حرصوا على المحافظة على نسبتهم إليه ولكن الغدر المبيت هنالك في قلوبهم، يبذرون بذور التمرد على الشريعة بين سائر الطبقات حتى إذا آتت ثورتهم المزعومة أكلها وكثر جندها أسقطوا القناع عن وجوههم ورفعوا أعلامهم البغيضة. وهناك فئة أخرى ليست من الجسارة بحيث تعلن إنكارها وجحودها ولكنها تهمس في آذان كل من تلقاه بأن يستعد للاندماج في (قومية جديدة وحضارة حديثة آخذتين في الظهور والاستعداد لذلك اليوم، لأن المسلمين قد بلغوا درجة في الجمود والانحطاط تجعلهم لا هم يفيدون الغير ولا يسمحون لهم بالاستفادة من الثمرات التي تقدمها حضارات الأمم الاخرى وثقافاتها ثم هناك فئة ترى أن الحل السليم للمشكلة هو في تجميد هذا الإسلام وحصر سلطانه في محيط العبادات والعقائد ثم بتطبيق نظم الحياة والإدارة التي طبقها غير المسلمين.
وأنا لا أعلم إذا كان هؤلاء يعتقدون حقيقة بصواب أفكارهم ونظرياتهم أم أنهم يعرفون الحقيقة ولكنهم يخدعون أنفسهم ويخدعون الناس ولكن شيئاً هاماً قد غاب عن أبصارهم على كل حال هو أن المسلمين إذا عاشوا في ظل نظام لا يقوم على أساس الإسلام الحنيف فإن معتقداتهم ستتعرض حتماً لعوامل الفساد والضلال فلا الإيمان يستطيع أن يعيش طويلاً في مثل هذه الظروف المعادية له ولا العبادات، نستطيع أن تحتفظ بجاذبيتها وسحرها ناهيك عن أن محيطاً كهذا أمين بألا يسمح بتطور النزعة الإسلامية تطوراً يؤدي في النهاية إلى إقامة بنيان الحياة وكيان المجتمع على أساسها ولنأخذ طفلاً ولد ونشأ في ظل هذا النظام الذي يقترحونه فإنه سائل نفسه لا محالة ما لهذه المعتقدات التي لا فائدة منها والطقوس التي لا معنى لها موصولة بحياتي؟ ولماذا يجب على أن أدرس القرآن وأؤمن به بعد أن انقطعت صلته بواقع الحياة وفقد تأثيره فيها؟ لماذا يجب عليّ أن أؤمن برجل عاش منذ أربعة عشر قرناً على أنه رسول من عند الله! وإذا لم يستطع هذا الرجل أن يحقق لي نفعاً في هذه الحياة الدنيا فما هو الخير الذي أصيبه إذا آمنت به کرسول وما هو الضرر الذي يقع عليّ إذا لم أفعل؟
وما دمت أعيش سعيداً في ظل هذا العالم (الرائع) فأي فرق بين أن أصلي وأصوم وبين أن أنزع عن نفسي هذه الأغلال، ثم كيف تستقيم هذه الأفعال مع حياة المدنية ولماذا تستمر هذه النغمة النشاز في إفساد لحن الحياة التي أحياها، تلك هي النتيجة الطبيعية لعزل الدين عن الحياة وهي نتيجة منطقية مع الأسباب التي مهدت لها إذا ما أصبح العزل تاماً من الناحية النظرية والعملية..
وهكذا فكما أن القلب يصبح فاقد القيمة إذا ما فصل عن الجسد فإن العقيدة وسائر العبادات تفقد أثرها وفعاليتها كذلك عندما تعتزل الحياة.
إن العقائد والعبادات هي العمد الشامخة التي يقوم عليها بنيان الحياة الإسلامية وهي بدورها تتلقى القوة والعافية من سيادة المبادئ التي تحميها وكما سبق أن بينت، كلاهما كأعضاء الجسد الواحد لا يستغني أحدهما عن الآخر وفصل أحدهما عن الآخر يعني الموت والفناء لكليهما معاً. وعلى هذا فإن الظن بإمكان انتعاش المعتقدات الإسلامية في ظل نظام لا يقوم على أساس الإسلام ظن مغلوط إلا إذا جاز أن نضع عقلاً وأطراف بشرية لحيوان الغوريلا ثم نزعم بعد ذلك أن هذا الحيوان سوي الحلقة والتركيب.
وأحب أن يكون واضحاً في الأذهان أن أنظمتنا الحاضرة لا يقف تأثيرها المسموم عند شباب الجيل الصاعد فحسب ولكنه يتجاوز إلى هؤلاء الذين ما زالوا على قسط من التمسك بتعاليم الإسلام والذين ظلوا على ولائهم الموروث للعقيدة الإسلامية سواء كانوا من أبناء الجيل القديم أو الجديد.. إن الارتباك والتناقض الذي يسود حياة المسلمين في كل الأقطار هو بلاء عام لم ينجُ منه أحد وكل منا ينال قسطه من البلاء قدر استعداده للعدوى، حتى علماؤنا وأئمتنا نالهم نصيب من هذا الطوفان الطامي، ولكن جماهيرنا منتشرة على رقعة من الأرض تقدر بستة ملايين من الأميال المربعة هي أشد عناصر الأمة تعرضاً للخطر، ذلك بأنهم – على الرغم من إخلاصهم العجيب للإسلام - فإن إسلامهم إسلام اسمي فحسب وهم لا يعرفون الواجبات التي يفرضها عليهم هذا الإخلاص ولا يستطيعون النجاة بأنفسهم من هذه التيارات المنافية للإسلام والتي تسد عليهم المسالك كلها وتكاد تأخذهم من أقطارهم. ولهذه الأسباب أصبح هيناً على كل مضلل هدام أن يفيد من جهل هذه الجماهير فيزيف عقائدها وينحرف بأفكارها عن طريق الصواب وما عليه إلا أن يدس لها السم في الدسم ويقنعهم بأن النظريات والمفاهيم الجديدة التي تقدم إليهم لا تعارض بينها وبين الإسلام البتة وأن اعتناقها والإيمان بها هو الصواب بعينه وهكذا تقاد جماهيرنا كل يوم إلى القاديانية مرة وإلى الشيوعية أو الفاشية مرة أخرى.
ويقتضينا الواجب أن نعترف بأنه لا تبذل جهود جدية لحل مشاكل هذه الجماهير الناجمة عن الفقر الذي يعانون ويلاته والحاجة التي يتجرعون غصصها على ضوء تعاليم الإسلام العظيم كما لا يوجد في العالم الإسلامي حزب منظم يتحدى الشيوعية بالدعوة في عناد إلى الأخذ بالنظام الاقتصادي والاجتماعي في الإسلام، وإبراز ما في النظم من روعة وكمال في علاجها لمشاكل الإنسان في عصرنا الحاضر هذه المشاكل التي تقع في المرتبة الأولى من الأهمية قبل سواها ولهذا فليس عجيباً أن يقع كثير من المسلمين ممن ضربهم الفقر وأذلتهم المظالم الطبقية فريسة لتضليل الشيوعيين وأن يجد فيهم المغامرون وطلاب السلطة من أبناء الطبقة الوسطى بغيتهم لتحقيق أمانيهم وهكذا استغلوا في جماهيرنا حاجتهم للحياة الكريمة لأن الثورة الشيوعية علمتهم أن من أجدى الوسائل لنيل الحكم هو تأييد الطبقات العاملة واصطناع العطف على الفلاحين فبذروا في المجتمع بذور الأنانية والحقد وقدموا للطبقات المحرومة وعود معسولة بإنصافها وتحريرها ورفع مستواها ولو أدى الأمر إلى توزيع الثروة التي جناها أصحابها بالعرق والكد الشريف توزيعاً متساوياً بإعطائهم ما يستحقون من ثمرات جهد الآخرين وبهذه الوسيلة يتم لهم الظفر بالسلطان الذي يستمتع به في ظل النظام الرأسمالي المملوك أو الديكتاتوري أو أصحاب الملايين.
وآلام هؤلاء الجماهير الإسلامية أشد من سواها ذلك بأن الشعوب الإسلامية تعاني أكثر من غيرها من آلام الفقر والعوز والمظالم الاجتماعية وينفذ هؤلاء إلى قلوب الجماهير عن طريق (المعدة) وهي نقطة الضعف في الإنسان الجائع المحروم فيعدونها بحلول اقتصادية تذهب بفقر الفقير وثروة الغني معاً وتحقق العدالة والرفاهية لكليهما وإذا لجأت الجماهير إليهم تطالبهم بتحقيق الوعود علموها كيف تقدس رغيف الخبز أشد من تقديسها كلمة الله ثم ذهبوا بالتدرج إلى أكثر من ذلك في تطعيم أفكارها بالإلحاد ومعتقداتها بالشك وسخروا أمامها بكل الأديان، ونفثوا في روعها أن (الخبز) وحده هو الشيء الحقيقي وأن طريقة الحصول عليه هي (الدين الحق) ووسيلة التحرر والخلاص. ليس للفقير أو المعوز أو العبد ديانة أو ثقافة على الإطلاق، إن أقدس الشرائع عنده رغيف الخبز، وأعظم الثقافات رداء ممزق يستر به عورته وأسمى عقائده هي التحرر من الفقر والعوز.
إن الحاجة إلى الغذاء والكساء تدفعه إلى السرقة، إن العالم الذي تسوده العبودية وتتفشى فيه المجاعات لا مكان فيه للدين هذا هو الدرس الأول في التعاليم الشيوعية وفي اللحظة التي يتقبل فيها المسلم الجاهل هذه التعاليم يتلقى تأكیداً بأن دينه لن يمس بسوء في ظل الدولة الشيوعية وأن معتقداته ستحظى بالاحترام والتقدير: ما شأن الأديان والعقائد بهذه القضايا؟ وما هو الخطر الذي يتهددها من سيادة هذه المبادئ الاقتصادية البحتة.. إن الدين قد واكب التاريخ منذ أقدم الأزمنة وظل حياً يغمر بإشعاعاته الحياة البشرية ما دام يحتفظ بمزاياه الروحية والخلقية. هكذا تزعم الشيوعية للناس لكننا نعرف على وجه التأكيد تلك التغييرات التي أدخلها النظام الشيوعي على حياة المسلمين في روسيا خلال العشرين سنة الأخيرة هذه التغييرات التي تهدد مسلمي الهند كذلك. إن نار الجوع توشك أن تلفح قوة العقيدة بلظاها وإن الجدول المسموم الذي ينساب في بلادنا ببطء يمكن أن نوقفه الآن بقطعة عصا صغيرة ولكن إذا مرت سنون أُخر من التجاهل والإهمال فاني أخشى أن ينقلب طوفاناً عاتياً لا تمنعه سدود ولا جسور.
وعلى ضوء الحقائق الآنفة الذكر يصبح من العبث الدعوة إلى الإسلام على طريقة التبشير المسيحية ولو طبعت ملايين النشرات تدعو إلى التمسك بالإسلام وتصيح بالناس أن (اتقوا الله) صباح مساء لما كانت ذات فائدة تذكر، إذاً ما هي الفائدة العملية التي ستنجم عن تأكيد أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان وأن فوائده ومزاياه ليس لها مثيل عن طريق القلم والخطابة؟
إن حاجة العصر تتطلب إبراز هذه المزايا بصورة عملية في عالم الواقع. إن مشاكل العالم المادية المعتنقة لن تحل لمجرد القول بأن الإسلام يملك حلها إن قيمة الإسلام الذاتية لا بد وأن تبرز إلى الوجود في هيئة نظام عملي مهيمن يلمس الناس آثاره ويجنون ثماره إننا نعيش في عالم يقوم على الصراع والكفاح والخطابة والوعظ في تغيير مجراه ولكن الكفاح الثائر وحده هو الذي يستطيع ذلك.
ولئن كانت الشيوعية بمبادئها المظلمة قد استطاعت أن تثير الخوف والهلع في العالم خلال نصف قرن، والفاشية بتعصبها الممقوت أن تثير الخوف والهلع في أنحاء الدنيا بأسرها والفلسفة (الغاندية) الداعية إلى تجنب العنف أن تصبح شائعة ومقبولة على الرغم من منافاتها للطبيعة البشرية فليس هناك ما يمنع المسلمين من أن يحكموا العالم مرة أخرى بشريعتهم الخالدة التي تقوم على الرحمة والعدل والإخاء البشري، ولكن القبض على زمام السلطة لا يتحقق بالوعظ والإرشاد ولكنه يحتاج لعمل دائب ونضال مستمر يستهدف - في حدود تعاليم السماء - القبض عل أعنة الحكم وتطبيق شريعة الإسلام بعد ذلك.
إن كلمة (الكفاح الثائر) تبدو غامضة إذ أن لهذا الكفاح أشكالاً وصوراً كثيرة لا تنتهي ولكن اختيار لون الكفاح يتوقف - أولاً – على نوع الثورة المنشودة التي لا بد وأن تكون لها علاقة (نوعية) معه، ونحن دعاة الإسلام لسنا بحاجة إلى ابتداع أساليب جديدة لانقلابنا المرموق لأن هذه الأساليب قد استخدمت من قبل في الثورة الاسلامية الأولى التي قادها الرسول عليه الصلاة والسلام وكانت متفقة تماماً مع روح الثورة وغاياتها وما لا شك فيه أن حياة هذا النبي العظيم تعتبر معجزة سماوية ولكنها من ناحية أخرى تصلح أن تكون نموذجاً ومثالاً وأنىّ يتاح لإنسان أن يكون على هذا القدر من عظمة الشخصية وسمو النفس والتحلي بمكارم الأخلاق كلها والاتصاف بالعدل والرحمة والقوة ومخافة الله وسائر الصفات العظيمة والشمائل الكريمة؟ ثم كيف يتسنى لبشر أن يحقق ثورة أخرى في کمال ثورة محمد وشمولها وقوتها؟
ومن هذه النواحي تظل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم معجزة عديمة النظير ولكن تظل الثورة التي قادها منذ أربعة عشر قرناً مثالاً تحتذيه الأجيال ولهذا فإن ثورتنا المنشودة إذا ما أتيح لها التشكل في إطار الثورة المحمدية الأولى والنسج على منوالها فإن الثمرات المنتظرة ستكون شبيهة بالثمرات التي حققتها ثورة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكلما كان التأس والشبه بينهما قريباً تشابهت النتائج إلى حد بعيد. وسواء كانت في القرن الرابع عشر أو في القرن العشرين، في الهند أو أمريكا، في مكان أو زمان فإنك تستطيع القيام بهذه الثورة إذا وضعت نصب عينيك ذلك المثال الخالد. وهنا ليس مجال الحديث بالتفصيل عن الأساليب التي استخدمها النبي الأعظم في القيام بثورته تلك ولكن يمكنني القول إن فكرتي عن قيام (دار الإسلام) تحتضنه وترعاه انبثقت من خلال دراستي وتأملي لتلك الثورة العظيمة وأحداثها فعندما ألقيت أنوار الرسالة في صدر الإسلام للرسول لم يكن هناك مسلم واحد على سطح الأرض. وجاء محمد يعرض دعوته على العالمين. بدأ الناس يقبلون على دين الله في بطء وحذر أفراداً وجماعات وعلى الرغم من أن إيمانهم كان راسخاً كالجبال وولاءهم للمعتقد الجديد لا يدانيه ولاء فقد كان تفرقهم في أرجاء الجزيرة ووجودهم في محيط يتعارض مع هذا المعتقد من أسباب ضعفهم وعجزهم عن تغيير الأوضاع التي كانت تنافيه وتتصدى له بالعدوان. وهكذا ظل الرسول صلى الله عليه وسلم يحمل لواء الكفاح فحمل الدعوة أربعة عشر عاماً كاملة حتى أفلح في أن يجمع حوله نفراً من المؤمنين المخلصين يشتعلون غيرة وإيماناً، يبذلون نفوسهم وكل ما يملكون من مال ومتاع في سبيل الدين الذي اعتنقوه.
وهنا تنزل أمر السماء على الرسول (صلى الله عليه وسلم) يوجه خطاه نحو مرحلة أخرى من مراحل العمل أن يخرج بالفئة المؤمنة من محيط الكفر إلى محيط جديد تستطيع الدعوة أن تتنفس في أمان والأتباع أن يعملوا لها في حرية وانطلاق.
وهكذا أتيح للإسلام أن يجد (وطناً) تسري فيه تعاليمه وتنفذ فيه شريعته، وللمسلمين (دولة) تنمو في ظل حمايتها قوتهم الجماعية وتترعرع، وكانت يثرب أشبه ما تكون (بمحطة للطاقة الكهربائية) تجمعت فيها الطاقة الهائلة ثم انطلقت منها من جديد تبعث القوة في أوصال عالم خامد وترسل إشعاعاتها السنية إلى أقصى المعمورة لقد كانت هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تستهدف هذه الغاية ولهذا صدرت الأوامر إلى المؤمنين في أنحاء الجزيرة أن يتجمعوا في المدينة.
وبهذا انتقل الإسلام من مرحلة (الدعوة المجردة إلى عالم الواقع) في هيئة نظام عملي يمارس نشاطه في الحياة، وفي هذا المحيط الطاهر أرست قواعد الحياة الإسلامية الصحيحة وأصبح كل فرد من أفراد الدولة الوليدة صورة حية للإسلام في أروع مظاهره فإذا رريت رأيت أحدهم عرفت الإسلام وأدركت رسالته إلى العالمين.
لقد تشربوا روح الإسلام واتسموا في كل أمرهم بطابعه: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) كما كانت أخلاقهم من المناعة والصلابة بحيث لم تصمد إزاء أخلاق الشعوب التي امتزجوا بها فحسب ولكن أخلاق هذه الشعوب هي التي تغيرت وانطبعت بطابع الإسلام. لقد تمكن الإسلام من قلوبهم واستحوذ على مشاعرهم بحيث كان له دائماً المقام الأول إزاء أمور الحياة الأخرى وبالتعليم والمران كليهما استطاعوا أن يحققوا الصورة التي رسمها القرآن والسنة، وأن يعالجوا بها كل ما فسد من أحوال مجتمعهم وأن يجدوا لكل مشکلات عصرهم وأمراضه علاجاً في دين الله هذا هو النظام الرائع الذي ساد في يثرب في العصور الأولى للإسلام ويحتاج إلى دراسة عميقة وتأمل دقيق ويمكننا القول أن نظاماً عن شاكلته لكي يقوم يحتاج إلى أربعة أصول رئيسية نجملها فيما يلي:
أولاً: تقوم في الأمة الإسلامية طائفة مهمتها العمق في فهم شريعة الإسلام بحيث تتوفر لديها القدرة على شرح الإسلام وتبيان أهدافه في المجتمع والحياة في أحسن صورة ممكنة استجابة لأمر الله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولینذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون).
ثانياً: تقوم إلى جانبها طائفة أخرى غايتها تكريس حياتها للدعوة إلى النظام الإسلامي وبعثه للوجود ويتحتم على الجماعة الإسلامية أن تعفي هؤلاء من مهمة الكد في سبيل العيش ولكن عليهم أيضاً ألا يكترثوا لهذه المسألة سواء ضمنتها لهم الجماعة أم لم تفعل، يجب أن يدفعهم حماسهم للرسالة المقدسة التي انتدبوا أنفسهم لها إلى الإخلاص التام والتضحية المطلقة في سبيلها بكل شيء: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون).
ثالثاً: يجب أن يبلغ الإيمان والإخلاص بكل عضو في الجماعات الإسلامية حدا يجعله يرى في إعلاء كلمة الله وقيام سلطانه في الأرض وإطاعة أمره أعظم غايات الحياة، كما يجب أن يظل هذا المعنى مسيطراً على أفعاله وأقواله خلال عمله اليومي، فالتاجر في متجره والزارع في حقله والصانع في مصنعه والخادم في بيت سيده يجب ألا ينسى هذه الرسالة ويجب عليه أن يذكر دائماً أن العمل ليس إلا وسيلة لحفظ الرمق وأن الحياة ليست إلا مجالاً يتيح تحقيق هذه الرسالة الخالدة، كما يتحتم عليه أن يتحرى ما فرضه عليه الإسلام في سلوكه مع الآخرين ومعاملاته معهم فإذا ما تعارضت مطالب الحياة مع الإسلام فإن عليه أن يكف عن محاولة التوفيق بينهما على حساب الدين وأن يرفض التضحية بعقيدته من أجل مغنم دنیوي في جرأة ومن غير ندم عليه كذلك أن يقدم الخدمة الفكرة الإسلامية كل ما يفيض عن حاجته من وقت أو مال وأن يحمل نصيبه من التبعات مع هؤلاء الذين وقفوا حياتهم على هذا الغرض: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).
رابعاً: يجب أن يتاح لغير المسلمين الدخول في دار الإسلام هذه، وأن يتعرفوا على كتاب الله في جو تدور فيه الحياة نفسها على أساس القرآن الكريم وتعتبر ترجمة عملية لأهدافه وغاياته ومما لا شك فيه أنهم في مثل هذا المحيط سيستطيعون فهم القرآن بصورة أحسن من قبل، وسوف يبهرهم حتماً ما يشاهدون ويلمسون من آثاره في هذا المجتمع النموذجي (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه).
بهذه الوسائل استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوجد في هذه المحطة الكهربائية تلك الشحنة الهائلة من الطاقة خلال فترة لم تتجاوز ثماني سنوات بحيث استطاعت أن تعم بضيائها جزيرة العرب وأن تشع بأنوارها على العالم من بعد وحتى اليوم وبعد أن انصرمت أربعة عشر قرناً كاملة ما زالت هذه الطاقة تشع بالنور والهدى في قلوب الملايين..
بعد عصر الخلفاء الراشدين تطرقت عوامل الانهيار إلى النظام الإسلامي الذي أرساه الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر الذي أدى ببعض صحابه رضوان الله عليهم أن ينشؤوا لهم (صوامع) أو زوایا يمارسون فيها الحياة الإسلامية كما عهدوها على الرسول الأعظم.
وعلى الرغم من أن ذكر الصومعة بمعناها المفهوم في أذهان الناس في هذا العصر لا يعني أكثر من مكان ناء في قمة جبل لا تدخل أشعة الشمس ولا يعرف الهواء إلى جوفه، مكان يعتزل فيه الناسکون الحياة حتى لا يكادون يشعرون بحركة الزمن أو تعاقب الليل والنهار نقول على الرغم من هذا الفهم فإن الصوامع في الماضي كانت تستهدف المحافظة على تراث النبوة ومحاولة ترسم خطى النبي المباركة وأصحابه الميامين من بعده والعيش وفق النظام الذي عرفته مدينة الرسول في أيامها الزاهرات ولقد كان شأن قادة الأمة في عصورها الأولى أن يختاروا شباباً يؤهلهم إيمانهم الصادق وحماسهم نحو الإسلام فيضعونهم في هذه المدارس ويعدونهم لحمل أمانة الإسلام وينشؤوهم على حب الله ورسوله ويربوهم على مبادئ الشريعة الحقة كما ربى القائد الأعظم أصحابه من قبل.
وعلى هذا فنحن مطالبون إذا كنا جادين في إحداث الانقلاب الإسلامي المنشود أن نترسم خطاهم ونسير على نهجهم وحيث أنه لا توجد (دار للإسلام) كمدينة الرسول خارج القارة الهندية فلا بد لنا من أن نوجد مثل هذه الدار في هذه البلاد ولو على هيئة مراكز تربوية يتحقق فيها المحيط الإسلامي الطاهر وتسوده أخلاق الإسلام ونظمه الاجتماعية وتصدر الأحكام على الأشياء بأنها خطأ أو صواب على ضوء ما قرره الله ورسوله بشأنها من حيث هي حلال أو حرام ويتضح لنا التناقض بين حاضرنا الذي نعيش فيه وبين حقيقة الإسلام الذي نعتقده ونؤمن به وحيث يمكن أن تحول دون هذه الأمواج العاتية من الأفكار والعقائد المنافية للإسلام من أن تستولي على البقية الباقية من أثر الإسلام فينا وحيث يمكن أن روافد التشريع التي غذت الأمة الإسلامية بحاجات تطورها طوال قرون عديدة إلى أن دبت إليها عوامل الجفاف والقحولة في (دار الكفر) أن تعود للجريان مرة أخرى فإذا أنشئت مثل هذه المراكز التربوية يجب أن لا يسمح بالانضمام إليها إلا لهؤلاء الذين يرغبون في خدمة الإسلام بعزم صادق وإخلاص تام، ويجب أن تعطى لهم الدراسات الملائمة والتدريب اللائق الذي يؤهلهم لحمل أمانة الإسلام.. كما يجب أن يجري نظام العمل في هذه المراكز على نفس النمط الذي جرى على يدي الرسول صلوات الله وسلامه عليه أي ينقسم إلى أربعة أقسام:
- القسم الأول: يتكون أفراده من أشخاص نالوا حظاً وافراً من الثقافة الدينية والعلمية فأما الذين تخصصوا في العلوم الدينية فيجب عليهم أن يدرسوا اللغات الأوروبية والعلوم الحديثة. وأما الذين نالوا قسطاً من الثقافة العصرية والعلوم الحديثة فيجب عليهم أن يتعمقوا في دراسة اللغة العربية والشريعة الإسلامية وعلوم القرآن الكريم والسنة المطهرة بحيث يتسنى لهم الحصول على درجة من المعرفة العميقة والفهم الصحيح لدين الله، ومن ثم يقسم هؤلاء إلى فرق مختلفة كل فرقة تتخصص في فرع واحد من فروع العلوم الدينية وتكون مهمتها إعادة صوغ هذا العلم على أسس عصرية حديثة، ويتعين عليهم كذلك أن يحاولوا فهم مشاكل الحياة البشرية في الوقت الحاضر فهماً موضوعية عميقة ثم يعملوا على حلها وفق مبادئ الإسلام وذلك بفصل المفاهيم الغربية الخاطئة التي تسللت إليها وإعادة بنائها على أساس من نظرة الإسلام إلى الكون والحياة.. وباختصار يجب أن يكون هؤلاء من المقدرة والكفاءة بحيث يستطيعون خلق ثقافة صحيحة من نوع جديد لها من القوة والتأثير ما يحقق الثورة الفكرية المنشودة لصالح الإسلام.
أما القسم الثاني فسوف يكون مصنعاً (لتفريخ) الجند الذي سيناط بهم خدمة الإسلام، ويجب أن يتحلى هؤلاء بأخلاق فاضلة عمادها العفة والسمو عن الدلس، کما يجب ألا تتحول أنظارهم مطلقاً عن غايتهم النبيلة، شعارهم التضحية من أجلها والبذل في سبيلها. ومن هذه الفئة الفتية ستكون نواة الحزب الانقلابي المنشود طابع أفراده البساطة والكد والمثابرة في العمل تسودهم روح النظام والإخاء والتعاون من خلال أعمالهم وسلوكهم يرى الناس الإسلام يمشي على قدمين، هذا الحزب سيقدم للناس الصورة العملية للنظام الجديد والإطار البشري للحضارة الجديدة التي ستقوم على أساس الإسلام ومن البديهي أن من غايات الحزب الرئيسية حشد الجماهير تحت لوائه عن طريق (الدعوة القدوة) كما يظفر بالسلطة ويشكل الحكومة التي سيغرب بقيامها إلى الأبد شبح الطغيان وتشرق مع مولدها شمس الحرية والعدالة والمساواة.
القسم الثالث: ويتكون القسم الثالث من هؤلاء الذين لا يستطيعون التفرغ للدعوة للإسلام تفرغاً كاملاً ولكنهم يرغبون في الانضمام لهذه المنظمات لفترة من الوقت فحسب، وواجبنا نحو هؤلاء أن نغرس فيهم فضائل الإسلام ونزودهم بقبس من هدیه ثم نخلي هؤلاء وسبيلهم يذهبون أنىّ شاؤوا وعندئذٍ ستكون لديهم المناعة الخلقية التي تعصمهم من الوقوع في مهاوي الضلال، وتجعلهم يؤثرون بسلوكهم فيمن يتصل بهم من الناس، ويتعين على هؤلاء أن يكونوا من لا يساومون على المبادئ ولا يقبلون موقفاً وسطاً بين الحلال والحرام راسخين في إيمانهم لا يخبطون في دروب الحياة على غير هدى بل هم قد يدركون النية من وجودهم يعملون على تحقيق هذه الغاية. إنهم يكسبون قوتهم بما أحل الله من عمل أو تجارة وينفقون في سبيل الدعوة ويجدون يد العون المادي والأدبي إلى العاملين في حقل الإسلام من أفراد القسم السابقين، وبهذا يهيئون المحيط المناسب لولادة الانقلاب الإسلامي ونشأته وازدهاره.
القسم الرابع: أما القسم الرابع فيتكون ممن يرغبون في الاندماج في هذه المنظمات من المسلمين وغير المسلمين بقصد التعرف على البيئة الإسلامية والاتصال بأهلها وتفهم لون الحياة التي يحياها أفرادها ويجب أن يقدم لهؤلاء الأفراد كل تيسير ممكن كي يحظوا بفكرة صادقة عن الإسلام في صورته العملية وعن فضائل أهله وعن أثره المبارك إذا ما أتيح له أن يخرج من هذا النضال المحدود إلى ساحة الحياة الرحيبة.
هذا تخطيط تقريبي للنظام الذي نعتقد بضرورة قيامه كخطوة أولى نحو تحقيق الانقلاب الإسلامي. وبداهة أن نجاح هذا النظام يتوقف على مدى انطباقه مع روح النظام الذي أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة. وهنا أحب أن أزيل لبساً خطيراً قد يتبادر إلى الأذهان من دعوتي إلى التأسي (لمدرسة المدينة) لتحقيق الانقلاب، إن تقليد المجتمع والتأسي به لا يجب أن يفهم على أنه دعوة إلى التقليد في المظاهر، أو أنه (ردة) عن التقدم الثقافي والعلمي الذي أحرزته البشرية في العصر الحديث إلى ذلك المستوى الحضاري البسيط الذي ساد الجزيرة العربية منذ أربعة عشر قرناً.. إن مثل هذا التصور للتأسي والاقتداء تصور مغرق في الخطأ بعيد عن الصواب. ولعله مما يؤسف له أن كثيراً من دعاة الإسلام والمتدينين من أبنائه ظلوا يعملون له في ظل الفهم الخاطئ. فهم يرون أن اقتفاء آثار هذا الرعيل المؤمن لا يتم بغير ارتداء ملابسهم وأكل طعامهم وتقليدهم في الحياة المنزلية وهم لا يعلمون أنهم بهذا إنما يجمدون على صورة ذلك المستوى الحضاري القديم حتى قيام الساعة وأنهم يتجاهلون ما يقع حولهم من تغيير في كل شؤون العالم وإنهم لا يستطيعون مهما فعلوا أن يوقفوا حركة الزمن، وأن يحولوا بين ما يمكن أن ينجم عن هذه الحركة من نتائج وبين التأثير في أفكارهم وحياتهم ومصيرهم إن هذا الفهم المغلوط للتأسي والاقتداء، والذي عمل في ظله كثير من قادة المسلمين خلال عصور الانحطاط التي ألمت بالأمة الإسلامية ليتعارض تعارضاً صريحاً مع روح الإسلام.
إن الإسلام لا يدعونا إلى الجمود، ولا أن نجعل من أنفسنا عاديات أثرية ساعية على أقدامها في دروب الحياة ولا من حياتنا (دراما) تاريخية في دار الآثار. إنه لا يدعونا إلى حياة النسك ولا يرضاها لنا وليس من أهدافه أن يخلق أمة تقف حجرة عثرة في سبيل التطور البشري بل على العكس من ذلك يستهدف خلق الأمة لتتولى تنظيم هذا التطور وتوجيهه بحيث يتدفق في مجارية الصحيحة بعيداً عن مجاري الخبث والضلال.
إن الإسلام يمدنا بالروح التي نقيم على أساسها حضارتنا ولكنه لا يعطينا (الشكل) ويريد منا أن تستهدي تلك الروح في كل طريق نسلكه وكل عمل نقوم به ويجب علينا - كمسلمين - أن نعلم بأن هذه الميزة هي التي أعطتنا مقام الإمامة للشعوب وجعلتنا (خير أمة أخرجت للناس) كما نقود ونرشد ونقف من القافلة البشرية مقام (الطليعة) الهادية وليس في مؤخرة الصف خلف الأمم التي تشق طريقها في مضار التقدم.
إن النموذج الذي قدمه لنا الرسول ﷺ وأصحابه يرينا كيف حققوا رسالتهم كخلفاء لله في الأرض بإخضاع قوانين الطبيعة لحكم الشريعة. لقد طعموا ثقافة عصرهم بروح الإسلام وأخضعوا القوى الطبيعية التي كانت تحت هيمنة الإنسان في زمنهم لخدمة الحضارة التي جاءوا بها وسبقوا غيرهم من الشعوب التي عاصرتهم في الاستفادة من ثمرات التقدم الحضاري الذي أحرزته الإنسانية حتى ذلك الوقت وهكذا تم لخلفاء الأرض أن يبسطوا سلطانهم على الأمم التي تمردت على سلطان الله. وكيف لا يفعلون ذلك والقرآن يناديهم بأمر الله (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)؟
لقد أدرك مسلمو العصور الأولى أن لهم الحق قبل سواهم في استغلال قوى الطبيعة التي سخرها الله لعباده وعلى هذا فإن الاقتداء الصحيح بالرسول الأعظم وأصحابه يتطلب منا كذلك أن نعمل جاهدين كي نسخر كل ما حققته لنا العلوم الحديثة من سيطرة على الطبيعة في خدمة الحضارة الإسلامية التي نروم إنشاءها.
إن الشر والفساد لا يكمن وراء هذه القوى التي أخضعها الإنسان لإرادته بالعلم وبالبحث والمعاناة ولكنه يكمن في الحضارة الملحدة التي تنمو وتترعرع على حساب جهده ونضاله. إن المذياع ليس شراً في ذاته، ولكن الشر في روح الحضارة التي جعلت منه وسيلة لنشر الأضاليل وإفساد الأخلاق وإشاعة الميوعة والتخنث، والطائرة ليست فساداً في ذاتها ولكن الفساد كمن في روح الحضارة جعلت منها آلة مسخرة في يد (إبلیس) تقذف النار والدمار على الآمنين، والسينما ما كانت لتصبح عدوة للأخلاق لو لم تتحكم فيها روح الحضارة الشريرة وجعلها مباءة لنشر الفساد والفجور وإشاعة الفسق.
هذه الحضارة تنمو فروعها السامة وتزدهر لأن القوى الطبيعية التي سيطر عليها الإنسان سخرت بالتالي لخدمة هذه الحضارة وتحقيق فلسفتها في الحياة فإذا أردنا أن نعمل لخير الإنسانية بتشييد الحضارة (السماوية) التي نبغيها ونحقق فلسفتها فلا مناص لنا من السيطرة على هذه القوى لأنها كالسيف يفوز من يحمله بغض النظر عن الغرض الذي سيستخدمه فيه شريفاً كان أم وضيعاً. فإذا قنع هؤلاء الذين يستهدفون الخير للجنس البشري بالقعود وتمني الأماني دون أن ينتزعوا (السيف) من أيدي الخصوم فإن الخطأ خطؤهم وتبعة القعود عن نصرة الحق قوة تقع عليهم وحدهم دون سواهم. إننا نعيش في عالم يحكمه قانون ثابت هو السبب والنتيجة، وهو السبب والنتيجة، وإنه لمن المستحيل أن يخرج هذا القانون الثابت عن قواعده من أجل إنسان من الناس أو أمة من الأمم..
وبعد فلعلي في هذه الحالة العاجلة قد قدمت صورة للحركة أرجو وقوعها. هذه الحركة التي ليست (رجعية) بالمعنى المفهوم في أذهان الناس وليست (تقدمية) بمعنى أنها تستهدف التقدم المادي فحسب، إن المراكز التربوية التي أتخيلها يجب أن توجد في كل مكان والانقلاب الذي أنشده لیس شبيهاً بحركة الفاشست في ايطاليا ولا بالحركة (النازية) التي شهدتها ألمانيا إن النموذج الوحيد الذي تتخذه هذه الحركة قدوة ومثالاً هو مدرسة النبوة في المدينة والحزب الذي تتأسی به هو (حزب الله) الذي صنعه محمد العظيم (صلى الله عليه وسلم) فغير به وجه التاريخ.
وسوم: العدد 865