مقتلة جعفر آباد: من «الشايوالا» إلى «إمبراطور القلوب»
المقتلة الشنيعة التي حلّت قبل أيّام قليلة بمسلمي منطقة جعفر أباد شمال شرق «دهلي» (كما كان رسمها بالعربية والفارسية، ولم يزل كذلك بلغة الأردو) هي لحظة ضمن سياق محموم ومتسارع دشّنه الفوز المتجدّد لحزب «بهاراتيا جاناثا» القومي الديني بانتخابات نيسان وأيّار الماضي، ومضيّ حكومة نارندره مودي وآميت شاه لتنفيذ الشعارات الانتخابية الواحد منها تلو الآخر، بدءاً من الغاء الوضع الخاص لولاية جامو وكشمير، وصولاً إلى الطعن بالمساواة الدستورية بين المواطنين من خلال تعديل قانون المواطنة، وتسهيل اعطاء الجنسية الهندية للأقليات الدينية في باكستان وأفغانستان وبنغلاديش من غير المسلمين، وعدم اتساع هذا التمييز للجماعة الأحمدية التي تعاني الأمرّين في باكستان مثلاً.
والأخطر من تعديل قانون الجنسية على هذا النحو ترافقه مع إصرار اليمين الشعبوي الإحيائي على تعميم تجربة «السجل القومي للمواطنين» التي أسفر اعتمادها بادئ ذي بدء في ولاية آسام، في أقصى الشمال الشرقي من الإتحاد، باقصاء مليونين من قاطنيها الصيف الماضي جراء عدم امتلاكهم الأوراق الثبوتية الكافية لإثبات «هنديتهم». وهؤلاء مسلمون وهندوس، لكن الهندوس وحدهم من بينهم سيتمكنون من تصحيح أوضاعهم بالاستفادة من التعديل الأخير على قانون الجنسية.
وعلى هذا النحو، من المرجّح أن يسفر تعميم تجربة «السجل القومي للمواطنين» على امتداد ولايات الهند جميعها، لو تمّ، إلى اقصاء عشرات الملايين، وإلى تعميق النظر إلى المئتي مليون هندي مسلم على أنّهم مطعون في هنديتهم، ومشتبه بـ«باكستانيتهم»، كما إلى المزيد من الإلتفاف على ماضي العلمانية الهندية بنت رأسمالها الرمزي في مواجهة باكستان، على أنّها ليست تقيم الرابطة الوطنية على الدين، وأنها توازن بين المساواة بين المواطنين وبين المساواة بين الديانات، فيما يواصل اليمين القومي الديني، الذي تحرّكه أيديولوجية «الهندوتفا» (القائلة بأن الهند وطن للهندوس والهندوس أمة إثنية وليس فقط ديانة أو إتحاد ديانات)، ارساء ما من شأنه «هنْدَوَسَة» الهند، بوصفها الوطن القومي والمقدّس لأبناء الأكثرية الدينية فيها، وبالتمييز فيها، بين أقليات صالحة (كالجايين والبوذييين والبارسيس) أو النظرة إليها متقلّبة (المسيحيّون) وبين المئتي مليون مسلم المستمرّين في الهند بعد أزيد من سبعة عقود على تشطير شبه القارة الهندية بين دولة جعلت من الرابطة الدينية رابطة دينية (باكستان) وبين دولة إما أنّها رفضت محاكاة هذا الربط أو أنّها ضمرته (الهند في عصر حزب المؤتمر) قبل أن تتمكن الإحيائية الهندوتفية المقاتلة من الصعود على هذا النحو المنهجي والشامل، بعد عقود طويلة على رحيل روادها المؤسسين، غوفالكار وسافاركار واوبديايا.
نفّذ سفك الدماء بالتزامن مع حلول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عند نارندره مودي، وثنائه على قيم التسامح التي يجسّدها الأخير، وتعويله على أن يتبدّل مزاج الناخبين الأمريكيين من أصل هندي في الرئاسيات القادمة، بعد أن اقترعوا بأكثريتهم لهيلاري كلينتون عام 2016
بدلاً من أسطرة طفولته كبائع شاي (شايوالا) كنموذج يعد بالصعود الإجتماعي للطبقات الشعبية، وبشكل أساسي «الطائفة الطبقة» الرابعة في نظام الكاست الهندوسي، الشودرا، على ما ركّزت حملة مودي الإنتخابية عام 2014، فإنّ مودي المنتصر في أيار الماضي آت بوعود «الحرب الثقافية» هذه المرّة، ويغدق عليه أنصاره ألقابا تمجيدية من مثل «هندو هريداي سمرات»، «امبراطور القلوب الهندوسية». وبعد أن عمل مودي لسنوات طويلة لإبعاد نفسه عن السمة التي علقت بشخصه في أواخر شباط من العام 2002، يوم ارتكبت مجزرة ذهب ضحيتها بين ألف وألفي مسلم في غوجارات عندما كان حاكماً (وزير أعلى) لها، وإتهم وقتها بالتواطؤ مع الجناة، فإنّ الرياح تهب الآن في الإتجاه المعاكس.. إتجاه العودة إلى الينابيع، إلى المقتلة، ولم تبالغ أبداً ميرا كمدار في مقالتها بـ«أطلنطس» عند وصفها سفك الدماء الأخير في دهلي على أنه «بوغروم» (الإستباحة في الروسية، وهي التسمية التي شاعت للمجازر ضد اليهود في الإمبراطورية الروسية وأوروبا الشرقية)، من زاوية أنها مقتلة تجري من قبل تشكيلات هجومية عنيفة بتواطؤ أو بغض الطرف من السلطات، وقد نفّذ هذا البوغروم بالتزامن مع حلول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عند نارندره مودي، وثنائه على قيم التسامح التي يجسّدها الأخير، وتعويله على أن يتبدّل مزاج الناخبين الأمريكيين من أصل هندي في الرئاسيات القادمة، بعد أن اقترعوا بأكثريتهم لهيلاري كلينتون عام 2016.
بيد أنّ بوغروم جعفر آباد لا يستهدف المسلمين فقط، بل يستهدف بشكل أساسي إحباط التراكم الذي أسست له القومة الشعبية قبل أشهر، اعتراضاً على تعديل قانون الجنسية، واختزال هذه القومة في الركن الإسلامي منها فحسب. كذلك تأتي هذه المقتلة بعد معاودة الحزب الحاكم خسارته انتخابات دهلي المحلية نفسها مؤخراً، وبقاء العاصمة الإتحادية حتى الآن فضاء متأرجحاً وغير مطواع بالنسبة له للمضي قدماً في تفكيك إرث «حزب المؤتمر».
«الهندو راشترا»، أو تحويل الهند من دولة علمانية جامعة بين أبناء الديانات المختلفة إلى دولة ذات سمة هندوسية واضحة، تمرّ بالنسبة إلى «البهارتيا جاناثا» بالمزاوجة بين معركتين في وقت واحد. واحدة ضدّ مسلمي الهند، ما دام العمل على تصويرهم على أنهم «باكستانيون» كفيلا بالتالي بإعادة تظهير الهند كدولة للهندوس أولاً، إن لم يكن للهندوس حصراً. ومعركة ثانية ضدّ تركة حزب المؤتمر وضد اليسار، والقوميون الدينيّون لا يفرّقون أساساً بين المؤتمر واليسار، بل يردّون أفكار غاندي ونهرو والماركسيين الهنود إلى أصل واحد، ويعدونهم إفرازات استعمار ثقافي معاد للأصالة القومية الدينية التي تجد مرجعيتها في النصوص القديمة السنسكريتية، وتجد معادلتها الراهنة في معادلة «هندو (الانتماء الديني) ـ هندي (اللغة الأكثر شيوعاً في شمال البلاد، والذي يعتبرها القوميون الدينيون الأقرب الى السنسكريتية القديمة، هذا حين لا يراودهم موال إعادة التكلم بالسنسكريتية الغابرة نفسها) ـ هندوستان (أولية الشمال الهندي، وامتداده عبر سهل الغانج، على الجنوب، وثقافاته الدرافيدية «غير الآرية»). يتعامل القوميّون الدينيّون مع المسلمين على أنّهم نتيجة «استعمار مغولي»، ومع العلمانيين واليساريين على أنّهم نتيجة «استعمار أيديولوجي حداثي». في نفس الوقت، الشغل الشاغل لهم محاولة تقديم مودي كما لو أنّه الأب الذي يعيد تأسيس الهند بشكل تصحيحي للمسار العلماني الذي قاده جواهرلال نهرو، إنما بشكل يريد سرقة طراز جاكيت نهرو نفسها، فليس قليلاً أن السترة التي اشتهر بها نهرو حتى ارتبطت باسمه، عاد مودي لارتدائها وأشاع أنصاره تسميتها «جاكيت مودي». يجري العمل على حذف إرث نهرو بمحاكاته، وليس فقط بمناقضته. وتجري الاستفادة في نفس الوقت من بقاء حزب المؤتمر أسير معادلة سلالة أحفاد نهرو، لا يتمكن من الخروج عنها إلى إعادة تأسيس للحزب الأكبر في وجه الإحيائيين الهندوس، في اتجاه شعبي ديمقراطي عصري، لا بل انساق قسم كبير من المؤتمريين في السنوات الأخيرة وراء مشاريع مواجهة «الهندوتفا الكلية» بهندوتفا فرعية، مواجهة احيائية البهاراتيا جاناثا باضفاء بعض من التقوى والإحيائية الهندوسيتين على خطابهم، ونتيجة هذا التذاكي لم تكذّب خبراً: المزيد من غلبة اليمين القومي الديني، لكن أيضاً المزيد من تعريض الوحدة المجتمعية الهندية إلى اختبارات كابوسية.
وسوم: العدد 866