العراق بين احتلالين
منذ الاحتلال البغيض للعراق تكشفت لدى العراقيين الكثير من الأوراق المخفية عن الأنظار، منها حقيقة حملة مشاعل الحرية المزيفة التي تحملها الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوربا لتنير للعالم الثالث دروب التحرر، والرخاء والديمقراطية، وتعزيز حقوق الإنسان، فقد تبين أنها أشبه بالرماح التي كان يرفعها سلفهم الغابر معلقين عليها رؤوس أعدائهم من الهنود الحمر، وما أشبه اليوم بالبارحة. عندما شنت الولايات المتحدة الأمريكية حربها على يوغسلافيا تظافرت الدول الأوربية لإطفاء جذوتها بسرعة، وما أن انتهت الحرب بتقسيم البلاد، حتى بدأ مشروع مشابه لمشروع مارشال الذي نهض بالمانيا من جديد، وفاضت المعونات والمساعدات الأوربية لإعادة بناء ما دمرته الحرب. ولكن في غزو العراق تراوح الموقف الأوربي بين مؤيد لأمريكا أو معارض بالقول فقط، أو محايد، وهذه المواقف الثلاثة تدخل جميعها في خانة الإضرار بمصلحة العراق، ويدفع العراق يوميا ضريبتها الفادحة من دماء أبنائه وثرواته.
مأساة العراق شارك فيها إلى جانب قوات الاحتلال عدد من الدول الأوربية والدول الإقليمية والإسلامية والعربية سيما تلك التي سهلت احتلال العراق وغذت طفيلياته الشرهة، وتقف الآن متفرجة عما جنته أيديها من دماء العراقيين، إضافة إلى حفنة من العراقيين الذيول الذين فقستهم المخابرات الأمريكية والأوربية والإيرانية والسورية ليمسكوا المعاول بأيديهم القذرة ويدمروا كل ما هو حي وعامر، ويحرقوا كل ما هو أخضر. جريمة مشتركة تتحمل وزرها أيضا الأمم المتحدة ولجانها السيئة الصيت، والرأي العام العالمي، وبقية المنظمات الدولية. كانت جريمة بشعة بحق الضحية، تفرقت دماؤها على معظم دول العالم فأصبحوا شركاء فيها كل حسب موقفه ومساهمته، مع اعتبار ان السكوت عن الجريمة يعتبر مشاركة فيها، أو الرضا بها على أقل تقدير.
من المؤكد إن الاحتلال هو من أبشع صيغ التدمير الشامل والتخريب للنسيج الوطني، فهو اسوأ صورة من صور الحرب ضد الشعوب الآمنة، وهو أعنف أسلوب من أساليب الإبادة الجماعية، وأحقر طريقة لسرقة موارد وثروات الأمم، وأقبح السبل لمسخ هوية الشعوب وامتهان سيادتها وكرامتها، وأردأ وقود لحرق تطلعات الشعوب وآمالها في المستقبل. إن الشعوب التي ذاقت مرارة الاحتلال هي أفضل نموذج يركن إليه في هذا المجال. ولكن الشعوب التي عانت من أحتلالين خلال أقل من قرن من الزمان كالعراق تمثل النموذج الأسوأ والأبشع سواء من حيث الزمن الذي استغرقه الاحتلال وهو يُحسب منذ عام 1991، يمكن وصف الحصار الاقتصادي الظالم ما بين الحربين مجرد فترة إستراحة لقوى الإستعمار الغاشم! أو من حيث الخسائر التي لحقت بالشعب العراقي والتي تقدرت بحوالي مليون فرد أثناء الحصار ونصف مليون آخر بعد الغزو الأخير! أو من حيث حجم الدمار الذي تعرض له العراق في بنيته الاقتصادية وهياكله الارتكازية، فقد إنتهت جميعها، وما تبقي منها أجهض عليه الإحتلال الإيراني.
يوم بعد آخر تسلط الأضواء بشكل مكثف عن الأوضاع المأساوية التي يتعرض لها الشعب العراقي بفعل همجية هذا الغزو الغاشم. بالرغم من محاولة الأمريكان تمويه الحقائق وتزوير الوقائع عبر تسخير الماكينة الإعلامية الضخمة لخدمة أغراضهم الأحتلالية، مع ذلك فأن بصيص قليل من الضوء كشف جزءا مهولاً من حجم جرائمهم، وليس الجزء الأكبر منها. نصف مليون قتيل عراقي كانت جريمتهم إنهم عراقيون فقط، كل منهم له قصة مروعة عما تعرض له من عنف وتعذيب وارهاب على أيدي الغزاة الهمج وأذنابهم من العملاء لامريكا وايران، ولكن قصصهم سكنت بهدوء الى جانب جثثهم، ولم يماط اللثام عنها. ولكن مع هذا فأن القبور نفسها أصبحت شواهدا على حقيقة النموذج الديمقراطي الأمريكي، ونتائج تصدير الثورة الاسلامية الايرانية الى العراق. نماذج حية للإرهاب والقتل والقمع وللظلم والفساد والسرقة والتهريب والتزوير.
كشف لنا الإحتلال حقيقة المتشدقين من رجال الدين الذين كنا نظنهم يتعبدون في محراب الدين وتبين أنهم يتعبدون في محراب الشيطان من اكبر الى أصغر عمامة. أقزام تختفي في لحاهم الكثة آلاف الشياطين، وتحت عمائمهم العفنة أبالسة أشداء في الباطل، جُبلوا على الدجل والخداع وطمس حقائق الدين والدنيا، فكانوا أسوأ من الاحتلال نفسه، مراجع حاقدة استبدلت المصحف الشريف بكتاب فنون الدجل فحفظوا فصوله على ظهر قلب، وجعلوا من عباءاتهم السوداء مخابئ للمردة والشياطين، قايضة دينهم بالدولار، ففقدوا شرفهم، والشرف كالزجاج إذا كُسر لا ُيمكن اصلاحه.
لقد أخرج الإحتلال العفريت الطائفي من السبات في قمقمه، وهيئوا له أفضل الفضاءات للعبث والمجون، ومهدوا له ميدان عمل رحب وزودزه بكل ما يحتاجه لينجح وينتصر على إرادة الجماهير الغافية. ووضعوا في أصابعه عدة خواتم من الفضة المفصصه تفي لكل الحاجات، وزوده بسبحة طويلة كل خرزة منها تحمل اسما لشيطان، وختموا جبهته بالبطاطا الحارة وألبسوه العمامة السوداء، وجعلوه سيدا ومرجعا وحيدا لبقية المراجع المتملقين، فإحتفوا به كإحتفاء قواد ببغي جديدة شابة وجميلة. وانبطح علماء السنة من خالد الملة والصميدي والهميم وغيرهم رافعين مؤخراتهم ولاءا للولي الفقيه.
قاموا مراجع الضلالة بخنق روح التسامح التي كانت تسود الشعب بحبل الطائفية المتين، ولم يستسيغوا مذاق الفريضة السادسة فتفلوها من أفواههم الكريهة على الأرض، وسحقوها بخفافهم الرقيعة. عبثوا بالدين وشوهوا العقيدة، ومسخوا حقائق التاريخ بالتزوير والتلفيق. مسحوا الصفحات المضيئة من التأريخ المجيد وصقلوا الصفحات السوداء، وجعلوا من ابا رغال والعلقمي رموزا للوطنية والقداسة. وإتخذوا منهم مشاعلا لحرق اليابس والأخضر في الوطن المنكوب بكثرة العملاء والخونة والجهلة والمستحمرين والمخدرين بأفيون المرجعية.
فقدوا كرامتهم ونزاهتهم ومشروعيتهم ومصداقيتهم التي تعتبر المقياس الوحيد لتقييم أدائهم وعملهم، وبعد أن انكشفت حقيقتهم المرة أصروا على مواقفهم العميلة، وكابروا ورفضوا العودة إلى جادة الصواب والتكفير عن كفرهم وخطيئتهم بحق الله والوطن والشعب. أنزووا معتكفين في جحورهم المظلمة، مع خفافيش الظلام، يؤدون العبادات في محراب الشيطان، بعد أن كتموا أنفاس الحقيقة في أكبر جريمة احتيال في التأريخ الحديث.
لقد كشف الاحتلال حقيقة الأمتين العربية والإسلامية اللتان وقفتا متفرجتان على منظر العراق وهو يغرق في لجة بحر متلاطم من الدماء دون أن تقويا على مد طوق النجاة له. أو أن تكفرا عن خطيئتهما في قتل الشعب العراقي، وتدمير مقدرات البلد، فقد انطلقت قوى الظلام البرية التي دمرت العراق من السعودية والكويت، والطائرات المعادية من دول الخليج العربي. إن جريمة العرب لا تقل بشاعة عن جريمة الاحتلال، فقد احتالوا على حقائق الدين والتأريخ والجغرافية، وحطموا آخر جدران العروبة والقومية في العراق، دون أن يدركوا أن انهيار جدران البوابة الشرقية سيكلفهم عاجلا أم آجلاً انهيار جدرانهم الحدودية بمعاول الولي الفقيه! وهذا ما حصل.
في الوقت التي تحاول إيران ـ عبر ذيولها في العراق الممثلين بزعماء أحزاب سياسية قذرة وميليشيات ارهابية، ووزراء ونواب عاهرون وعاهرات بسلخ العراق عن جسد الأمة وإنهاء عروبته، فأن الدول العربية بدلا من أن تحتضن العراقيين، انجرفت مع سيول التيار الإيراني، وخدمت أجندته الخبيثة من حيث قدرت النتائج أو لم تقدِر. لقد كان موقف الدول العربية تجاه العراق هو المسمار الأخير في نعش العروبة والقومية.
لم يبقَ أمام العراقيين سواء طريق واحد وهو ( الثورة الكبرى)، انه الطريق الكفيل بتحرير الوطن المحتل من قبل الولي الفقيه في ايران والعراق، فكلاهما وجهان لعملة التومان. وتقليم براثن الذئاب الولائية المفترسة، التي لا تشبع من دماء العراقيين الأبرياء. ذيول لا مثيل لها في التأريخ. إن الاحتلال الامريكي ـ الايراني له ألف سيئة ولكن له حسنة واحدة! له ألف صورة بشعة، ولكن له صورة واحدة حسنة، فقد كشف لنا وطرح اوراق العملاء والذيول على طاولة الوطن، كشف لنا قوى الشر والظلام التي إرتمت في أحضان المحتل، وسلمته عذريتها بكل شفافية، فإنتهكها. سنأخذ من الاحتلال حسنته الوحيدة ولا نشكره عليها، لأنها مكلفة وثقيلة كثقله، لكن مع هذا فإننا نشير إليها بصراحة. الاحتلال كشف عن الوجه الأمريكي القبيح والذي لا يختلف عن تأريخه القريب المفعم بالقتل والحروب والتمييز العنصري. وكشف أيضا زيف الشعارات التي كان يرفعها لجذب شعوب العالم إلى عولمته الكاذبة. فبعد تجربة العراق المريرة خاب أمل الشعوب في الديمقراطية الأمريكية، وتحولت من أداة ترغيب إلى أداة لترهيب الشعوب. لنتذكر القول الساخر للرئيس الروسي بوتين لنظيره بوش عندما طالبه الأخير بضرورة إجراء تحولات ديمقراطية في روسيا، فأجابه متهكما: لكن ليس وفق النموذج الأمريكي في العراق"! لقد أمسى هذا النموذج البعبع الذي يرهب الشعوب ويؤرق آمالها ويخنق تطلعاتها ويعصف برخائها!
أما الولي الفقيه في ايران، فقد كان الساعد الأيمن للشيطان الأكبر، بإعتراف نجادي وخاتمي، فقد سهل غزو العراق، وأكمل تخريب ما تبقى مما يسمى بالعراق. العراق اليوم شئنا أو أبينا ولاية تابعة للخامنئي بإعتراف المسؤولين الايرانيين أنفسهم، وذيولهم في العراق، ممن يتسلم الأوامر من خارج العراق، بحجة ان العقيدة الإثنى عشرية عابرة للحدود. لا نعرف هل هناك عقيد غير هذه تجعل المذهب ـ وليس الدين ـ يسمو على الوطن؟ واين شرف المواطنة؟ الذي يبيع الوطن لا يختلف عمن يبيع شرفه، انه الزنا المقدس لا أكثر.
كل مقدرات العراق يتحكم بها اجنبيان احدهم خارج العراق وهو الخامنئي، والآخر داخل العراق وهو علي السيستاني، كلاهما فارسيان معاديان للعرب والعروبة، حتى عندما تبرع ذيول ايران بجنسية عراقية للسيستاني فإنه رفضها إعتزازا بقوميته الفارسية، وإمتهانا للعروبة والبلد الذي جعله ملياديرا بسبب ارتفاع منسوب الجهل والأمية والتخلف الديني والثقافي والاجتماعي، حتى سماحة بابا الفاتيكان ليست له سلطة سياسية خارج الفاتيكان، لكن بابا النجف وابنه يتحكمان بكل مقدرات العراق، الأغرب منه، أنهما ليس لهما أي تأثير على مقدرات بلدهم الأصلي ايران. حتى انهما لا يشاركان في الإنتخابات التي تجري داخل ايران، لكنهما يتحكمان بإنتخابات العراق وكل واردة وشاردة فيه.
نفس الأحزاب التي دعمتها مرجعية النجف منذ اول انتخابات جرت في العراق، وزكتها للشعب العراقي، وأطلقت تسمية ( أبناء المرجعية) على زعمائها، مازالوا أنفسهم يحكمون العراق، بمعنى ان الفساد الذي حلٌ في العراق منذ الغزو لحد الآن يرجع في أصله الى مرجعية النجف التي سخرها الاحتلال لخدمة أغراضه. كما ان المرجعية هي التي سوقت لفكرة نهب اموال الدولة العراقية تحت فتوى ان مال الحكومة (مجهول المصدر) مع ان المصدر معروف للداني والقاصي، إنها ثروات البلد، وهي من حق العراقيين جميعا، وليست حق لمن يسرقها. اما كيف يحل للسارق ما سرقه من اموال الحكومة، فهي مسرحية هزيلة، بأن يقوم السارق بتخميسها، اي يعطي خمس قيمة مسروقاته الى المرجعية، بربكم هل هذا دين؟ وهل هناك دين وضعي وليس سماوي فحسب يحل السرقة، ويعمل بمثل هذه الطريقة الشاذة؟
لا بديل عن الثورة العراقية الكبرى
ان الخطوة الأولى لنجاح اية ثورة في العالم، هي التوحد تحت خيمة الوطن الواحد، بغض النظر عن الدين والقومية والمذهب والجنس، لاحظ لا توجد بوتقة تجمع كل هذه الإختلاف غير الوطن! ولابد من التحرر من أغلال العبودية وإنهاء المقدس، ونقصد بذلك عبودية الشخص بغض النظر عن مكانته، لا يوجد مقدس غير الله تعالى وكتابه المبين فقط! لقد تخلص الغرب من هذه الأغلال البابوية منذ عدة قرون، ولكن مازالت قيود المرجعية تلتف حول رقابنا الرخوة، وهذا يعكس حجم الهوة بيننا وبين الغرب. الحقيقة التي لا تقبل الجدل، انه بدون شعب واعي، مثقف، متنور ومتحضر، لا يمكن ان تقوم قائمة للشعوب.
ويبقى الأمل بثوار العراق، في المرة السابقة خيبوا آمالنا مع الأسف الشديد، على الرغم من النصائح والوصايا التي قُدمت لهم كخطوات رئيسة لنجاح ثورتهم، لكنهم لم يأخذوا بها، وتشتتوا فضعفوا، وضيعوا فرصة ذهبية ربما لا تتوفر لاحقا، فقد كان الزخم الجماهيري على أشده، ولو تقدموا خطوة واحد تجاه اوكار الشيطان، ربما ما كانوا تكبدوا كل هذه الخسائر الجسيمة! وجاءت الكورونا لمصبحة الزعماء الفاسدين، فتنفسوا الصعداء على هذه النسمة القادمة اليهم من الصين.
سنجدد الأمل بالثوار، ونأمل ان يغيروا سياقات العمل، ويتعظوا من الأخطاء السابقة، ويحموا أنقسهم من الميليشيات الولائية، وان لا يثقوا بأي زعيم جاء من رحم العملية السياسية المشوهة. بعزيمة الثوار وإصرارهم على المضي قدما، واكراما لدماء الشهداء والجرحى، ستنجح الثورة بعون الله تعالى، واعلموا بأنه لا يضيح حق وراءه مطالب، إسعوا فمبارك سعيكم، العراق أمانة بأيديكم الطاهرة. قال لبيد:
وكل امرئٍ يوماً سيعلم سعيه إِذا حُصِّلت عند الإِله الحصائل
(شمس العلوم3/231)
وسوم: العدد 879