ثورتنا : ليست مشروع نقمة ولا انتقام، نقطة مفصلية في المشروع الدعوي و الوطني المستقبلي ..
ومعنى قولنا مفصلية ، أن عليها تتم المواصلة ومن أجلها تتم المفاصلة ..
وخرجت جماهير شعبنا لمنع الظلم والفساد وليس لتداول آلياته . لننبذ عن حياتنا الذين ( يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ) وليس ليحتل من يحسب نفسه على هذه الثورة مكانهم . والبشرى في مشروعنا الثوري الوطني لكل مستضعف مظلوم . والنذارة تحت قوس العدالة ، لكل مستقو ظالم .
وثورتنا مشروع عدل وبناء وليست مشروع نقمة وانتقام .
يقولون لك : الحق الكذاب وراء الباب ..
وأقول : لا تسر وراء الكذاب خطوة واحدة ...ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا .
ولم تكن دعوة قائدنا الأول دعوة نقمة ولا دعوة انتقام ..
وعلى الرغم من كل ماعاناه سيدنا وقائدنا ومعلمنا رسول الله وأصحابه في دار إقامتهم في مكة ، ثم في دار هجرتهم في المدينة ، لم يكن للانتقام من الظالمين مكان في المشروع المستقبلي لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
في أحايين قليلة غلبت فيها العاطفة البشرية على الشخصية الرسالية ، وصدرت عن الرسول البشر عبارات أو تصرفات ..ف كان التوجيه الرباني العلوي حاضرا ومصححا .
ففي يوم أحد ، يوم وجد الرسول الكريم عمه حمزة قد قُتل ، وتم التمثيل في جسده ؛ فقال : لأمثلنّ في ثلاثين منهم . فجاءه التوجيه ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ) .
ويوم حادثة بئر معونة ، حيث غدرت بعض القبائل بسبعين من خيرة أصحاب النبي ، فقتلتهم، وظل رسول الله شهرا يقنت بالدعاء على تلك القبائل بما ظلمت ، ويلعن المباشرين للقتل منهم بأسمائهم ، حتى تداركه قول الله تعالى ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) !!
لا أدري لماذا لم يعتبر الفقهاء هذا النص ، عند إقرار المنظومة الأسبوعية التي أقروها في الدعاء على الكافرين . دمر ديارهم ، نكس أعلامهم ، اجعلهم ونساءهم وأولادهم غنيمة للمسلمين !!
ربما كان الثأر ، أو حب الانتقام بعض الغريزة البشرية ، ولكن القرآن الكريم الذي شرع القصاص ندب لناس إلى الصبر والعفو ، ( وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) .
عندما كنا شبابا كان من الكتيبات الصغيرة التي عُلّمناها مرارا عديدة ، كتاب " البناء والهدم في الدعوات " وعلى الرغم مما في عنوان الكتيّب من التوازن ، إلا أن فكرة الهدم ظلت هي الراسخة ، وهي المقدمة . ولعلها للسبق الترتيبي أشغلت عن إعداد مخططات البناء الحق الذي يلي عمليات الهدم . ولعل غياب هذه المخططات ، أو ضبابيتها ، أو الاختلاف عليها ؛ كان سببا من أسباب تأخر أو تعثر عمليات التغيير .
حين تكون عملية الهدم ، أو الانتقام حتى العادل منه ، هي آخر العدد بالنسبة لبعض الناس فعلينا أن ندرك نقطة ضعفنا الأساس . والتي يقذفها بوجوهنا اليوم الكثيرون ، كلما بشرنا بمجتمع عنوانه ( لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ )
كانت الحديبية نقطة التحول الاستراتيجية المهمة في الصراع بين الإسلام والشرك . نزل الرسول صلى الله عليه وسلم حول مكة ، وكان قادرا على اجتياحها ، ولكنه لم يفعل ، لم يفعل لأنه كان صاحب مشروع ، ليس في تلافيفه كسر عظام الناس .. واستغلق فهم هذا على كثير من المسلمين . حتى على عمر التلميذ الذي ظل يتعلم الكثير من مدرسة صاحب الخلق العظيم ...
ثم كانت الجولة الثانية يوم فتح مكة ، يوم النصر العظيم ، بشعاره العظيم " اذهبوا فأنتم الطلقاء " .
إشباع غريزة " النقمة " مهما تكن استحقاقاتها ، ليست مخرجا من حالات الحرج ، والاحتقان ، والتأزم . والقيم الكبرى في فضاءات المشروعات الكبرى . وإقرار هذه الحقيقة في واقع الناس يحتاج إلى الكبار من سراة الناس . المشهد السوري اليوم يحتاج إلى كل هؤلاء ، على اختلاف بينهم ، يحملون تلك القيم ، ويبشرون بها ، ويتصدون للخارجين عليها . ليكون غدنا الأرقى والأجمل ..
كثيرون يعتقدون أن " فعل عدونا بنا تشريع لنا ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ) " وحتى هذه الآية كما يقول كثير من الفقهاء والمفسرين نسخت ، بتحريم المثلة مطلقا في شريعة المسلمين .
وما يزال بعض الناس يظن أن قوله تعالى ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ) وقوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) نص أنزل في فراغ . وأنه تشريع مطلق مفتوح بلا قيد . وهذا يخرج بالقائلين به عن دائرة الشرع والعقل وحقيقة أن القرآن يفسر بالقرآن .
لم يعذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من أصحابه من بعده ،، أحدا من المشركين ، كما عُذب ياسر وبلال ، ولم تعامل امرأة من المشركات كما عوملت سمية أول شهيدة في الإسلام . أو من عجب أن يكون أول شهيد في الإسلام امرأة . وأن أباجهل طعنها بحربة في موضع العفة منها ، على مرأى من الناس ...!!
حين نسمع اليوم على ألسنة الكثير من الذين لا يعلمون ، أغاني الموت والنقمة والثأر، بل حين نقرأ لبعض الأدعياء من المنظرين محاولات يائسة لشرعنة قيمة الثأر ببعدها المقيت ، ينبغي أن نتوقف لنتأمل ، ولنضئ بجد الشارة الحمراء . لا يمكن لنا أن نكون من هذا المشهد بمكان ، لا من قريب ولا من بعيد ، لا من أمام ولا من وراء ، ولا عن يمين ولا عن شمال ..
و هذه الثورة ثورة للحياة ، وثورة للعدل والعدل حق ، وثورة للفضل والفضل لمن سما إليه من العدل أجمل ..
وكان لأحد الرجال الكبار أرض محاددة لأرض لمعاوية ، ومعاوية يومئذ أمير المؤمنين . قالوا واعتدى غلمان رعاة لمعاوية على أرض ذلك الرجل الكبير ، فعاثوا فيها ... فكتب الرجل إلى أمير المؤمنين : إن غلمانك فعلوا بأرضي كذا وكذا ولئن لم تنههم لأفعلنّ وأفعلنّ ..
فرد عليه معاوية . وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا ابن عم ..أرضي وما عليها ومن عليها لك ، فضمها لأرضك ...
واختلف نفر من قريش ، فتحاكموا عند معاوية وهو أمير المؤمنين ، فقال : يا معشر قريش ، هل تريدون أن أفصل بينكم بالحق ، أو بما هو أجمل من الحق ؟ فقالوا : وهل هناك أجمل من الحق ؟! قال نعم : الفضل ...
نريده وطنا للعدل .. ونريد مظلة للعدل تظلل الجميع .
وأنتظر من يقول لي : ولكن ..
وسوم: العدد 880