لا يحق لمسلم أن يخضع أو يستسلم لابتزاز من يستهدفون دينه ويشنّعون عليه
يعتبر قول الله تعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )) شهادة منه سبحانه وتعالى ـ وكفى به شهيدا ـ بأن الإسلام الذي بدأ أمره مع أو نبي ،ولم ينته بآخر نبي قد أكتمل تشريعا ، فلا حلال إلا ما أحل ، ولا حرام إلا ما حرّم ، ولا تشريع فوق تشريعه ، ولا عدالة فوق عدالته ، ولا ولا ولا ... إلى آخر اللاءات الممكنة ، وكفى به دينا ارتضاه الله عز وجل للناس جميعا ، ولا يضيره ألا يرضى عنه الخلق بعد رضا الخالق جل في علاه.
ولقد كان السلف الصالح في عصور العز مرفوعة رؤوسهم بالإسلام وشامخة أنوفهم به ، لا يبالون بمن يعترضون على شيء من شرعه . ولما خلفت خلوف من بعدهم في عصور ضعف، تنازلت عن رفعة الرؤوس وشموخ الأنوف ، وصارت في موقع تقهقر ودفاع بعدما كان أسلافها في موقع إقدام وهم على يقين تام بأنهم على حق وهم يدينون بدين أكمله الله لهم، وأتم عليهم نعمته به ،ورضيه لهم .
ولقد فترت همم الخلوف بفتور اليقين بكمال الدين ،فصاروا هدفا سهلا لابتزاز من يستهدفون دينهم بالتشنيع وبالطعن والتشكيك في كماله وتمام النعمة به ورضا الخالق للخلق به ، فصاروا يختلقون له الهفوات والعثرات والنقائص ، وينسبونها إليه زورا وبهتانا والخلوف الفاترة هممها خاضعة ومستكينة لهم تدافع عن دين الكمال دفاعا دون قدره ، وبما لا يرضاه الخالق سبحانه وتعالى ، وتلتمس له أعذارا على هفوات وعثرات باطلة أصلا ومختلقة تنسب إليه زورا وبهتانا ، وهي بذلك خارج التغطية كما يقال، تخوض في الباطل المبني على باطل ، وكانت في غنى عن ذلك لو أنها تشبثت بما تشبث به سلفها من يقين بكمال دينها.
ولقد تضمن كتاب الله عز وجل نصوصا صريحا بضرورة رفع الرؤوس وشموخ الأنوف بدين الله عز وجل، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى : (( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين )) وقوله تعالى : (( من كان يريد العزة فإن العزة لله جميعا )) وقوله تعالى : (( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين )). والقول القاطع بضرورة رفع الرؤوس وشموخ الأنف بالإسلام قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم )).
إن رضا الخلوف بالدنية في دين الله عز وجل وهم يستسلمون لابتزاز المستهدفين له والمشنعين عليه زورا وبهتانا يمارسون نوعا من الردة حذر منها الله عز وجل والتي قد تأخذ شكل الذلة أمام مستهدفي دينهم ، والخوف من لومهم إن هم رفضوا هذا الاستهداف أو قاوموه ،وهو ما يحملهم على ترضيتهم راضين بالدنية وهم أهل عزة بدينهم .
ومن أشكال ترضية المستهدفين لدين الله عز وجل مجاراتهم في نسبة النقص أو العيب إلى شرعه ،وهو الذي شهد له الله عز وجل بالكمال . والمثال الشاهد على ذلك خجل الخلوف وشعورهم بالحرج الشديد حين يثار موضوع الحدود على سبيل المثال التي حدّها الله عز وجل والتي يشنعها المستهدفون لدين الله عليه ،ولا يكتفون بذلك بل يطالبون بتجريمها وإلغائها طعنا صريحا في مشروعيتها المستمدة من الخالق سبحانه وتعالى والمنزهة عن كل عيب . ولم يقتصر تشنيع المشنعين على الحدود فقط بل تعدى الأمر ذلك إلى المعاملات التي هي مما شرع الخالق سبحانه وتعالى أيضا ، فتوصف بالجور أحيانا ، كما توصف أحيانا أخرى بالتخلف وعدم مسايرة تطور الحياة البشرية ، ونذكرمنها على سبيل المثال أيضا الإرث وهو شكل من أشكال انتقال الأموال والثروات من الهالكين إلى ذويهم ممن يحق لهم وراثتهم .
ومقابل التشنيع على شرع الله عز وجل ، يلاقي ما جرّم وحرّم الله عز وجل من سلوكات ومعاملات الامتداح الكثير مع الدعاية الواسعة ، والدفاع عنها عن طريق المطالبة برفع التجريم والتحريم الإسلاميين عنها .
ومقابل تنامي تيار التشنيع على شرع الله عز وجل يزداد خفوت أصوات خلوف المسلمين المدافعة عنه و يزداد خجلهم من الدفاع ، وقد انطلت عليهم حيل المشنعين عليه ، وجعلتهم في وضعية دفاع، وهو ما يزيد التشنيع قوة وانتشارا وقبولا لدى الجاهلين بالإسلام سواء من المنتمين إليه بالاسم أو من خصومه . ولقد بلغ الأمر بضحايا هذا الاستدراج نحو الدفاع المحتشم أنهم صاروا يتنكرون لأسماء وصفات سماهم ووصفهم بها الله عز وجل من قبيل قوله تعالى : (( إنما المؤمنون إخوة )) ،وهكذا صارت صفة الأخوة حين تضاف إلى صفة الإسلام تهمة أو جرما لمجرد أن جماعة من المسلمين أطلقت الصفتين على أتباعها تصريحا بهويتهم الإسلامية ، وصار من يريد من المشنعين على الإسلام الإيقاع بأتباعه أن يصفهم بهما ،الشيء الذي يعني استباحة حريتهم واستباحة حتى أرواحهم أحيانا .
وعوض أن تتشبث الخلوف بما وصف الله عز وجل عبادة المؤمنين رافعين بذلك رؤوسهم وشامخة به أنوفهم، وذلك من عزة الإسلام، صاروا يخشون أن يصفهم المشنعون بتلك الأوصاف ، وهم بذلك يلهونهم عن استهدافهم دين الله عز وجل وتبرير التشنيع الظالم عليه .
وليس أمام هذه الخلوف المستضعفة في هذا العصر سوى نهج طريق السلف الذين كانوا معتزين بدين ارتضاه لهم خالقهم جل وعلا ، لا يضيرهم من عاداه ، ولا يرضون بالتخلي عما وصفهم به سبحانه وتعالى ، وهم معتزون بذلك كأشد ما يكون الاعتزاز، ولا يخجلون من التصريح بذلك، ولا يخافون لوم المشنعين بدينهم .
وما دامت هذه الخلوف ناكبة صراط ذلك السلف المعتز بعزة الله عز وجل ، فإنها ستواجه مع مرور الأيام ابتلاع تيار المشنعين حتى يصير من صرح بمجرد انتمائه إلى الدين الذي أكمله الله عز وجل حتى وإن كان غير ممارس لعباداته ، وغير ملتزم بمعاملاته موضوع اتهام ومتابعة ومحاكمة .
وإن تيار المشنعين بالإسلام لا يدخرون جهدا في محاولة ترجيح كفة قوانينهم الوضعية على كفة شرعه السماوي حتى لا يبقى منه شيء في حياة الناس . والوقوف في وجه هذا التيار الذي يرفع في هذا العصر شعار العلمانية والحداثة إنما يكون بصيانة الخلوف المسلمة شرع الله عز وجل بكل ما أوتوا من قوة ، وما توفر لهم من إمكانات مادية ومعنوية ، ويبدأ ذلك بالتخلص من العقدة النفسية التي خلقها في نفوسهم التشنيع على الإسلام والذي انتقل من خبث التلميح إلى وقاحة التصريح وبوتيرة غير مسبوقة .
فهل ستفيق هذه الخلوف من سباتها قريبا أم سيجعل الله عز وجل لتوكيل غيرهم بدينه أمدا ؟
وسوم: العدد 886