من المؤسف والمحزن أن ترتفع أصوات شاذة لاستبدال قيم إسلامية عليا بقيم أدنى منها وهي تتباهى بذلك راكبة غرورها
من المعلوم أن الرسالة الخاتمة المنزلة على خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، اختارت للبشرية قاطبة قيما أخلاقية في قمة السمو لتجعلها في مستوى ما أراد لها خالقها سبحانه وتعالى من تكريم وتفضيل على كثير ممن خلق إلا أن هذه البشرية وبعد مرور خمسة عشرة قرنا على هذه الرسالة الخاتمة ،طال عهدها بقيمها السامية ، فأعرضت عنها، واستبدلتها بقيم انحطت بها عن درجة التكريم والتفضيل إلى حضيض الابتذال ، والغريب أنها تسميها قيما إنسانية وتصفها بالعالمية ، وتوصي بتدويلها أو تعميمها في المعمور بل وأكثر من ذلك تحاسب من لا يلتزم بها وتعاقبه .
ولمّا كانت القيم مما ينتج عن المعتقدات والقناعات ،فإن الأمم تختلف قيمها باختلاف ذلك . ومن المفروض أن تلتقي الأمة الإسلامية عربها وعجمها في قيم واحدة لأنها تنهل من مصدر واحد هو كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم خلافا لما تنهل منه الأمم غير المسلمة إلا أن واقع الحال أن الأمة الإسلامية مع شديد الأسف والحسرة والحزن تعيش اضطرابا كبيرا في مجال اختيارالقيم ، وهي موزعة بين قيم الإسلام السامية وبين قيم غيره من الديانات والمعتقدات الأخرى وهي تحاول التوفيق بين هذه وتلك ، ولا تنجح في ذلك التوفيق الذي يصير تلفيقا مشوشا على قيم دينها ، فلا هي ملتزمة بقيمه ، ولا هي مع قيم غيره .
وأكثر القيم الغالبة في المعمور في هذا العصر القيم العلمانية المتنكرة للقيم الدينية عموما والقيم الإسلامية على وجه الخصوص ، وهي قيم تساير الاعتقاد العلماني بأن الإنسان هو سيد الكون ، وهو حر يتصرف فيه كما يشاء ، ويعتبر ذلك حقا من حقوقه ، وهو حر في ذلك ،الشيء الذي يتناقض مع الاعتقاد الإسلامي الذي يعتبر الإنسان مخلوقا لله تعالى استخلفه في الأرض وفق ضوابط وشروط ،وهو خاضع في هذه الحياة الدنيا للاختبار الذي ستليه المساءلة والمحاسبة والجزاء في حياة أخرى ، وهو تصور لا يؤمن به الاعتقاد العلماني .
وترتب عن هذا تعارض وتناقض بين القيم الإسلامية والقيم العلمانية إن صح أن نسمي هذه الأخيرة قيما ، ذلك أن القيم يشترط فيها أن تكون رافعة للإنسان لا خافضة له ، وهو ما لا يوجد في القيم العلمانية التي تبتذل كرامته وأفضليته الخلقية . وكيف ترفع القيم العلمانية الإنسان وقد أرخت العنان لغرائزه وشهواته ،الشيء الذي أخرجه عن جبلته وطبيعته التي خلقه الله تعالى عليها ،ومن تلك الغرائز على سبيل المثال لا الحصر غريزة الجنس التي استباحت بها العلمانية كرامة الإنسان ، وجعلته في مستوى واحد مع الحيوان ،وقد فضله الله تعالى عليه تفضيلا فيصرفها تصريفه عن طريق ما أصبح يسمى بمسميات تحاول إضفاء الشرعية على السلوكات الجنسية الشاذة من قبيل المثلية والرضائية وهما فاحشتان منكرتان .
وعلى غرار ما تسميه العلمانية حرية الجسد ، وهي في الحقيقة عبارة عن ابتذاله جنسيا مع أنه لا حق للإنسان في ملكية جسده لأنه ملك للخالق سبحانه وتعالى والإنسان لا يملك التصرف فيه إلا بمشيئة مالكه ، فإنها تطلق للإنسان باقي الحريات فيما يملك وفيما لا يملك ،ونتجت عن ذلك قيما شاذة خاصة بها ، وهي تعتقد أنها القيم المثلى الملزمة للبشرية قاطبة .
والأمة الإسلامية عربها وعجمها تخبط خبط عشواء أمام التناقض بين القيم الإسلامة والقيم العلمانية ، فلا هي كما يقال غراب فشل في تقليد الحجل في مشيه كما فشل في تذكر مشيه ، فلا هو غراب ولا هو حجل .
ومع أن محاولات التوفيق بين القيم الإسلامية والقيم العلمانية ضرب من الوهم ، فإن بعض المحسوبين على الإسلام ممن يعلنون إسلامهم وعلمانيتهم في نفس الوقت يزعمون أن ذلك ممكنا ، وهو ما لا يتحقق حتى يلج الجمل في سم الخياط . ولو كان هذا التوفيق ممكنا لما بعث الله عز وجل الرسل بقيم اختارها هو سبحانه وتعالى للناس ، وختم الرسالات بالرسالة الخاتمة التي أكدت قيم الرسالات السابقة وأكملتها . وما جدوى دعوة رسالات الإسلام المتتالية إذا كان بإمكان البشر أن يختاروا ما شاءوا لأنفسهم من قيم ؟ وهل تبقى قيم فوق أخرى إذا ما تساوى الذي هو خير بالذي هو أدنى ؟
ومن أغرب ما سمعت من العلماني المدعو أحمد عصيد، وهو من أشد المتعصبين للعلمانية في بلادنا أنه في إحدى تسجيلاته أدان بشدة ما سماه انحدار القيم في المجتمع المغربي المسلم بناء على ما سماه دراسات صنفت المغاربة كشعب حاز الرتبة الأولي في الغش وتضييع الأمانة ... إلى غير ذلك من النعوت القدحية التي تحط من شأنه ولا تراعي فيه إلا ولا ذمة . والدراسات التي اعتمدها هي من إنتاج مجتمعات علمانية تنصب نفسها وصية على البشرية، ترفعها وتخفضها كما يملي عليها ذلك هواها ، وتعتبر قيمها وبمنتهى الغرور هي المعيار والمقياس ذلك أنه ما وافقها رضيته وما خالفها رفضته وأدانته دون أن يخطر لأصحابها على بال أن قيمهم ككل القيم ينسحب عليها ما تحاكمون به قيم غيرهم .
والمثير للسخرية في حديث عصيد مع محاوره أنه ذكر قيما كانت سائدة في المغرب خلال الستينات والسبعينات وهو من جيل هذه الفترة ، ويثني عليها علما بأنها كانت قيما إسلامية إنما أفسدتها الدعاية العلمانية لقيمها والتي يعتبر هو أحد أبواقها لا تفوته فرصة فيما يكتب أو يصرح دون الانتصار لقيم العلمانية على حساب القيم الإسلامية ، ويصدق عليه وصف من وصفه بممارس السفسطة الذي يثبت الشيء ونقيضه في نفس الوقت .
والذي غاب عن عصيد أو حاول تجاهله أن القيم الإسلامية تعتبر واجبات دينية فرضها الخالق سبحانه وتعالى ،فرعاية الأمانة على سبيل المثال والتي زعمت الدراسات التي اعتمدها أن المغاربة هم أول شعب في خيانتها عالميا تعتبر واجبا دينيا قبل أن تكون واجبا أخلاقيا ذلك أن الديني والأخلاقي في الإسلام متلازمان لا ينفك الواحد عن الآخر كما هو الشأن في العلمانية .
إنه لا يقبل من عصيد التباكي على قيم هي قيم إسلامية كانت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي بل وكانت في كل القرون السابقة، لأن الخير لا ينقطع من الأمة الإسلامية، ذلك أنه إذا انحرف بعضها عن تلك القيم لم ينحرف جلها، وهو ما حصل بالفعل عبر كل العصور منذ البعثة النبوية ، فحتى في عصر النبوة كان من الأفراد من ينحرفون عن قيم الإسلام وعلى رأسهم المنافقون الذين كانوا يظهرون ما لا يبطنون، وهم موجودون في كل عصر، لأن من يقر بالإسلام بقوله ولا يخضع لشرعه بفعله يسلك مع هؤلاء بحكم فعله لا بحكم قوله .
والواقع أن الكثير من أفراد المجتمعات العلمانية اعتنقوا الإسلام، وما حملهم على اعتناقه إلا سمو قيمه ولكن بعضهم يصاب بخيبة أمل حين يرون المسلمين الذي ورثوا الإسلام عن أجدادهم وآبائهم يخلطون بين تلك القيم الألهية وقيم بشرية . وكيف يستسيغ فار من قيم العلمانية المنحطة إلى قيم الإسلام السامية وهو يرى من يخلط بينهما من المسلمين خلطا عابثا يخرجهم من إطار قيم الإسلام إلى إطار قيم منافية لها .
وإن عصيد وأمثاله من أبواق العلمانية في بلادنا والبلاد العربية الإسلامية الأخرى يتحملون مسؤولية ضياع القيم الإسلامية السامية ،وهم يروجون لقيم العلمانية ،ويستميتون في ذلك، ويتعصبون لقيمهم كتعصب أصحاب القيم الجاهلية زمن البعثة النبوية .
وإذا كانت عودة القيم الإسلامية وعدا وعد به الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل وجاء الوعد به في سنة سيد المرسلين أيضا ، فلا مستقبل للقيم العلمانية في البلاد الإسلامية وقد عافها كثير من أهل البلاد العلمانية ، وأثبتت إفلاسها على أرض الواقع ، و فشلها في إعادة الإنسان إلى مرتبة التكريم والتفضيل الإلهيين ومهمة الاستخلاف المسدد والموفق في الأرض .
وسوم: العدد 889