طلال أبو غزالة وحقوق الملكية الفكرية
في الثالث من آب/ أغسطس 2020، ألقى رجل الأعمال والمنظر الاستراتيجي الأستاذ طلال أبو غزالة، المختص بالصراع الأمريكي- الصيني، محاضرة في قناة RT الروسية بالعربية، وبالاشتراك مع قناة NBN اللبنانية، حول حقوق الملكية الفكرية.
موضوع حقوق الملكية الفكرية شكل منذ عشرات السنين اختصاصاً لرجل الأعمال طلال أبو غزالة. وقد أسهم على مستوى عالمي، كما قال، في عدة ندوات ومفاوضات دولية بخصوص صوْغ بعض الاتفاقات الدولية حول حقوق الملكية الفكرية. واشتهر على المستوى العربي بأنه من بين الداعين الأوائل لاتفاقات حقوق الملكية الفكرية في البلاد العربية.
وفي هذه المحاضرة الأخيرة شرح أهمية اتفاقات حقوق الملكية الفكرية، وما راحت تطالب به أمريكا من اتفاقات جديدة. أما من الجهة الأخرى، فلم يتوقف عند أي من الموضوعات التي وجهت نقداً جاداً لجوهر نظرية حقوق الملكية الفكرية، ومن زوايا متعددة أقلها ثلاث رئيسة:
أولاها تدين اتفاقات حقوق الملكية الفكرية بممارسة الاحتكار العالمي والمحلي بأبشع صوره، وذلك حين تسمح بتحويل براءة الاختراع إلى منتج لا يجوز لأحد في العالم أن ينتجه، بل على العالم كله أن يشتريه بالسعر الذي يحدده الاحتكار الذي تشرعنه وتحميه اتفاقات حقوق الملكية الفكرية ولمدى عشرين عاماً.
وثانيها إعاقة تقدم كل الدول الأخرى، وحتى الأطراف المنافسة داخل البلد الواحد، من التقدم، أي الوصول إلى المستوى الذي بلغته براءة الاختراع، فتقلده أو تتقدم بمستواها الاقتصادي والعلمي إلى مستواه. ولكن الإعاقة الأشد من ناحية التقدم والتحديث فتقع ضحيتها، عموماً، دول العالم الثالث، أو الدول النامية.
فالحجة الأثيرة تدافع عن حقوق الملكية الفكرية باعتبارها حافزاً مهماً جداً لبذل الجهود والأموال من أجل "اختراع" مجزٍ من خلال تحويله إلى احتكار عالمي، ولكن مع إبراز ما يؤدي إليه من التقدم والتطور الإنساني على نطاق واسع. طبعاً هذا صحيح بالنسبة إلى الدول الكبرى والأكثر تقدماً، ولكنه عائق بالنسبة لغالبية دول العالم المحرومة، بسبب الاستغلال التاريخي لها، من دفع الثمن المطلوب، أو من امتلاك الإمكانات والقدرات إياها. فالعالم ليس حلبة سباق عادلة.
فلهذا كانت أمريكا الدولة رقم واحد في الدفع باتجاه اتفاقات حقوق الملكية الفكرية، تليها الدول الأوروبية المتقدمة، أصلاً، من خلال تاريخ طويل من استعمار الشعوب ونهبها.
وثالثها البعد الإجرامي المتولّد عن حقوق الملكية الفكرية، وذلك كما يظهر في قضايا براءات الاختراع المتعلقة بالدواء مثلاً، وذلك حينما تعطى براءة اختراع لدواء يعالج مرضاً فتاكاً بحياة الإنسان عموماً، ووضعه كاحتكار "مطلق" بيد الشركة مالكة البراءة.
فعلى سبيل المثال، اخترع دواء يعالج المرأة المصابة بمرض "الإيدز" (سيدا) من أن تنقله إلى طفلها الحاملة به، فلا يولد مصاباً بالداء اللعين. وقيل إن ثمن هذا الدواء كما فرضته شركة الدواء صاحبة البراءة أكثر من ألف دولار، وهو مبلغ لا تستطيع مئات الألوف من النساء في أفريقيا أو في البلدان الفقيرة، عموماً، تحمله. وقد منعت كل من جنوب أفريقيا والهند أن تنتجا "جينيريك" (تقليد أو بديل) له، بسعر لا يتعدى الثلاثين دولاراً. وجاء المنع بسبب اتفاقات حقوق الملكية الفكرية، التي تعطي للشركة صاحبة البراءة حقاً في احتكاره لمدى عشرين عاماً، الأمر الذي تسبب، ويتسبب، عملياً بولادة عشرات أو مئات الآلاف من الأطفال مصابين بمرض الإيدز، وكل هذا بفضل هذه الاتفاقات التي ارتكبت هذه الجريمة الشنعاء (إبادة بشرية).
هذا الذي حدث مع هذا الدواء حدث ويحدث مثله، وعلى تفاوت، بالنسبة لعشرات البراءات، في مجالات الأرصاد الجوية والطب والصحة العامة والأوبئة. ولهذا عندما يُعتبر أن ثمة بُعداً إجرامياً خطيراً بحق الانسانية تتضمنه اتفاقات حقوق الملكية الفكرية، فلا تُتهم بما هو ليس فيها من أبعاد إجرامية.
ثمة حجة تقول إن من حق الشركات وسواها أن تعوّض ما وضعته من تكلفة وتجني أرباحاً مجزية. ولكن بأي منطق يسوّغ الاحتكار "المطلق"، ولمدى عشرين عاماً؟ الأمر الذي يستوجب إقامة نظام اقتصادي عالمي عادل، كما أنظمة عادلة وأخلاقية لحقوق الملكية الفكرية.
وقد يحدث هذا اليوم أمام أعيننا إذا استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية بالذات أن تحوز على السبق باكتشاف اللقاح الفعال في مكافحة كورونا (كوفيد 19). فإن البُعدين الإحتكاري والإجرامي سينكشفان في أبشع صورهما بالنسبة إلى التعامل مع حقوق الملكية الفكرية؛ لأنها ستعمد إلى احتكار الدواء، بما في ذلك تحديد أسعاره، وتحديد الدول التي ستعطى الأولوية في إيصاله لها.
لقد درجت الرأسمالية العالمية الإمبريالية على السعي لجني أقصى الأرباح، سواء أكان ذلك من خلال القوة والاحتلال والبلطجة العالمية (النظامان العالميان الاستعماري والإمبريالي) أو من خلال الهيمنة والعقوبات. هذا وتفاقم الوضع أكثر خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، مع انضمام الاتفاقات العالمية للتجارة الدولية (العولمة) لها. فقد ازداد التوسع والتشدد في اتفاقيات حقوق الملكية الفكرية التي وُجِدت لتجعل الأغنياء يزيدون غنى، والمتقدمين يحتكرون التقدم، فيما تجعل الفقراء يزيدون فقراً، "والمتخلفون" علمياً وتقنياً واقتصادياً يزيدون تخلفاً.
على أن عدداً من الدول الناشئة "الكبرى"، مثل الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وروسيا (بعد انهيار الاتحاد السوفييتي)، دخلت المنافسة، ولأسباب خارجة على ما رمت إليه كل من اتفاقات التجارة العالمية (العولمة) وحقوق الملكية الفكرية، راحت تركب، ولا سيما الصين، هذين الحصانين وتقلب السحر على الساحر، في الإفادة من تلك الاتفاقات.
وهذا دفع الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة دونالد ترامب إلى العودة إلى الحمايات، مخترقة اتفاقات التجارة العالمية، كما العودة إلى اختراق اتفاقات حقوق الملكية الفكرية من خلال المطالبة، بلا وجه حق، بإجراء اتفاقات جديدة، ويكون لها صفة النفاذ الراجع إلى مراحل سابقة. وبهذا يفرض على الصين تعويضات تبلغ عشرات التريليونات أو أكثر، وذلك بعدم إعطاء براءة لاختراع بني على اختراع سابق، ولو توفرت فيه كل الشروط التي اقتضتها اتفاقات حقوق الملكية الفكرية السارية المفعول، بالرغم مما حملته من غبن، كما أشير أعلاه، أفادت منه الولايات المتحدة حتى الحدود القصوى.
ماذا يحدث لو أن ما تطالب أمريكا به الآن من تعديل في اتفاقات حقوق الملكية الفكرية، لتفرض على الصين ودول أخرى تعويضات تصل إلى آلاف المليارات، امتد تطبيقه للعودة إلى ما بنته من تقدم صناعي سبقتها إليه بريطانيا وأوروبا؟ ستُفرض عليها تعويضات مماثلة. فكل ما حدث من تطور علمي وتكنولوجي وصناعي في التاريخ، جرى بالتراكم والتقليد، وقد حدث بلا معوقات اتفاقات حقوق الملكية الفكرية.
حقاً إنه لجميل أن تتحول إلى مسرحية هزلية كيف أصبحت أمريكا اليوم تصرخ مما فرضته من قوانين للعولمة ولحقوق الملكية الفكرية، فيما تتمسك بها الصين وتدافع عنها.
طبعاً إنه لجميل أيضاً، أن نرى الرأسمالية الأمريكية- الأوروبية تذوق من بعض المر الذي طالما جرعته للشعوب الأخرى.
وسوم: العدد 889