في " الوطنلوية "
في مطلع ثمانينات القرن الماضي أتيح لي أن أزور الفريق " أمين الحافظ " مع مجموعة من السوريين ، كان بي شغف لألتقي به ، فقط لأسمع منه كيف أسلموا رقاب مجتمعنا لهؤلاء الذين ما زالوا يفظّعون ويفعلون بنا الأفاعيل !!!.. جلسنا في مجلسه نستمع إليه كتلاميذ ، لمدة ثلاث ساعات ، نتدخل بين الفينة والفينة بسؤال من كلمات طلبا للتوضيح : كيف ؟! وهو يتكلم ويتكلم ويتكلم بطريقته المعهودة . وربما استمع إلى منطقه بعضكم يوم قدم حلقات : شاهد العصر . لأختصر عليكم الحديث لم أسمع في حديثه إلى أي جواب مقنع ، أو كلام يستقيم مع مقتضيات : العقل والسياسة والوطنية الحقة ..
قضيت عمرا من قبل ، وكلما التقيت مع إخوة لنا عرب أو مسلمين أشرح وقع المأساة ، هذا قبل 2011 . . كل البعيدين عن المشهد السوري بعد أن يعرفوا الخارطة الديموغرافية للشعب السوري ، تتحول نظرة التعاطف عندهم إلى نظرة إشفاق ، أستحيي أن أسميها نظرة ازدراء . شيخ سياسي ثمانيني عربي قال : ظنناكم أقلية في الشام جئتمونا تطلبون النصرة لننصركم ، وأما والأمر كما ذكرت فإنكم تستحقون ما يجري عليكم . وحالتكم ليس لها سابقة ، لا في عالم الاجتماع ، ولا في عالم السياسة..
المنطق " الوطني - الغوغائي " الذي كان يحدثنا به الفريق " أمين الحافظ " ما زال سائدا مع الأسف عند السواد العام من النخب السورية المسيطرة ثقافيا وفكريا . وما زال البعض يحمل علينا سوط الإرهاب " الوطنلوي " والذي يعني أن الوطنية تعني أن تكون تحت نير كل الأقليات وأن تخشع في كل المذابح .. وأن تنحني حتى يكون ظهرك مع جذعك زاوية قائمة ، أمام كل القامات الوطنية من الهويات الأرفع ، وإلا فأنت رجعي طائفي متعصب عديم الوطنية ..
لتكون وطنيا يجب أن تعلي كل الهويات الفرعية إلا هويتك ، وأن ترفع باحترام كل الأجندات . ويجب تنسى حليب أمك التي أرضعتك .. وأن تتسامح في كل شيء ربك ودينك ولغتك وبعد أن غيروا اسم البلد سيشترطون علينا في اسم الولد .. وإن غدا لناظره قريب .
ومجرد أن تقول تعالوا يا قوم إلى الكلمة السواء والمجتمع السواء ، فأنت طائفي زنيم وأنت عدو الوطن والوطنية .. ويتربصون بنا عن يمين وشمال وكم فينا من سماعين لهم . وإن يقولوا تعجبهم أقوالهم ، وما زالوا يتحفوننا بها ساعة بعد ساعة .
يشترط عليك الوطنليون أن تقر بطريقة صريحة أو مبطنة بقانون الامتيازات ، ورحم الله السلطان سليمان القانوني فقد كان أول من أقر قانون الامتيازات .. القانون الذي كان يعني بعض التسهيلات الاقتصادية للفرنساويين وأصبح يعني " امتياز الأقلية على الأكثرية "
في سوريتنا الحاضرة امتلكت كل الأقليات على كل الخلفيات ، امتيازاتها على الأكثرية في كل شيء ، في كل شيء ، في كل شيء .. ولو شئتم لعددت. لا أنسى أنني يوم تخرجت من الجامعة وكنت الأول على دفعتي ، واغتصب مقعدي في البعثة الجامعية ابن أقلية ناجح بدرجة مشحوط . كانت كل مؤهلاته انه ابن أقلية !!!
نعرف حقوقنا . ونعرف لماذا ثار شعبنا ، ولن نقبل أن نخدع من جديد ، ولن تضيع دماء الشهداء هدرا لا نريد ظلما لأحد وننادي بالعدل للجميع ومستعدون لنحتكم مع الجميع إلى قواعد الحق والعدل والصدق ..
ولمعرفة ماذا كان وكيف كان فنحن مستعدون للاحتكام إلى الإحصاء فالأرقام شفافة وليست تكذب ولا تحابي . وعلى قاعدة النسبة والتناسب ظلت أكثريتنا في وطننا الأوفر حظا في الظلم في القتل والسجن والمصادرة . وعلى القاعدة نفسها ظلت أكثريتنا في وطننا الأقل حظا في السلطة والفرصة والثروة .
وحين يتحدث المتحدثون عن مجتمع مدني موحد فعلى أصحاب الأجندات الوطنلوية أن يبلعوا أجنداتهم . ونحن أول من يدعو إلى المجتمع المدني الموحد وإلى صندوق الاقتراع الوطني والمدني . وعلى الذين يقبلون به أن يكفوا عن الازدواج . وأن لا يقولوا مجتمع مدني موحد ثم يتحدثون عن أكثرية وأقلية . وأن يقولوا مجتمع مدني موحد ثم يطالبوا بكوتا ، وأن يقولوا مجتمع مدني موحد ثم يطالبوا بمواد فوق دستورية، فصندوق الاقتراع إما أن يكون وطنيا مدنيا . أو تُفرض عليه شروط ، فإذا فرضت عليه شروط ؛ فأول الشروط هي شروط الأكثرين الذين استبيحت دماؤهم وأعراضهم وأموالهم على مدى أكثر من نصف قرن ..
أسوأ ما في الأمر أن محامي الدفاع عن هؤلاء الوطنلويين هم تلاميذ صغار في مدرسة الفريق الركن " أمين الحافظ " دعاء ورغاء ومكاء وتصدية ..
وما نزل سوط الظلم على ظهر سوري إلا كان على غوغاء الوطنلوية من وزره نصيب.
وسوم: العدد 889