كوارث في ميدان التربية
التعليم الذي يتنكّر لعقيدة الأمّة وقيمها لا تجني منه الأمة إلا السراب والخراب، هذا ما يؤكده الواقع في الجزائر، كل بلداننا الإسلامية، وما يحدث في هذه الأيام في أوطاننا أوضح برهان على أهمية تكريس التربية الدينية المتوازنة الصحيحة الوسطية في منظوماتنا التعليمية، فمن دونها تضيع الأجيال وتصبح عامل هدم لا عامل بناء.
التعليم الذي يتنكّر لعقيدة الأمّة وقيمها لا تجني منه الأمّة إلا السراب والخراب
والمقالة التي بين أيدينا تناقش هذا الموضوع بما يقنع من البيان والبرهان
الأخلاق روح التّعليم وسرّ نجاعته.
إنّ الأهم من المعارف والمعلومات في العملية التّعليمية هي روح التّعليم ، ونقصد بها التّهذيب والتّربية على الأخلاق والفضائل بمفهومها الشّامل، فلا يكفي في إعداد الجيل أن نشحن ذهنه بالمعلومات وندرّبه على التّقنيات، مهما كانت كثيرة ، دقيقة ، وحديثة ، إنّ ذلك وحده لا يجعل منه فردا صالحا نافعا لمجتمعه ما لم تغرس فيه الأخلاق والقيم والفضائل التي تجعله يُسخِّر تلك المعارف لخدمة مجتمعه وبلده وأمّته ، فالمهندس البارع من دون أخلاق يسبب الكوارث لاقتصاد بلده بالغشّ والنّهب والتّهاون في أداء الواجب المهني، والقاضي من غير أخلاق يكون اخطر شخص على العدالة التي يُمثّلها، لأنّه يتقن التّحايل على القانون فيتحوّل إلى آلة طيّعة في يد الرّاشين من أصحاب الجرائم والمظالم، والمسئول في أيِّ مستوى من مستويات المسؤولية من غير أخلاق وبالٌ وخبالٌ على مصالح الأمّة، لأنّه يتحوّل إلى لصٍّ محميٍّ بالقانون يصبُّ ريوع الشعب في أرصدته البنكية بالخارج، ويخون بلده وشعبه مقابل المال والامتيازات، واهون كارثة يسبِّبها من تعلَّم ولم يتربَّ انَّه يبيع بلده بأدنى امتياز يُغرِي به الخارج، وبذلك يحرم بلده من خبرته وتضيع الجهود والأموال التي كُرِّست من اجله ليحصل على تلك الشهادة والخبرة، وواقعنا اليوم زاخر بالأمثلة الحيّة على ما أقول، حيث تفشى الفساد من اختلاس ورشوة وغش واحتيال في أجهزة الدّولة الإدارية والسياسية والاقتصادية، وانتشرت الجريمة والرذيلة في المجتمع، وطمَّت ظاهرة هجرة الأدمغة وحتى الذيول، فأين الأثر التربوي لمدرسة الاستقلال واغلب هؤلاء المفسدين تخرَّجوا منها؟ الحقيقة أنها علَّمت ولم تربِّ، بل ربَّت تربية تغريبية عكسية أبعدت الجيل عن عقيدته وقيمه المحصِّنة وتركته حائرا ضائعا مهملا.
تصوَّروا كم الإمكانيات المادية والبشرية التي كانت توفر لولا هذا التّسيب الأخلاقي، تخيّلوا مقدار الخطوات التي كانت تخطوها البلاد نحو التقدم والحضارة لولا هذا الحطام البشري المعرق..
إنّ القيم الكريمة والأخلاق الحميدة هي التي تُسعد المجتمعات وترفع الأمم وتبعث الحضارات وكل حضارة تغيب القيم الخلقية منها تنهار حتما، وإذا كانت منهارة فلن تنهض أبدا قال تعالى: {وإذا أردنا أن نُهلك قرية أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القول فدمَّرناها تدميرا} الإسراء 16
وقال الشاعر:
إنَّما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت … فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
العقيدة الإسلامية منبع الأخلاق
والمصدر الوحيد للفضائل والأخلاق هو الدين الصّحيح، هو العقيدة الرّاسخة والإيمان الصّادق، فبقدر رسوخ العقيدة في الأفراد والأمم ترسخ الفضائل والقيم التي تعدُّ ركائز النُّهوض الحضاري والسَّعادة في المجتمعات، كالتّعاون، والتّسامح، والتّكافل، وإتقان العمل، والحرص على العلم واستخدامه في صالح الأمة، والتّضحية من اجل الوطن، والصّبر عند الأزمات والشدائد، والقناعة، وأداء الأمانة، والوفاء بالالتزامات …. الخ
وهذه الحقيقة يقرِّرها أولو الألباب في كلّ الديانات والأمم واليك بعض أقوالهم:
يقول الفيلسوف الألماني فيختة: “الأخلاق من غير دين عبث”
ويقول القاضي البريطاني ديننج: “بدون دين لا يمكن أن يكون هناك أخلاق، وبدون أخلاق لا يمكن أن يكون هناك قانون” وقد توصل هذا القاضي إلى هذا التقرير بعد أن عالج ملف قضية فساد تورط فيها احد الوزراء في بريطانيا.
ويقول الزعيم الهندي غاندي: “إنّ الدين ومكارم الأخلاق هما شيء واحد لا يقبلان الانفصال ولا يفترق بعضهما عن بعض، فهما وحدة لا تتجزأ، إن الدين كالرّوح للأخلاق، والأخلاق كالجوارح للرّوح، وبعبارة أخرى إن الدين يغذِّي الأخلاق وينمِّيها وينعشها كما أنَّ الماء يغذِّي الزَّرع وينمِّيه”
( الأقوال مأخوذة من كتاب الإيمان والحياة)
إن هذه الأقوال صحيحة تماما وهي تصدق أكثر على الإسلام، فخلاصة الرّسالات السّماوية قبل أن تُحرّف، ورسالة الإسلام المحفوظة من التّحريف هي الدّعوة إلى الأخلاق الفاضلة بشمولها.
مع الله سبحانه:
بالاعتراف بوجوده ووحدانيته وعبادته وذكره وشكره وتقديره والحياء منه ومراقبته في السر والعلن، وهذا يؤدي إلى رقابة ذاتية على السلوك نابعة من الشعور بالرّقابة الإلهية، فالتّخلق ثمرة التّحقق كما يقرر علماء السلوك عندنا.
مع النّاس:
بحسن المعاملة، والصدق، والرّحمة، والتّواضع، والتّعاون، والتّكافل، والتّسامح، والوفاء، والإيثار …… الخ
مع النّفس:
بتزكيتها وتعويدها على المكارم كالسّماحة، والعفّة، والقناعة، والصّبر، والكرم، والحلم، والعزّة، والتّرفع عن الشّهوات، وتجنّب الشّرور كالحقد، والحسد، والجشع ، والطمع، والعنصرية، والأنانية، والرّذيلة، والاختلاس، والغش …….الخ
مع الكون والمحيط:
بالتّأمّل في مخلوقاته وسننه والاستفادة منها، وتعمير الأرض واستغلال مواردها من غير إسراف ولا إفساد، والحفاظ على البيئة وعدم تلويثها، تصوّروا انّه يُمنع في الإسلام قضاء الحاجة تحت شجرة مثمرة أو غير مثمرة، ويُمنع قتل الحيوانات وحتّى الحشرات لغير حاجة أو ضرورة، فتعذيب الحيوان يُدخل الناّر، والإحسان إليه يُدخل الجنّة، والتّشجير عبادة.. صدقة جارية.. وإماطة الأذى عن الطريق من الإيمان والصّدقة….. الخ
فالإسلام بتعاليمه منظومة أخلاقية كاملة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إنّما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق”
والمتدبّر للقرآن الكريم والسّنة النّبوية يلاحظ بوضوح ذلك الرّبط المقصود بين العقيدة والسلوك ، بين الإيمان والعمل، بين العبادات والأخلاق.
فالعقيدة الإسلامية مُحفِّز قوي على التّحلي بالفضائل والتّخلي عن الرّذائل ، بما تضمّنته من ترغيب في الجزاء وترهيب من العقاب في اليوم الآخر، وحتّى في الدنيا فما هو من الظالمين ببعيد، لذلك لو كانت الدولة حريصة حقا على مصالح ومستقبل الشعب والأمة لعملت على غرس العقيدة الإسلامية الصّحيحة وقيمها النّبيلة في أجيالها بالتعليم والإعلام وكل الوسائل التثقيفية المتوفرة، خاصّة مع تحديّات العولمة التي يستخدمها الإستدمار الغربي وسيلة لفرض الهيمنة الأبدية على الأمم والشعوب بتذويب هويتها وخصوصياتها، وجعلها أسواقا استهلاكية شرهة لمنتوجاته، ومنجما للأيدي العاملة والمواد الأولية الرّخيصة لمصانعه، والأمّة الإسلامية أكثر الأمم استهدافا من طرفه بسبب الدين والثروات ونسبة الشباب المرتفعة فيها.
وقد بدأت -للأسف- آثار هذا الاستهداف تظهر في مجتمعنا بتفسُّخ الأخلاق والانسلاخ من الدين، واستفحال النّعرات العرقية، والفوضى الاجتماعية، وما لم يرجع الاعتبار لعقيدتنا وقيمنا في المنظومة التربوية والإعلامية بصورة جدِّية وشاملة فإننا لا شك مقبلون على كوارث إنسانية وأخلاقية وأمنية واقتصادية قد تؤدِّي إلى ضياع الاستقلال من جديد والى الأبد هذه المرة.
قال تعالى: {وضربَ الله مثلا قريةً كانت آمنةً مطمئنَّةً يأتيها رزقُها رَغَدا من كلِّ مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباسَ الجوع ِوالخوفِ بما كانوا يصنعون} النحل112
وقال الشاعر
وابْقِ المدارسَ للعروبةِ والهُدَى … لا يدفعنَّكَ زائغٌ لتباَبِ
وجْهُ الحضارةِ في العقيدةِ بيِّنٌ … كالكفِّ يزْهُو حُمرةً بخِضابِ
إسلامُنا سمَّى العلومَ عبادة ً… يُرجى عناءُ جهودِها لثوابِ
كم آيةٍ دعتِ العقولَ لفكرةٍ … أو نظرةٍ في كوكبٍ وسحابِ
قال اطلبوا نفعَ المُسخَّرِ دائما … فالكونُ دوماً قبلةٌ لطلابِ
دون العقيدة في المدارس لن ترى … إلا شبابا تافها كذبابِ
يُقتادُ من أمعائه لخيانة ٍ… ودياثةٍ ونذالةٍ ونهابِ
كم عالِمٍ متخرِّجٍ من معهدٍ … باع البلادَ بأكلةٍ وثيابِ
عيرُ الهوى لا يصلحون لعزَّةٍ … أو وقفةٍ تُرجى ليوم صعابِ
خاتمة:
إنّ المتأمل في واقعنا الأخلاقي المتردّي اليوم ليدرك مدى فداحة الأخطاء (إن لم نقل شناعة الجرائم) التي ارتكبها ويرتكبها:
الذين همّشوا ويهمّشون الإسلام عن توجيه الأمّة
الذين ضيّقوا ويضيّقون عليه في مؤسسات التّعليم والإعلام والثّقافة
الذين غرّبوا التّعليم في برامجه ومناهجه فابعدوا الأجيال عن حضن العقيدة الإسلامية وحصنها وتركوها فريسة للخراب والذئاب والعذاب.
إنّ الشباب الحائر اليوم الذي ضيّع طريقه في الحياة ، وانبَتَّ في متاهات الجريمة والرَّذيلة والهوان والمخدّرات والطيش لهو ضحيّة السّياسة التّربوية التّغريبية الارتجالية العشوائية التي سُلطت عليه منذ الاستقلال إلى اليوم.
لقد كنَّا نسمع ونحن صبية في المدرسة عبارة يردِّدها المناوئون للتّوجه العربي الإسلامي للتّعليم وهي ( إذا عُرِّبتْ خُرِّبتْ) وهانحن اليوم نشهد وحقائق الواقع تؤكد أنَّها ( ماخُرِّبتْ إلاّ لأنَّها غُرِّبتْ).
قال عز وجل: {قالَ اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعضٍ عدو، فإمَّا يأتينَّكم منِّي هدى فمن اتَّبعَ هداي فلا يضلُّ ولا يشقى، ومن أعرضَ عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى، قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتُنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى} طه 123-126
وسوم: العدد 893