حين أطلق ماكرون النار على قدميه
في 16 أكتوبر المنصرم قُتل مدرس التاريخ صامويل باتي في باريس، بعد أن عرض على طلابه رسوم كاريكاتيرية تستهزء بنبي الإسلام. وفي 29 من الشهر نفسه، قُتل ثلاثة أشخاص قرب كنيسة نوتردام في مدينة نيس الفرنسية، كما أوقف رجل يحمل سكينا في مدينة ليون شرق فرنسا. وفي جدة السعودية هاجم مواطن حارس أمن القنصلية الفرنسية بآلة حادة، فيما عمّت التظاهرات العالم الإسلامي، تنديدا بالرئيس الفرنسي ومترافقة مع حملة لمقاطعة البضائع الفرنسية، بعد أن وصف الإسلام بأنه يعيش أزمة في كل العالم.
في أعقاب هذه التطورات اضطرت السلطات لتعزيز القوى الشرطية من ثلاثة آلاف إلى سبعة آلاف لحماية المدارس والمؤسسات الحكومية ومحطات النقل، كما رُفع مستوى الحذر في البعثات الدبلوماسية الفرنسية والمراكز الثقافية في الخارج. وهذه كلها كلف آنية منظورة، لمعركة اختارها الرئيس الفرنسي، ضد جزء من شعبه يشكلون حوالي 6 ملايين مواطن مسلم، ونسبة 10% من قاعدته الانتخابية التي أوصلته الى سدة الرئاسة، بعد أن وجدوا برنامجه السياسي خير كابح لتخرصات اليمين المتطرف، الذي تمثله مارلين لوبان التي نافسته على المنصب.
ورغم أن الأحداث التي حصلت لا يقرها الشرع، ولا تتبناها القيم الإسلامية ويدينها كل من له عقل وضمير، فإن من يتحمل مسؤوليتها هو الرئيس الفرنسي على وجه التحديد، بعد أن أطلق النار على قدميه بتصريحه أن الاسلام يعيش في أزمة. ففي الوقت الذي يُركز فيه على القيم الفرنسية ويقول إنه يحمل راية العلمانية، التي لا تبيح له التدخل في شؤون الأديان، يأتي ليُنصّب نفسه قيّما على الإسلام ومطلقا أحكاما ليست من اختصاصه، ومُجنّدا نفسه وطاقمه الحكومي تحت راية العداء لهذا الدين. وهذه كلها تتعارض تماما مع النظام المدني العام الفرنسي، الذي يقوم على مبدأ الفصل بين السلطة والدين، الذي أقره قانون العلمانية عام 1905، بل إنه أوغل في هذا الخرق القانوني عندما أصر على تكرار نشر الصور المسيئة للنبي، التي تم وضعها على المدارس والبنايات الحكومية، ما يدلل على تبنيه التام لهذه الإساءة، ففتح الأبواب لطاقمه الحكومي واليمين المتطرف الفرنسي للخوض في هذا الوحل السياسي اللاأخلاقي. فانطلقت الأبواق الشعبوية المسعورة لتتسيد الإعلام الفرنسي في حوارات طويلة ساخرة من الأزياء الدينية، ومستهجنة وجود أطعمة حلال في الأسواق، وكأنها اكتشافات جديدة ظهرت حديثا في الحياة الفرنسية.
كما شرعت الحكومة بالمقاربة الأمنية، غير آبهة بأنها أسوأ الحلول الممكنة، لأنها تؤجج الصراعات المحلية وتشحن النفوس، وتعطي شعورا بأن هنالك طرفا واحدا هو من يدفع الثمن في المجتمع الفرنسي دون الاطراف الاخرى. رافقتها لغة سياسية حكومية، تضج بكل معاني الاستفزاز والتعالي والانتقاص من عبارات مثل (الفاشية الاسلامية والإرهاب الإسلامي) بينما لم تكن هذه العبارات متداولة في وصف الحوادث التي وقعت في فرنسا في السنوات الماضية، حيث كان الوصف لها آنذاك بأنها حوادث قام بها إرهابيون.
يقينا لقد كان خيارا، وليس اضطرارا أن ماكرون سلّح نفسه ضد الإسلام، وصنع منه عدوا في سبيل الاسترزاق والتكسب السياسي كي يجعله منصة رافعة له لولاية ثانية، وكي يقول لليمين المتطرف ها أنا ذا معكم في معسكر العداء لهذا الدين وأتباعه، وبالتالي لم تعد حملتكم ضدي مشروعة. كان بإمكانه أن يطرح خطابا عقلانيا، يجعل منه واسطة تمتص الرجات الكبرى في المجتمع الفرنسي، لا أن يطرح خطابا إقصائيا، يثير ارتدادات مجتمعية كارثية كالتي حصلت مؤخرا. كان الأفضل له وهو أحد واجباته الدستورية، أن يدرس العلاقة الملتبسة بين الدولة الفرنسية ومواطنيها المسلمين، وهي إحدى العلامات البارزة في السياسة الفرنسية منذ زمن بعيد وليس اليوم، التي يعود سببها الى أن هناك بُعدا ثقافيا استشراقيا يهيمن على فكر وسلوك الطبقة السياسية الفرنسية، ما يعيق إنتاج تعامل طبيعي مع الإسلام والمسلمين، بالطريقة التي تتعامل بها دول أوروبية أخرى مع مواطنيها المسلمين مثل، ألمانيا وبريطانيا وغيرها من الدول. لكن قد يقول البعض بأن كلامه عن الإسلام هو رأيه الشخصي، وهو توصيف خاص به دون غيره، غير أن هذا القول مردود على قائله، لأن ماكرون ليس مواطنا من عامة الناس قال رأيا على وسائل التواصل الاجتماعي، أو بين مجموعة من الاصدقاء. إنه رئيس دولة، ويمثل سلطة حكومية عليا لديها مسؤوليات قانونية في تحقيق الانسجام المجتمعي والسلم الأهلي. لقد راهن الرئيس الفرنسي على عودة الهيبة والقوة الناعمة الفرنسية على يديه، في الخطاب الأول حينما أصبح رئيسا لفرنسا. لكن يبدو أنه يريد، أن تكون هذه الهيبة والقوة داعمين له في إطلاق أحكام على دول وأديان يتبناها العالم من بعده، ويأخذها على أنها حقائق لا تقبل النقد أو النقض. لذلك قال عام 2017 إن افريقيا لديها مشكلة حضارية عنيدة، لان النساء الافريقيات يلدن كثيرا. وقبل عام تقريبا حاول أن يضع بصمة لفرنسا في فرض رؤيته على الرئيس الأمريكي لحلحلة الصراع الأمريكي الإيراني وفشل. وحاول أن يفرض حلا على اللبنانيين، كي يصبح المنقذ وفشل. ودخل في صراع مع تركيا في سوريا وشرق المتوسط وليبيا ولم يحصد شيئا، واليوم يقول إن الإسلام في أزمة في كل أنحاء العالم. أنه يريد أن يظهر للعالم عظمة فرنسا من خلال تحركات سياسية، وفرض أحكام جائرة، لكنه ينسى أن العالم لم يعد معنيا بما تقوله الامبراطوريات، التي عفا عليها الزمن. وإذا كان ماكرون قد نزل من أعلى السُلّم، وراح مبررا تصريحاته عن الإسلام، بأنها قد أسيء فهمها، وأن كلامه جرى تحريفه، كما جاء في حديثه الاخير الى قناة «الجزيرة» فإن الضرر، وقع على المسلمين في فرنسا، كما أن الضرر أصاب مواطنين فرنسيين أبرياء أيضا، وكل التبريرات لن تعفيه من المسؤولية السياسية والأخلاقية. فهو يقول في اللقاء (إن الرسوم الكاريكاتيرية ليست مشروعا حكوميا، بل هي منبثقة من صحف حرة ومستقلة وغير تابعة للحكومة) لكنه في حفل التأبين الذي أقيم في جامعة السوربون، قال صراحة وبكل وضوح إن فرنسا لن تتخلى عن نشر الرسومات الساخرة، ما أعطى انطباعا بتبنيه لها، فكان أن تم نشرها على المباني الحكومية الفرنسية، في حين أن العلمانية التي أكد عليها مرارا تمنع التعرض للأديان ورموزها وتدعو إلى عدم التدخل في الشأن الديني.
إن ما حذر منه صموئيل هنتنغتون من صدام الحضارات والثقافات والأديان قد بات حقيقة، فالعالم الإسلامي حضارته حضارة الكتاب، ولديه رسالة أخرى مختلفة تماما، ووظيفته مختلفة أيضا في الوضع الكوني، عكس الغرب الذي لم يعد كذلك منذ زمن بعيد. لكن الغرب مازال ينظر إلى المسلمين على أنه يتفوق عليهم بكل شيء، وهذا التفوق يعطيه حقوقا مضافة في الفكر، وفي ازدراء ثقافتهم وأسلوب حياتهم، بل حتى التهجم على مقدساتهم.
وسوم: العدد 901