أين الحضاريون في صدام الهمجيات الجاري؟

يا له من زمن قاتم مظلم! بينما كانت أنظار العالم منصبّة على الصراع الانتخابي الدائر في الولايات المتحدة على خلفية تخوّف معمّم من نشوب نزاع أهلي دموي في ذلك البلد، وهي خشية تظهر للمرة الأولى بهذه الحدّة منذ حرب الانفصال التي شهدتها أمريكا قبل قرن ونصف، لم يرد ما يصرف الأنظار عن الانتخابات الرئاسية تلك، ولو لوهلة فقط، سوى الهجوم العشوائي المجنون الذي شنّه في فيينا داعشيون (على ما يبدو عند كتابة هذه الأسطر) في أعقاب جرائم ذبح بشعة ارتكبها في فرنسا مسعورون آخرون من الطينة ذاتها. وكل سنة تمرّ ونحن أكثر غرقاً في ما أسميته «صدام الهمجيات» في مطلع القرن الراهن، في الكتاب الذي أصدرته إثر هجومات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001.

كتبت آنذاك: «لكل حضارة همجيتها: هؤلاء يقطعون الأعناق، وهي طريقة تقليدية للقتل في أفغانستان، نقلها إلى الجزائر قدامى الحرب ضد السوفيات، ورمزت إليها قطّاعات الكرتون التي استخدمها انتحاريو 11 سبتمبر؛ وأولئك «يقطعون الأقحوان» أي أنهم يقتلون بصورة كثيفة عن بُعد، بواسطة «قاطعات الأقحوان» وهي تسمية تُطلق على القنابل «التقليدية» (سبعة أطنان تقريباً) الأفظع فتكاً. هؤلاء يخطفون الطائرات المدنية لاستخدامها كصواريخ بغية قتل المدنيين؛ وأولئك يطلقون صواريخ كروز، في ضربات «جراحية» تشبه الجراحة مثلما يشبه المنشارُ الكهربائي مشرطَ الطبيب الجرّاح».

وأياً كانت نتيجة الانتخابات الأمريكية، التي نأمل أن تأتي بهزيمة لدونالد ترامب وحزب الجمهوريين الذي شطح بقوة نحو فاشستية جديدة مبنية على الكراهية العنصرية على غرار القديمة، فإن عصر «صدام الهمجيات» لن يتوقف ما لم تُطوَ صفحة النيوليبرالية التي مزّقت المجتمعات العالمية، بما فيها المجتمعات العربية، وعمّقت الهوّة الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء على نطاق العالم أجمع، وما لم تُطوَ معها صفحة قانون الغاب الذي أرسته واشنطن في العلاقات الدولية بانتهازها فرصة انهيار الاتحاد السوفييتي وانتقال العالم مؤقتاً من القطبية الثنائية إلى الأحادية القطبية، لتشنّ حرب توسّع إمبريالي في ما أسمته إدارة جورج دبليو بوش «الشرق الأوسط الكبير» وهي تسمية منافقة لجملة بلدان تمتدّ من آسيا الوسطى إلى المغرب الأقصى، ليس من قاسم مشترك بينها سوى أن غالبية سكانها من المسلمين.

من هذا المنظور جاء تعقيبي في الكتاب المذكور كما يلي: «كل عمل همجي، إذا جرى النظر إليه على انفراد، يمكن اعتباره قابلاً للإدانة على حدٍ سواء من وجهة نظر أخلاقية. فما من أخلاق حضارية يسعها أن تبرّر القتل المتعمّد، سواء أكان هادفاً أم عشوائياً، لغير المقاتلين والأطفال، وذلك سواء ارتكبه إرهاب دولة أم إرهاب غير حكومي. وهي فكرة مقبولة عموماً حين يتعلّق الأمر بقتل المدنيين عمداً بهدف إثارة الرعب. فينبغي قبولها أيضاً حين يكون مقتل المدنيين نتيجة، معروفٌ سلفاً أنها حتمية، لهجوم على مقاتلين لا تفرضه ضرورة قصوى. فإن تعبير «الأضرار الجانبية» الذي يطلقه البنتاغون على ضحايا قصفه المدنيين، فضلاً عن كونه تقليلاً وقحاً من خطورة قتل الأبرياء، ليس سوى محاولة خبيثة لتبرير أعمال القتل الناجمة عن اللجوء المتكرر إلى القوة العسكرية. وهي أعمال إجرامية بكل وضوح حين لا تكون الخيار الوحيد المُتاح، بل تفضي إلى القضاء على عدد من البشر أكبر من عدد الذين تتوخّى حمايتهم».

«ومع ذلك، فمن وجهة نظر الإنصاف، لا يمكن التحجّج بأخلاقية ما ورائية ترفض كل الهمجيات على حدٍ سواء: فلا تزن كلها الوزن ذاته في ميزان العدالة. طبعاً، لا يمكن استخدام الهمجية كوسيلة «دفاع مشروع» عن النفس: إنها دائماً غير مشروعة من حيث التعريف بها بالذات. ولكن يبقى رغم ذلك أن بين همجيتين متعارضتين، الأكثر إثماً هي همجية الطرف الأقوى، الذي هو في وضعية المضطهِد. فباستثناء حالة اللاعقلانية المؤكدة، تكون همجية الضعفاء في أغلب الأحيان، وبصورة منطقية تماماً، ردّ فعل على همجية الأقوياء، وإلّا فلماذا قد يستفزّ الضعفاء الأقوياء ويعرّضون أنفسهم للسحق؟ هذا هو أصلاً السبب الذي يجعل الأقوياء يحاولون إخفاء مسؤوليتهم بعزيهم إلى أعدائهم طبيعة مجنونة وشيطانية وحيوانية».

وبعد، فإن الإقرار بهذا الإنصاف الأخلاقي إنما يردّ كل همجية إلى حجمها النسبي بلا أن يغفر أو يبرّر لأي من الهمجيات بالتأكيد. لكنّ الهمجية على صراع مع الحضارة في كل المجتمعات، فإين الحضاريون، يا تُرى؟ نراهم في البلدان الغربية في صراع يتزايد حدّة وخطورة ضد أنصار الهمجية، جماعات الفاشستية الجديدة التي حلّ المسلمون محلّ اليهود في أعلى لائحة كراهيتها، يليهم السود كالمعتاد. ونراهم يحذّرون من استغلال الفظائع الشنيعة التي يرتكبها الهمجيون القادمون من منطقتنا أو المتأصلون منها، بغية شنّ المزيد من الاعتداءات الهمجية بحجة مقارعة الهمجية وبغية شدّ الخناق العنصري على المهاجرين المسلمين، وهو عين الهمجية شأنه في ذلك شأن شتّى أصناف العنصرية.

لكن أين الحضاريون في منطقتنا؟ أين إدانة الأعمال الهمجية التي يرتكبها مسعورون باسم الإسلام والتي تزكّي العنصريين المعادين للإسلام بتسهيل مهمتهم في تصويره كديانة تحرّض على العنف؟ طبعاً، ثمة أصوات ترتفع هنا وهناك في بلداننا، لكنّها تكاد تبدو وكأنّها نشاز بالمقارنة مع عدد الأصوات التي تبرّر العنف وتعتبر أن رسوماً سخيفة تستحق حملة عالمية قائمة على تسعير العصبية الدينية، بل وتشكّل ذريعة للذبح، سواء أكان ذبح الرسّامين، أو ذبح من عرض رسومهم، أو الذبح العشوائي في كنيسة، أو القتل الجماعي في ساحة عامة؟

إن منطقتنا في الحقيقة لا زالت تعيش عصر همجيّة تتذرّع بالدين، وهي همجية نشأت أصلاً في ردّة رجعية على زمن الأنظمة الدكتاتورية القومية التقدّمية، لكنّا ردّة كانت رجعية لأنها لم تردّ على الدكتاتورية بقدر ما ردّت على القومية والتقدمية، ردّة منبعها المملكة السعودية القائمة على تفسير للدين غارق في الرجعية، سعت وراء ترويجه في منطقتنا بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية سيّدتها وحاميتها. وإذا صحّ أن السحر ارتدّ على الساحر، فإنه أغرق منطقتنا بأسرها في ردّة فكرية همجية لن نخرج منها سوى إذا أفلحت السيرورة الثورية الإقليمية التي بدأت قبل عشر سنين في إحداث تغيير اجتماعي وسياسي جذري يعيد وضع بلداننا على سكّة التقدّم الحضاري.

وسوم: العدد 901