أعوذُ بالله من السلفيين!

محمد عبد الشافي القوصي

محمد عبد الشافي القوصي

[email protected]

(إذا لم يكن الدِّينُ خُلقاً دمثا، ووجهاً طلقاً، وروحاً سمحة،

وجواراً مريحا، وسيرة جذابة، فماذا يكون؟!) الشيخ/ محمد الغزالي؛"

تجولتُ كثيراً في أرض الله وبلاده، وشاهدتُ العواصم الباهرة، كلندن وباريس، كما تجولتُ في القرى والكفور الحزينة؛ مثل: كفر أبو سريع، ونجع الديب، ونزلة أبو كريشة! والسؤال الذي كان يطاردني به الناسُ هنا وهناك: ما هي السلفية؟ وهل هي حلال أمْ حرام؟ وما هي الأماكن التي توجد بها؟ وكيف نتعوَّذ منها؟ إلى غير ذلك من التساؤلات ..!

 أقول –وبالله التوفيق: مصطلح (السلفية) مصطلح مطَّاط، ومراوغ أيضاً .. فمنذ فجر التاريخ؛ كلِّ طائفة من الناس لها (سلف) تنتمي إليه، وترى أنه (سلفها)! كذلك كل جماعة من المسلمين لها (سلف) تنتمي إليه، وترى أنه (سلفها الصالح) ولكلِّ طائفة رجالها وعلماؤها ومحدِّثوها، ومرويَّاتها ودواوينها، ومنهجها في القَبول والردِّ، وفي التصوُّر عن الإله والإنسان، والنظرة إلى الكون والحياة .. وكلٌّ يزعم أنَّه على الحقِّ، وأنَّه منتسِب للصحابة الكرام! إذن؛ هناك (سلفيات) وليس (سلفًية واحدة)!

   أجل! كل إنسان هو سلفي، بمعنى أنَّ له سلفاً وماضياً ينتسب إليه، ويرجع له، لكن التفاوت يأتي من الخلاف حوله: مَنْ هو سلفك؟ وكيف تتعامل مع سلفك وماضيك؟ أتهاجر إليه؟ أمْ تستدعيه؟ تقلِّده؟ أمْ تجتهد فيه؟

   من هنا نعلم؛ أنَّ (السلفيات) ألوان عديدة، وأنَّ (السلفيين) أنواع كثيرة:

 فمنهم من يقلِّد السلف، وهؤلاء هم أهل الجمود والتقليد.

ومن السلفيين من يرجع إلى السلف فيجتهد في ميراثهم وتراثهم مميزاً فيه الثوابت عن المتغيرات، متجاوزاً الوقائع المتغيرة والعادات المتبدلة والأعراف المختلفة.

 ومنهم من يستلهم من فقه السلف ما يتطلبه فقه الواقع الجديد والمعيش.

 ومنهم من يهاجر من واقعه المعيش إلى واقع السلف الذي تجاوزه الزمن، وإلى تجاربهم التي طوتها القرون معاكسين بذلك سنَّة التطور، فيصبُّون الحاضر في قوالب الماضي!

ومن السلفيين من سلفه المذاهب والتيارات النصوصية الحرفية في تراثنا.

 ومنهم من سلفه تيارات العقلانية في تراثنا، أوْ النزعات الصوفية فيها.

ومنهم من سلفه عصر الازدهار والإبداع في تاريخنا الحضاري.

 ومنهم من سلفه عصر الركاكة والتراجع في مسيرتنا الحضارية.

 ومنهم من سلفه مذهب تراثي بعينه، يتعصب له، ولا يتعداه.

 ومنهم من سلفه تراث الأمة، على اختلاف مذاهبها يحتضنها جميعاً، ويعتز بها، ويتخير منها.

ومنهم من سلفه تراثنا وحضارتنا وهويتنا الوطنية والقومية والإسلامية.

 ومنهم من سلفه تراث الآخر الحضاري، ومذاهبه وتياراته الفلسفية والاجتماعية!

 وبهذا المعنى يمكن إدخال (الليبراليين) الذين يحتذون حذو الليبرالية الغربية، و(الماركسيين) الذين يحتذون حذو الماركسية الغربية، و(القوميين) الذين يحتذون حذو القومية الغربية، و(العلمانيين) الذين يحتذون حذو العلمانية الغربية .. في عداد السلفيين! الذين أصبح الموروث والماضي ومناهج النظر الغربية سلفاً لهم يحتذونه!

*   *   *

   على الرغم من شيوع السلفية وتعددها في مختلف العصور والحضارات؛ إلاَّ أنه في هذا العصر ظهرت جماعة احتكرتْ هذا المصطلح، واشتُهِرتْ به، وهم الذين غلَّبوا ظاهر النص؛ على الرأي والقياس والتأويل، وغيرها من سبل النظر العقلي، فوقفوا عند الرواية متجاهلين الدراية، وحرموا الاشتغال بعلم الكلام والفلسفة، وهؤلاء الذين يطلق عليهم (أهل الحديث) لاشتغالهم بصناعة المأثور وعلم الرواية، ورفضهم علوم النظر العقلي. فجعلوا ظاهر النصوص مرجع الدِّين الوحيد، رافضين ما عداها، ومفضِّلين ظواهر النصوص دون التفكير فيها، وما تحمله من رؤى عميقة، ودلالات عديدة، واشراقات بعيدة!

وقد كانت بداية ظهور هذا التيار في العصر العباسي، رداً على شيوع الفلسفة اليونانية. وكان (أحمد بن حنبل) إمام هذه المدرسة، فألَّف مسنده الشهير الذي جمع فيه كل مرويات الحديث النبوي، ومات قبل تحقيقها.

وقد ماتت هذه المدرسة واندثرت معالمها، ولم تقم لها قائمة، لدرجة أنَّ "أحمد بن حنبل" لا يوجد له أنصار في بلده العراق! لكن بعد مرور قرابة خمسة قرون ظهر(ابن تيمية) وتلميذه (ابن القيم) اللذان قاما بإحياء هذه المدرسة مرة أخرى، فجددوها، وطوروها. وبموتهما تصدعتْ أركان هذه المدرسة، وتلاشتْ معالمها. وبعد مرور ما يزيد عن خمسة قرون؛ ظهر (محمد بن عبد الوهاب النجدي) الذي تعصَّب تعصباً شديداً لآراء ابن تيمية، وتعاون مع صهره الأمير/ محمد بن سعود -مؤسس الدولة السعودية- فساعده على إحياء أفكار هذه المدرسة مرة أخرى! لكنها ظهرت سلفية بدوية أكثر خشونة من كل السلفيات التي سبقتها؛ بسبب بداوة البيئة، وفقرها الفكري والفلسفي! وتمَّ توظيف مؤسسات المال والإعلام، والترويج لها بمختلف الوسائل وكافة السبل .. مما ساعد في انتشارها من كهوف "تورا بورا" إلى أدغال أفريقيا ... وقد تفرعتْ منها سلفيات عديدة، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً.

فمن السلفية، سلفية ظلامية لعينة؛ بلغ بها الغلوّ حدوداً فاقت الخيال، فقامت بتكفبر أئمة السلفية أنفسهم، فمثلاً قالوا عن ابن القيم: "إنه زائغ، مبتدع، كذاب، وقح، بليد، غبي، جاهل، ضال مضل، خارجي، ملعون، كافر، بلغ في كفره مبلغاً لا يجوز السكوت عليه، ولا يحسن لمؤمن أن يغض عنه ولا أن يتساهل فيه، وفيه تصوف وابتداع، خصوصاً في كتابيه "مدارج السالكين" و"الروح"!

أمَّا ابن تيمية فقالوا عنه: "إنه لا تؤخذ منه أحكام الولاء والبراء .. ولقد سئمتُ من تتبع مخازي هذا الرجل المسكين، الذي ضاعت مواهبه في شتى البدع! ومن اتخذه إماماً إنما يتخذه إماماً في الزيغ والشذوذ". (راجع كتاب "القدوات الكبار بين التحطيم والانبهار" للدكتور/ محمد موسى الشريف. وهو ينقل هذه الآراء الظالمة عن كتب "براءة أهل السنة"، و"السيف الصقيل" و"تبديد الظلام المخيم على ابن القيم" و"المفردات").

*   *   *

   لا جَرَمَ أنَّ العلماء لمْ يألُوا جهداً، في التصدِّي لهذه الموجات الضالة، ومجابهة هذا السرطان الذي يتمدد في الحواري والكهوف والنجوع ... ففي العصر الحديث؛ انتقد الإمام/ محمد عبده السلفية الوهابية فقال: لقد قامت الوهابية زاعمة الإصلاح، وزاعمة أنها نفضت غبار التقليد، وزالت الحجب التي كانت تحول بينها وبين النظر في آيات القرآن ومتون الأحاديث، لتفهم أحكام الله منها .. لكنها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من اللفظ الوارد والتقيد به، بدون التفات إلى ما تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين، وإليها كانت الدعوة، ولأجلها منحت النبوة؛ فلم يكونوا للعلم أولياء، وللمدنية السليمة أحبّاء؛ بلْ كانوا أضيق أفقاً، وأحرج صدراً من المقلّدين ... فأيّ حاجة إلى قولهم: بهدم قبة النبيّ عليه السلام؟ والقول بكفر جميع المسلمين؟! والعمل على إخضاعهم بالسيف أوْ إبادتهم!

*   *   *

 وبعد الإمام/ محمد عبده؛ حمل الراية الشيخ/ محمد الغزالــــــي؛ فأبلى بلاءً حسناً في مكافحة الجامدين وآرائهم، فألجمهم بلجامٍ من نار، وأرسل عليهم حجارةً من سجِّيل! يقول الشيخ/ محمد الغزالي –رحمه الله: (إنَّ السلفية ليست فِرقة من الناس تسكن بقاعاً من جزيرة العرب، وتحيا على نحو اجتماعي معين، إننا نرفض هذا الفهم، ونأبى الانتماء إليه.

إنَّ السلفية نزعة عقلية وعاطفية ترتبط بخير القرون، وتعمِّق ولاءها لكتاب الله، وسنَّة رسوله، وتحشد الجهود المادية والأدبية لإعلاء كلمة الله دون نظر إلى عرق أوْ لون. على أن فهمها للإسلام وعملها له يرتفع إلى مستوى عمومه وخلوده وتجاوبه مع الفطرة، وقيامه على العقل.

وقد رأيتُ أناساً يفهمون السلفية على أنها فقه أحمد بن حنبل، وهذا خطأ، ففقه أحمد؛ أحد الخطوط الفكرية في الثقافة الإسلامية التي تسع أئمة الأمصار وغيرهم مهما كثروا.

وقد رأيتُ ناساً يفهمون السلفية على أنها مدرسة النص، وهذا خطأ، فإنَّ مدرسة الرأي كمدرسة الأثر في أخذها من الإسلام واعتمادها عليه. وقد كان من هؤلاء قد تسمّوا أخيراً بأهل الحديث، وسيطرت عليهم أفكار قاصرة في فهم المرويات، فأحدثوا في الحرم فتنة!

فالحديث النبوي ليس حكراً على طائفة بعينها، بلْ إنه مصدر رئيسي للفقه المذهبي كله!

ورأيتُ أناساً تغلب عليهم البداوة أوْ البدائية يكرهون المكتشفات العلمية الحديثة، ولا يحسنون الانتفاع بها في دعم الرسالة الإسلامية وحماية تعاليمها! فهم يرفضون الحديث في التلفزيون مثلاً، لأن ظهور الصورة على الشاشة حرام! وهم يتناولون العلوم الفلكية والجغرافية وغيرها بالهزء والإنكار! وهؤلاء في الحقيقة لا سلف ولا خلف، فأدمغتهم تحتاج إلى تشكيل جديد!

ورأيت أناساً يتبعون الأعنت الأعنت، والأغلظ الأغلظ من كل رأي قيل، فما يفتون الناس إلاَّ بما يشق عليهم، وينغِّص معايشهم، ويؤخِّر مسيرة المؤمنين في الدنيا، ويأوي بهم إلى كهوفها المظلمة! وهؤلاء أيضاً لا سلف ولا خلف، إنهم أناس في انتسابهم إلى علوم الدين نظر، وأغلبهم معتل الضمير والتفكير!

ورأيتُ أناساً يرفضون إلغاء الرقيق! فقلتُ لهم: ألاَ تعرفون أن هؤلاء العبيد هم أحرار أولاد أحرار! اختطفتهم عصابات النخاسة من أقطارهم، وباعتهم كفراناً وعدواناً ليكونوا لكم خدما، وهم في الحقيقة سادة؟! فما السلفية التي تقر هذا البلاء؟ وما هؤلاء العلماء الذين ضاقوا بسياسة الملك فيصل في تحريرهم، وإلغاء بيعهم وشرائهم؟!

ورأيتُ أناساً يقولون: إن آية (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) البقرة 190). مرحلية، فإذا أمكنتنا اليد، لا نبقي على أحد من الكافرين! فقلت: ما هذه سلفية! هذا فكر قطَّاع طرق، لا أصحاب دعوة شريفة حصيفة، وأولئك لا يؤمَنون على تدريس الإسلام لجماعة من التلامذة، بله أن يُقدَّموا في المحافل الدولية والمجامع الكبرى!

  وقد رأينا من يشتغلون بالحديث، ينقصهم الفقه، فيتحولون إلى أصحاب فقه، ثم إلى أصحاب سياسة تبغي تغيير المجتمع والدولة على نحو ما رووا ورأوا! إن أعجب ما يشين هذا التفكير الديني الهابط، هو أنه لا يدري قليلاً ولا كثيراً عن دساتير الحكم، وأساليب الشورى، وتداول المال، وتظالم الطبقات، ومشكلات الشباب، ومتاعب الأسرة، وتربية الأخلاق .. ثم هو لا يدري قليلاً ولا كثيراً عن تطويع الحياة المدنية وأطوار العمران لخدمة المثل الرفيعة، والأهداف الكبرى التي جاء بها الإسلام!

إنَّ العقول الكليلة لا تعرف إلاَّ القضايا التافهة، لها تهيج، وبها تنفعل، وعليها تصالح وتخاصم)!

*   *   *

   لا أجدُ شيئاً أقوله بعد كلام -الشيخ الغزالي- وبيانه الساحر! فقد أجمل وأوجز، وأماط اللثام عن خدعة "السلفية" ومراميها!

  من هنا نعلم؛ سر ظهور المصطلحات المراوغة في المجتمعات المتخلِّفة! وسبب انتشار مليشيات الدجَّالين والمخادعين والمتاجرين باسم الدِّين في الأوساط قليلة الثقافة، وعديمة الفهم!

  وليس كتابي الأخير(أزمة العقل السلفي) سوى تكملةً لمسيرة الأئمة والعلماء الأبرار، ومبايعةً لنهجهم، واحتفاءً بجهودهم، ووفاءً لسيرتهم ... وما مثلي ومثلهم؛ إلاَّ كمثل السائر في ظل القمر، مهتدياً بنوره .. فلولاه ما عرف السماء من الأرض، ولا عرف البحر من اليابسة!