عندما أعلنت الإمارات الأقصى هيكلاً!
لم يكن المقدسيون يتخيلون في أسوأ كوابيسهم أن يأتي يوم يرون فيه جهةً عربيةً تتبنى اسم "الهيكل الثاني" بديلاً للمسجد الأقصى المبارك وتقدمه علناً.
ولكن المحظور وقع بالفعل، وفاجأتنا شركة طيران الاتحاد، الناقل الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة، والمملوكة بالكامل لحكومة أبو ظبي، بإعلانٍ ترويجي لرحلاتها بين أبو ظبي وتل أبيب، ظهرت فيه شخصيةٌ تمثل مضيفةً في طيران الاتحاد تروج للمعالم السياحية و"الثقافية" لإسرائيل، وعن يمينها كانت تظهر صورة للمبنى الذي تروج له الجماعات الصهيونية المتطرفة على أنه "المعبد اليهودي الثاني" الذي تتخيل أنه كان موجوداً في مكان المسجد الأقصى المبارك خلال العصر الروماني، والذي تحلم تلك الجماعات ببنائه بنفس هذا الشكل المُتَخيَّل مكان المسجد الأقصى بعد هدمه.
إضافةً إلى ذلك، حرص مصممو هذا الإعلان على إضافة صور لبلدة القدس القديمة، التي تقع شرقي القدس، على أنها من المعالم الثقافية والحضارية لإسرائيل، ضاربين عُرض الحائط بالقرارات الدولية والإجماع الدولي كافةً -الذي شذّت عنه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب- على أن شرقي القدس المحتل عام 1967 ليس جزءاً من دولة الاحتلال الإسرائيلي، وأن الاحتلال الإسرائيلي فيها غير شرعي. هذا عدا بالطبع عن تصوير الطعام الفلسطيني الأصيل على أنه إسرائيلي!
شركة طيران الاتحاد اكتفت بحذف هذا الإعلان الترويجي من جميع منصاتها الإلكترونية والإعلامية بعد أن جوبهت بموجة استنكار ضخمة في العالم العربي والإسلامي، ولم تنشر أي توضيح أو اعتذار عن هذا الفعل، وهو ما يشي بأن ما أقدمت عليه هذه الشركة في هذا الإعلان لم يكن مصادفةً ولا خطأ! بل كان مقصوداً ومصمَّماً بعناية لإيصال رسائل محددة إلى العالم العربي والإسلامي، وربما لاختبار رد الفعل الشعبي العام عليه.
هذا الأمر جعل المراقبين يتساءلون عن سر هذا الاندفاع الغريب لدولة الإمارات نحو اليمين المتطرف الإسرائيلي -لا نحو الحكومة الإسرائيلية- وسبب تبنيها الشرس والمبالَغ فيه لكل ما يمثله اليمين المتطرف في دولة الاحتلال من آيديولوجيا وثقافة متشددة ومعاديةٍ لثقافة الشعوب العربية والإسلامية وعقيدتها التي عاشت عليها أكثر من ألف وأربعمئة سنة، لتصل الأمور إلى المسّ بالمسجد الأقصى المبارك بشكل مباشر، على الرغم من أن هذه النقطة بالذات -حتى من الناحية السياسية- تضرّ الأردن، أحد أهمّ الحلفاء في المنطقة، إذ تمسّ الوصاية الأردنية الهاشمية.
في الحقيقة لا يمكن فهم هذا التحول الإماراتي الكامل في سياق المصالح السياسية والاستراتيجية لدولة الإمارات، فالإمارات كان لها مواقف كثيرة قوية في دعم القضية الفلسطينية في عهد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وكانت استراتيجية وعقيدة الإمارات السياسية واضحةً في هذا الشأن خلال تلك الحقبة، فما الذي تغير؟
شكّلت ثلاثة عناصر أساسية أساس التحول في رؤية وتوجهات دولة الإمارات في فترة ما بعد وفاة الشيخ زايد عام 2004 وصعود نجم ولده محمد بن زايد بعد مرض أخيه رئيس الدولة الحالي الشيخ خليفة بن زايد، أول هذه العناصر كان تراكم الثروة المرهون بنوعٍ محددٍ من التحالفات التي شكّلها الشيخ زايد خلال فترة حكمه. وفي ما بعد وفاة الشيخ زايد ساد الخوف من أن أي تبدلٍ في هذه التحالفات يمكن أن يهدد هذه الثروة، لا سيما في إمارة أبو ظبي التي تُعَدّ الأغنى والأقوى والأكبر بين الإمارات السبع التي تشكّل الاتحاد. وهذا ما أدى -في نظر أبناء الشيخ زايد- إلى ازدياد الاندفاع باتجاه هذه التحالفات الاستراتيجية المركزية في بدايات الحكم الجديد.
والعنصر الثاني الذي أسس لهذا التحول هو صعود الشيخ محمد بن زايد على حساب بقية الأمراء، فهو الشخصية الأقوى بين أبناء الشيخ زايد، وأدى مرض أخيه إلى صعوده بسرعة إلى الساحة السياسية لكونه ولي عهد أبو ظبي. وجاءت الأزمة المالية العالمية عام 2008 لتزيح من أمامه منافسه الأقوى، إمارة دبي، التي كانت أكثر الإمارات معاناة من الأزمة المالية العالمية بسبب اعتمادها على المضاربات والصفقات العقارية القائمة على الائتمان، فقامت إمارة أبو ظبي بعملية إنقاذ شملت شراء أصولٍ كبيرةٍ لدى مجموعة دبي العالمية التابعة لحكومة دبي، واشترت ديون دبي البالغة في ذلك الوقت نحو 80 مليار دولار، وبذلك أصبح الشيخ محمد بن زايد يملك القرار فعلياً في أنحاء الدولة كافة.
أما العنصر الثالث فيتمثل في تطلع إماراتِ محمد بن زايد إلى دورٍ إقليميٍّ أوسع، وإن كان لا يتناسب مع حجمها، إذ كانت رؤية محمد بن زايد في هذا الصدد تقوم على أساس التحول إلى وكيل إقليمي للولايات المتحدة بدلاً من مصر، ولذلك دعم الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكومة المصرية المدنية المنتخبة عام 2013، بحيث جعل هذا الانقلاب مصر تابعةً فعلياً للإمارات. وهذا التطلع هو في الحقيقة ترجمةٌ عملية لشخصية محمد بن زايد وطموحاته الشخصية.
إن شخصية الشيخ محمد بن زايد، كما بينتها تقارير أمريكية وأوروبية حاولت تحليل شخصيته وعقيدته، تقوم على أساس العداء الشخصي التامّ والكامل للإسلام السياسي الذي تمثّله الجماعات والأحزاب والحركات السياسية ذات التوجه الإسلامي، لا سيما جماعة الإخوان المسلمين، إذ بدأت إمارات محمد بن زايد الجديدة استهدافهم في مختلف أنحاء الدولة بمجرد إحكامه السيطرة على شؤون البلاد مع بداية فترة ثورات الربيع العربي، وبدأت توجهاته المعادية لهذه الحركات السياسية تتضح أكثر مع صعود الإخوان في مصر، مما أدّى إلى الانقلاب العسكري الذي ذكرناه آنفاً، والذي موّله بالكامل الشيخ محمد بن زايد.
على أن هذه السياسة المتشددة التي يتخذها الشيخ محمد بن زايد تجاه كل ما يتعلق بالإسلام السياسي وما يمثله من رموز أصبحت تتسم بالمبالغة الشديدة لتصل حالياً إلى الفكر الإسلامي نفسه، فمحمد بن زايد يرى الإسلام من منطلقِ معاكَسةِ ومناكفةِ أي فكرةٍ أو رمزيةٍ تنادي بها أو تحترمها الحركات الإسلامية التي يعاديها جميعاً مهما كانت هذه الفكرة أو الرمز، وإن كانت من الثوابت التي تمس المسلمين جميعاً، مثل قدسية القدس ومكانة المسجد الأقصى المبارك.
وهو يحاول ضرب كل توجه إسلامي لا يوافق رؤيته، لأنه يشعر أن هذا التوجه قد يعني بالضرورة الاتفاق -ولو جزئياً- مع حركات الإسلام السياسي التي يكرهها شخصياً. وهذه الرؤية على ما فيها من سطحية فإن مآلاتها خطيرة، لأنها جعلت الشيخ محمد بن زايد يحول مناكفته للحركات الإسلامية إلى تحالفٍ شاملٍ مع أقصى اليمين المتطرف في أوروبا وفي إسرائيل باعتبار أن "عدو عدوي صديقي".
لكن ذلك أوصله إلى التحريض حتى على المسلمين غير المؤدلجين بشكل عامّ في أوروبا، وعلى مؤسساتهم التي ترعى مصالحهم وشؤونهم، بمعنى أنه وضع نفسه في الخانة المقابلة للمسلمين في الغرب عموماً، وتحديداً في خانة اليمين المتطرف.
والحقيقة أن معاداة الشيخ محمد لكل ما يمثل الإسلام السياسي من رموز تطورت مع الزمن، بحيث انتقل من خانة من يرى نفسه حليفاً عضوياً في تيار مواجهةِ الإسلام السياسي، إلى خانة من يبحث عن أن يصبح عضواً فعلياً في طبقةِ حكمٍ عالميةٍ هي اليمين الشعبوي. فهو بذلك أصبح يرى حلفاءه يتمثلون في سياسيين من أقصى اليمين المعادي للإسلام مثل ترمب وكوشنر وماكرون، وهذا ما يعني أنه سيحتضن أي فكرةٍ معاديةٍ للفكر الإسلامي عموماً -وليس بالضرورة الإسلام السياسي- في العالم مهما كان موقعها لأنه أصبح يرى نفسه عضواً في هذه الطبقة الحاكمة.
وبما أن السياسة الجديدة للإمارات لا تخرج فعلياً عن كونها تمثل شخص محمد بن زايد لا استراتيجية الدولة ورؤيتها السياسية القائمة على مصالحها، فإن انسياق ساسة دولة الإمارات العربية المتحدة وراء هذه الرؤية الأوتوقراطية لشخص الشيخ محمد يجعل الدولة نفسها في مواجهة ثوابت يتفق عليها خمس سكان الكرة الأرضية. وهذا ما يجعل الإمارات تسير على طريق خطير تختار فيه أن تكون طرفاً في مواجهة عقيدة الشعوب العربية والمسلمة في مختلف أنحاء الكرة الأرضية، إذ ليس من المعقول أن يقف العالم كله في وجه إساءات فرنسا للنبي صلى الله عليه وسلم وتنبري الإمارات للدفاع عنها، وليس من المفهوم أن تضع الإمارات نفسها في مواجهة الشعوب العربية والمسلمة -بما فيها شعب الإمارات- في مسألة حساسة جداً كالمسجد الأقصى المبارك، فتعلن ببساطة تبنّيها رؤية اليمين الصهيوني المتطرف، وتظن أن بإمكانها أن تشطب اسم الأقصى وتضع مكانه "المعبد الثاني" بجرة قلم، فهي بذلك تضع نفسها في منزلق خطير لا يمكنها التعامل مع مآلاته داخلياً وخارجياً.
وسوم: العدد 904